مملكة أوغاريت.. خلاصة تاريخ الممالك القديمة
أكدت المكتشفات واللقى الأثرية أن سورية تعتبر من أهم مواطن الحضارات في الشرق، فعلى سبيل المثال قدّم موقع الكرم في البادية السورية عدة أدلّة على قيام السوريين القدماء بممارسة الزراعة المرويّة بإتقان عبر جرّ المياه من الينابيع أو الأنهار (نهر الفرات) وهو من أوائل المواقع التي دجّنت الحيوانات أيضاً، وعمد السوريون الأوائل على تكييف الأوساط الطبيعية المتاحة لتلائم احتياجاتهم فقد قام سكان هذه المواقع بمعالجة ملوحة التربة واستصلاحها وتجفيف المستنقعات ولعل استخدامهم لتقنيات الري الصناعي حتّمت نشوء سلطة مجتمعية وبنى اجتماعية متطورة، وأدّى الاستقرار الذي أمّنته حياة الزراعة إلى ابتكارات وتقنيات جديدة في جميع المجالات وهو ما أسهم في تأسيس القاعدة المادية الاجتماعية لنشوء المدن الأولى، والتفت السوريون إلى الإبداع والتميّز وهي صفة انتقلت خلال الجينات والمورّثات من جيل إلى جيل عبر آلاف السنين حتى غدت من الصفات التي لازمت السوريّين حتى اليوم.
بلغت مملكة أوغاريت شأناً عالياً ومرموقاً ووصلت إلى قمة ازدهارها في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد. يحدّ أوغاريت من الغرب البحر الأبيض المتوسط وتمتد باتجاه الشرق حتى سلسلة الجبال الساحلية ومن الشمال يحدها جبل الأقرع ومن الجنوب يحدّها نهر السن، وتتألف أوغاريت من قسمين: المدينة العليا (الأكروبول) التي كانت توجد فيها القصور والمعابد، والمدينة السفلى وهي مخصصة للأحياء السكنية والأسواق التجارية، وبهدف الدفاع والتحصين فقد أحيطت المدينة بسور دفاعي ضخم لصد الهجمات وحماية المدينة، وقد أبرم ملك أوغاريت «نقميبا» معاهدة لترسيم الحدود مع الملك الحثي «مورشيلي الثاني» وهو يعكس الحالة السياسية المتقدمة التي كانت تتمتع بها أوغاريت في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وتذكر الوثائق والمخطوطات التي تم العثور عليها في مملكة ماري زيارة آخر ملوك ماري «زميري ليم» في العام 1765 ق. م لأوغاريت، كما تضمنت المخطوطات رسالة من ملك أوغاريت إلى ملك يمحاض في حلب يرجوه فيها أن يطلب من ملك ماري أن يسمح له بزيارة قصر ماري الذي كان ذائع الصيت في ذلك الوقت، وهذا يدل على حرص أوغاريت على إقامة علاقات طيبة مع ملك ماري ويدل أيضاً على حرص أوغاريت أن تكون هذه العلاقة بمعرفة ملك يمحاض القوي.
عثر في مملكة أوغاريت على آلاف الألواح الطينية التي تدلّ على المكانة المتميّزة التي احتلتها أوغاريت والدور المهم الذي لعبته في عصر البرونز الحديث أي نحو 1200 ق. م وهو دور أساسي في تاريخ منطقة شرق البحر الأبيض المتوسّط، وتتضمن تلك الألواح الطينية وثائق مكتوبة بخط مسماري وباللغة الأكّادية التي يمكن اعتبارها اللغة الفصحى على حين كانت لغة أوغاريت هي اللهجة المحلية، ونقشت على تلك الألواح نصوص يتضح من خلالها سيادة القانون في أوغاريت وحرص ملكها على إدارة أمور المملكة السياسية والاقتصادية والاحتفاظ بقرار الحرب والسلم كما تضبط العلاقات بين الناس وتركّز على احترام التقاليد والأعراف السائدة في تلك الفترة، وساعدت تلك الوثائق على قراءة تاريخ أوغاريت وعلى التعرف إلى أوضاعها الاجتماعية والمالية والسياسية والفعاليات الثقافية فيها كما تضمنت تلك النصوص الرسائل التي كان الملك يرسلها وتدل على ذكاء وفطنة في إدارة البلاد وفرض الأمن والسلام، كما تتضمن بعض المعاهدات والاتفاقيات التي قام بها ملك أوغاريت مع ملك العموريين.
