مطابخ سورية لازالت عامرة

الجمل ـ بشار بشير : من عمر اليومين أو الثلاثة  يبدأ الإنسان في طلب الغذاء ولا يتوقف بعدها , وعبر حياته وحضاراته ينتقل من طلب الغذاء إلى طلب الطعام , والطعام هو حالة أكثر تطوراً وأكثر تعقيداً من الغذاء , بعض الحضارات استطاعت أن تبدع في تنويع طعامها فأصبح عندها "مطبخ" يضم تشكيلات متنوعة من الطعام . هل يمكن إعتبار المطبخ جزءا من التطور الحضاري أو جزءا من الإرث الحضاري كغيره من الإنجازات والعلوم والفنون التي تنتجها حضارة ما ؟ الجواب نعم بالتأكيد . فإلى حد ما المطبخ هو رأس الهرم في التطور الحضاري فهو دليل واضح على حالة رخاء طويلة الأمد مترافقة مع وجود خيرات وغلال و بحبوحة إقتصادية مع حالة إبداعية وذوق مرهف يوازي الذوق المطلوب لتطوير الفنون , مع الرغبة المترافقة مع الإمكانيات لدى أغلب المجتمع  لتدليل الذات .
ترتبط الحضارة الإنسانية بالزراعة وأولى الحضارات الإنسانية تشكلت  في المنطقة التي  نشأت فيها القرى الزراعية الأولى في سورية منذ حوالي عشرة آلاف سنة . على مدى قرون بعد أن بدأ الإنسان السوري يزرع ويحصد و يخزن الغلال كان هناك تطوير لنوع الغذاء الذي يتناوله تطوير مستمر يعتمد على الملاحظة والتجربة و محاولة تلبية الإحتياجات والحفاظ على التنوع بشكل دائم بغض النظر عن المواسم الزراعية . وبالتأكيد أن هذا التيار التطويري المستمر قد شهد طفرات وقفزات في بعض الأزمنة التي سادت فيها ممالك وعروش غنية وباذخة وتعتبر أن مائدة الملك تُعبر بشكل أو بآخر عن عظمته وعن تقدمه .
عشرة آلاف سنة من التطور أوصلت المطبخ السوري إلى مانعرفه اليوم , أكثر ما فيه هو من إبداع السوريين وهو أبو كل المطابخ المجاورة منحها وأثر عليها أكثر بكثير مما أخذ منها وتأثر بها , وأولى الأخطاء التي يقع فيها السوريون حول مطبخهم هي القول بأن أكثره مأخوذ من المطبخ التركي , هذا خطأ كبير فالترك هم في الأصل أقوام من البدو الرحل الذين يعتمدون في غذائهم بشكل رئيس على لحوم مواشيهم لذلك فقد برعوا في طبخ وحفظ اللحوم من التلف عن طريق التقديد و التبهير مثل الشاورما و القاورما والبسطرما وربما النقانق وما شابهها . وهم من أخذ  من المطبخ السوري ( سواء من سورية مباشرة أو من اليونان )  ثم أعادوا تصديره لنا بأسمائه التركية الجديدة .
أبدع السوري ,الذي كان محظوظاً لعيشه في منطقة خصبة متنوعة الغلال والثمار وكثيرة القطعان والطرائد, في الإستفادة من كل ما منحته إياه الأرض من غذاء وأقول أبدع لأنه أستطاع أن يتجاوز زمنه بكثير ليولف تركيبات غذائية أصبحنا بواسطة علوم اليوم نعرف مدى فائدتها وتناسقها على الصعيد الصحي . فالمطبخ السوري ورغم توفر اللحوم في بيئته بشكل كبير لم يعتمدها كأساس للغذاء فهي مجرد إضافات على الطعام , (تُزاد قطع من اللحم على أنواع الطعام الذي يعتمد على المكون النباتي) . أما الأكلات التي تعتمد على اللحم لوحده فهي قليلة وموسمية مثل اللحمة المشوية مثلاً التي تُطبخ في المناسبات , وحتى في هذه لا تؤكل اللحمة وحدها بل توضع قطع اللحم المنتقى بعناية ( دليل الدقة في إختيار ما سيوضع في الفم ومن ثم المعدة ) مع بعض قطع الدهن النظيف بجانب قطع البصل والبندورة و قرون الفليفلة , في توليفة مبدعة تضم البروتين والشحوم المفيدة مع مذيبات الكوليستيرول ومانعات الأكسدة . يتأكد الفهم العلمي لمكونات الطعام من خلال أكلة أخرى هي الكبة المشوية حيث تضاف حبات الرمان إلى أقراص الكبة المشوية وذلك لتحييد  وإذابة الدهن أو الشحم الذي يعتبر مكون أساسي لقرص الكبة منعاً للضرر الصحي .