ومن أشهر ملوك أوغاريت «نيقمادو الثاني» 1360 – 1330 ق. م وابنه الملك «نيقميع» الذي استلم الحكم من 1324 – 1274 ق. م، وساعدها موقعها على ساحل البحر الأبيض بالانفتاح على حضارات الآخرين فكوّنت علاقات جيدة مع الشعوب والأمم المجاورة وأسّست لثقافة قبول الآخر واحترام العيش المشترك. كوّنت أوغاريت علاقة جيدة مع الممالك المحيطة بها فكانت تربطها مع حضارة مصر القديمة علاقات طيبة على المستويات الثقافية والتجارية، بل كانت من أهم حلفاء ملوك مصر الذين كانوا بدورهم يرسلون لها الهدايا ويختارون لها أفضل السفراء ويحرصون على استخدام أخشاب أشجار غابات جبال الساحل السوري في صناعة السفن التجارية كما نشطت التبادلات التجارية مع شواطئ إيجة وقبرص.
بلغت مملكة أوغاريت أوج ازدهارها مابين القرنين الرابع عشر والثاني عشر قبل الميلاد وعلى عدة مستويات وأصبحت تعتبر بجد من أقوى وأهم الممالك السورية القديمة التي قامت في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وتعتبر بحق بوابة الشرق نحو الغرب وعاصمة التجارة العالمية إذ تعددت أوجه النشاط الاقتصادي في أوغاريت وتنوعت مابين الزراعة والصناعة والتجارة وتربية المواشي والأسماك والطيور والصيد، فقد ارتبط أبناء أوغاريت بالزراعة بشكل كبير نظراً لخصوبة أراضيها الزراعية وتراكمت لديهم نتيجة لذلك خبرة زراعية كبيرة، حيث بينت بعض الوثائق المكتشفة فيها وجود خبرات نادرة في المنطقة كلها وتخصص عدد منهم بعملية تلقيح النخيل كما انتشر صيد الأسماك على طول ساحل أوغاريت، وكذلك فقد مارس أبناء أوغاريت تدجين الحيوان وانتشرت فيها تربية الأغنام والأبقار والثيران التي كانوا يستخدمونها في الأعمال الزراعية حيث ذكرت بعض وثائقها معلومات عن الثروة الحيوانية كما اشتهرت بتربية الخيل وترويضها لجر العربات الحربية، وشكّل استثمار الغابات مورداً لابأس به في اقتصاد أوغاريت ومما ساعد في ذلك كثافة الغابات وغناها بالأشجار المتنوعة وعلى امتداد الإقليم الجبلي للساحل السوري وافتقار المناطق المجاورة لأوغاريت للغابات مثل بلاد الرافدين ووادي النيل أو انعدامها بشكل كامل، وبذات الوقت جودة الأخشاب السورية واحتلالها مكانةً مهمة حيث انتشر في تلك الفترة استخدام الخشب في بناء المساكن وصناعة السفن، ومما شجّع أبناء أوغاريت على العمل بالزراعة خصوبة أراضيهم وغزارة الأمطار والأوضاع المناخية ووجود الأنهار والينابيع وانتشار الأشجار بكثافة في الجبال المحيطة بأوغاريت.
أما في الصناعة فقد امتلكت أوغاريت العديد من مقومات الصناعة ومواد الخام الزراعية والحيوانية ولم تقتصر الصناعة فيها على نوع معين أو حرفة واحدة بل شملت جميع الصناعات القديمة المعروفة، وكانت مركزاً لعدد من الصناعات ذات الشهرة الواسعة في ذلك الوقت مثل صناعة المنسوجات الصوفية والمنسوجات الحريرية المصبوغة باللون الأرجواني الذي كان رائجاً في الساحل السوري، كما اشتهرت أوغاريت بصناعة الخزف والأواني الفخارية المخصصة للاستخدامات المنزلية وصناعة الأحجار الكريمة والمعادن الثمينة كالذهب والفضة وصهر النحاس والقصدير وصناعة العاج المأخوذ من أنياب الفيلة التي كانت تعيش في سورية في الألف الثاني قبل الميلاد وتم العثور خلال التنقيبات الأثرية على كثير من القطع العاجية كانت خاصة بالملك الأوغاريتي، وشكلت صناعة الحجر حرفة جيدة ومهمة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية حيث استخدمت في بناء القصور والبيوت والمعابد كما استعملت الحجارة بنحت الأعمال الفنية وكانت لها علاقة بالطقوس الدينية (تماثيل، توابيت..) إضافة إلى المراسي البحرية التي تتألف من بلاطات كبيرة منحوتة بشكل مستطيل أو مقوّس، كما استخدم حجر البازلت في صناعة رحى طحن الحبوب، وعثر في أوغاريت على أدوات حجرية صغيرة من المرمر كانت تستخدم كأدوات الزينة والجواهر والأختام الأسطوانية والتماثيل الصغيرة.
وازدهر قطاع الصناعة في أوغاريت ازدهاراً كبيراً وبلغ درجة متقدمة من التنظيم والرقي حيث أدت زيادة عدد السكان في المملكة وتوسّع مساحتها إلى زيادة الطلب على المصنوعات إذ ضمت مملكة أوغاريت في بداية القرن الخامس عشر قبل الميلاد أكثر من مئة قرية وزاد عدد سكانها على ستين ألف نسمة، وهذا أدى بدوره إلى زيادة عدد الصنّاع والحرفيين وتنوّعت منتجاتهم تبعاّ لاحتياجات وأذواق الزبائن، وأدّى ذلك إلى المنافسة بينهم سواء كان ذلك من حيث جودة المنتج وتميّزه أم بالسعر، وبدأ الحرفيّون بتشكيل تجمعات وأسواق تخصصية وتبعا لذلك ظهرت الحاجة لتنظيم العمل ضمن هذا القطاع وتأطيره فتم تشكيل تنظيمات حرفية أشبه بالنقابات الحرفية حالياً وإن كانت بشكل بدائي، إذ يرأس كل تجمع حرفي أكثر الصنّاع شهرةّ وشعبيةً بين زملائه وكانت من ضمن مهامه حل المشاكل التي قد تحدث بين الحرفيين أنفسهم من جهة وبينهم وبين الزبائن من جهة أخرى.أما في التجارة فقد دفع ازدهار الصناعة والزراعة وتربية الماشية والثروة الحيوانية وزيادة الإنتاج باتجاه تطور التجارة وتصريف المنتجات المحلية واستيراد المواد الخام اللازمة للتصنيع المحلي وهذا ما دفع الأوغاريتيين للبحث الدائم عن أسواق جديدة لتصريف بضائعهم، وساعدهم في ذلك موقع أوغاريت على الساحل حيث هيأ لها هذا الموقع لتكون محطة للبضائع القادمة من الشرق إلى الغرب أو العكس ومن الجنوب إلى الشمال وبالعكس، ووصلت منتجات أوغاريت إلى قبرص ومصر والأناضول وبلاد الرافدين. وبالنتيجة يمكننا القول إن الموقع الجغرافي المميز لأوغاريت على الساحل السوري والبيئة الغنية التي أحاطت بها انعكس إيجاباً على مختلف نواحي الحياة وجعلها بحق عاصمة التجارة العالمية في تلك الفترة البريّة والبحريّة.
عكس فن أوغاريت تميّزاً وخصوصيةً واستطاع أبناء أوغاريت أن يصهروا في بوتقتها فنون حضارات بلاد مابين النهرين والمشرق القديم وأضافوا إليها من فنونهم وإبداعهم وخبرتهم التراكمية الشيء الكثير.
علي المبيض
إضافة تعليق جديد