كل ما تنتجه الأرض تم ابتداع طرق لطهوه ليس لمجرد تحويله إلى غذاء وإنما لتحويله إلى طعام لذيذ طعماً وشكلاً , اختُرع العديد من الطرق لحفظ المكونات الرئيسية للطعام كالتجفيف والحفظ بالزيت والحفظ بالسكر وهي طرق صحية ومفيدة وأفضل من التقديد والحفظ بواسطة البهارات بعض طرق الحفظ كانت مبدعة للإستفادة من بعض المكونات خارج موسمها بما يحقق أفضل فائدة غذائية وصحية أيضاً , المكدوس مثالاً حيث يتم حفظ ثمرة صيفية ذات قيمة غذائية عالية جداً لكي تستهلك في الشتاء , مع إضافة الثوم والجوز لها وهما رافعان للمناعة و مكافحان لأمراض الشتاء بالإضافة لزيت الزيتون الذي يعتبر أفضل أنواع الدهون التي يمكن أن يستهلكها الجسم . في كل طبخة نجد هذا الإبداع الذي يضم لذة الطعم مع رقي المكونات وتناغمها ذوقياً وصحياً وفي كثير من الأحيان يضاف جمال المنظر مثل اليبرق ( ملفوف ورق العنب ) والمحاشي على أنواعها و الكبب . ثمرة الباذنجان تشهد على إبداع المطبخ السوري , هذه الثمرة ذات القيمة الغذائية العالية والتي تحتوي على أفضل الدهون النباتية تم استغلالها للحد الأقصى , يكاد يكون من الصعب حصر الطرق التي يتم طهوها واستهلاكها بها وهي طرق تحوي مفارقات في بعض الأحيان فالباذنجان يصنع منه المخلل الحامض والمربى الحلو ويؤكل مشوياً ومقلياً ومسلوقاً و تضاف له مكونات متنوعة تكاد تكون أعجوبة , يضاف له اللبن والطحينة واللحمه والجوز والثوم والسكر و رب البندورة والرز وغيرها , أحصيت إحدى عشرة طبخة تعتمد على الباذنجان ولا أدري هل هناك المزيد .
رغم الوفرة والبحبوحة الواضحة في المطبخ السوري إلا أنه مطبخ يقدر النعمة ويحترمها فلا يبذر ولا يفرط ويستفيد من كل الموجود , السوريون مثلاً لا يرمون من ذبيحة الخاروف شيئاً فهي تُؤكل كلها إذ لكل عضو طبخة تستعمله مهما بدا غير صالح للأكل , و يُستخدم جلدها وحتى قرونها تستعمل مقابض للسكاكين ( أحد الظرفاء اقترح تسجيل صوت الخاروف وإستعماله كرنة للهاتف وهكذا نكون قد استعملنا الخروف بنسبة مئة في المئة ). هناك طبخة شامية نعرفها كلنا هي الفتة أو التسقية أعتبرها مثالاً رائعاً على تقدير وحفظ النعمة ففيها يتم إستعمال الخبز القديم بدل رميه مع الزيت الغير جيد للإستهلاك المباشر قيحول إلى " فقسة " أي (يُصبَّن) ويضاف للمكونات الحمص وهو بروتين نباتي لتخرج الفتة كطبخة متكاملة مغذية مفيدة وتستفيد من مكونات كان مصيرها الإهدار .
قمة الرقي في الطبخ هي الكبب والمحاشي وهي أكلات من إبداع المطبخ السوري وتستحق أن تتربع على رأس الوجبات العالمية وأظن أن ما يمنع هذا هو تقصيرنا نحن السوريين عن ترويجها من جهة وتعقيدها وصعوبة صنعها من جهة أخرى , وقمة الترف في المطبخ هي الحلويات حيث لا نجد منافساً للمطبخ السوري فما بين الحلويات الشامية والحلويات الحلبية يتعب من يريد العد والإحصاء ( حاولت إحصاء عدد أنواع الحلويات السورية وكان الرقم مذهلاً رغم أني متأكد أني لم أحصيها كلها ) وأغلب هذه الحلويات تعتمد مكونات راقية وصحية كالجوز واللوز والفستق والقشدة الطبيعية متفوقة بذلك على الحلويات الأوروبية التي تعتمد على مكونات رخيصة و غير صحية وسريعة التلف مثل قطع مربى الفواكه و مخفوقات الحليب أي الكريما وهي قشدة غير طبيعية .
الكبب بأنواعها ( يتباهى أهل حلب بأنهم يطبخون أربعون نوعاً من الكبة ) والمحاشي بأنواعها وخاصة ملفوف ورق العنب ( اليبرق ) و أنواع المنزلات وعلى رأسها منزلة الباذنجان و من بعدها الكثير من الطبخات السورية  كالبامية  مثلاً , و الكثير من المقبلات كمتبل الباذنجان والبابا غنوج و المسبحة (مسحوق الحمص مع الطحينة) و التبولة , وكثير من "الحواضر" كالمكدوس واللبنة أي اللبن المصفى ( حتى الثمانينات لم يكن الغرب يعرف اللبنة وهي أكلة بسيطة رخيصة مغذية وصحية جداً ) وأنواع أخرى كثيرة من الطعام السوري يلحق بها عدد كبير لدرجة مذهلة من الحلويات كل هذه هي طبخات و أطعمة تستحق أن تتربع على رأس ما أنتجه الإنسان عبر تاريخه  من طعام ليتغذى به أولاً وليعبر من خلاله عن إبداعه وذوقه ورقيه الحضاري .
المطبخ السوري أحد أكثر المطابخ الإنسانية تنوعاً وتعقيداً وهو برأيي يتبوأ المركز الأول بين عدد محدود من المطابخ التي استطاعت الحضارات الإنسانية أن تنتجها كالمطبخ الصيني والمطبخ الهندي و المطبخ الياباني و المطبخ الفرنسي وإلى حد ما المطبخ الإيطالي ( ولنلاحظ هنا أن أمماً عظمى لم تستطع أن تطور مطبخاً حضارياً متكاملاً خاصاً بها كالألمان و المصريين والأنكليز والإسكندنافيين وغيرهم ). ومطبخنا هو إنجاز حضاري يحق لنا أن نفتخر به ويستاهل أن نحاول نشره في أنحاء العالم ليكون شاهداً على حضارة وعبقرية السوري كبقية الشواهد الحضارية من الزراعة إلى الدولاب وهو أعظم إختراع إنساني على الإطلاق إلى المنجل إلى الأبجدية وهي أروع وأبدع إنجاز إنساني  إلى النوتة الموسيقية إلى النقود .. إلى أن نعجز عن تعداد ماقدمت هذه البقعة الجغرافية للإنسانية والتي بسبب هذا كانت ولا زالت محط الأطماع , والتي استطاعت أن تستوعب وتهضم وتهزم كل من حط فيها زائراً أو مقيماً أو غازياً , ربما هذه إحدى إبداعات مطبخنا حيث يستطيع إضافة كل هؤلاء إلى مكونات طبخاته .