مسلسل تصفية علماء العراق بدأ قبل أزمة أسلحة الدمار الشامل
في سلسلة الكوارث الوطنية المتتالية في العراق منذ وقوعه في قبضة الاحتلال والصراعات الداخلية عام 2003، تبرز الاغتيالات المتتالية للكوادر العلمية باعتبارها أحد أشد الملفات قتامة وإيلاماً. ويصعب على كثير من أبناء بلاد الرافدين، إضافة الى متابعي الشأن العام في ذلك البلد، ألا يروا في الأمر استهدافاً يقصد منه إضعاف الواقع الوطني، وضرب «واسطة العقد» في الثروة البشرية للشعب العراقي، وسد آفاق النهوض والتنمية في وجهه. والمعلوم ان النظام التعليمي في العراق كان بين الأفضل في المنطقة العربية، ما رفد البلاد بشريحة أكاديمية ذات مستوى متقدم. ولكن بعد الاحتلال الاميركي للعراق انقلبت الأمور رأساً على عقب، وما يرد في وسائل الإعلام يومياً يبيّن ان الآثار والتداعيات السلبية التي ترتبت على الاحتلال الاميركي للعراق لم تقتصر على المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل شملت الحياة العلمية والفكرية في هذا البلد.
ويتحدث بعض الخبراء عن حرق 84٪ من مؤسسات التعليم العالي أو نهبها أو تدميرها، بعد الاحتلال الاميركي، إضافة الى استهداف العلماء والخبراء العاملين في مجال الأسلحة الكيماوية والجرثومية، واغتيال عدد كبير من أساتذة الجامعات والأطباء والمدرسين وغيرهم أو خطفهم.
واستناداً الى معلومات وزارة التعليم العالي العراقية، بلغ عدد القتلى في قطاع التعليم 155 اختصاصياً على الأقل منذ عام 2003، فيما أشارت احصائيات أخرى الى اغتيال 315 عالماً. وتحدثّت إحصائية دولية صدرت أخيراً عن اغتيال أكثر من 100 عالم عراقي خلال السنتين الأوليين من الاحتلال.
تثير هذه الظاهرة أسئلة عن أسباب استهداف الكوادر العلمية بالذات، سواء من جانب الولايات المتحدة أم من جانب بعض الجماعات الإرهابية داخل العراق. ووصف الصحافي البريطاني الشهير روبرت فيسك هذه القضية الشائكة قائلاً: « يشعر اعضاء الهيئات التدريسية في جامعات العراق بوجود مخطط لتجريد ذلك البلد من علمائه وأكاديمييه، لاستكمال تدمير الهوية الثقافية للعراق في أعقاب احتلاله عام 2003». ويتضح من هويات العلماء المقتولين أن الأمر لا يدخل ضمن الانتماء الطائفي أو الحزبي، كما أنه يتعدى التخصص الأكاديمي، إذ ينتمي المقتولون إلى تخصصات متنوعة (علوم، طب، هندسة، زراعة، تاريخ، جغرافيا، علوم دينية، واللغات). ولاحت البوادر الأولى لظاهرة اغتيال العلماء العراقيين مع ملاحقة العلماء والخبراء الفنيين العاملين في برامج التسليح العراقية، الذين استهدفهتم بعض أجهزة الاستخبارات، على غرار تصفية رئيس البرنامج النووي العراقي، الاختصاصي المصري يحيى المشد في عملية وُجهّت فيها أصابع الاتهام الى جهاز «الموساد» الاسرائيلي. وبعد سقوط بغداد هرب عدد من هؤلاء العلماء إلى الدول المجاورة وبخاصة سورية خوفاً من الاستهداف الأميركي لهم.
ونجحت القوات الأميركية في اعتقال بعض العلماء ممن عملوا في برامج اسلحة الدمار الشامل في عهد صدام حسين، ومنهم هدى صالح مهدي عماش، الخبيرة في علم البكتيريا، والتي يسميها الإعلام الغربي باسم «سيدة الجمرة الخبيثة». بينما سلم بعضهم نفسه طواعية إلى القوات الأميركية خشية القتل كما حدث مع المستشار العلمي للرئيس المخلوع الفريق عامر السعدي، وتبعه الدكتور جعفر ضياء الدين الذي يعد الأب الروحي للبرنامج النووي العراقي.
الجدير ذكره ان قضية النخبة المتعلمة لا تقتصر على حقبة الاحتلال الأميركي فحسب، ففي أواخر تشرين الاول عام 2002 كتب مارك كلايتون المحرر في صحيفة «كريستين ساينس مونيتور» يحذر من العقول المفكرة التي تقف وراء المخزون العراقي من الأسلحة». وبعد أن قدّم لائحة بعدد من علماء العراق الذين تدربوا في الولايات المتحدة قال: «إن هؤلاء العلماء والفنيين أخطر من أسلحة العراق الحربية، لأنهم هم الذين ينتجون هذه الأسلحة».
وعدد كلايتون نقلاً عن خبراء قرابة 15 من كبار الخبراء النوويين العراقيين قال إنهم تدربوا في الولايات المتحدة ضمن خطة تعليمية وضعها النظام السابق لتدريب العلماء وتأهيلهم في الخارج.
ونقل عن الدكتور كاري كبير مفتشي الأسلحة السابق في العراق قوله إنه أثناء زيارة لجامعة ميتشيغان في «آن آربور» عام 1993 اكتشف أنه بعد حرب الخليج بقي كثير من الطلاب العراقيين ملتحقين بجامعات أميركية لدراسة الفيزياء والهندسة النووية. وأنه أثناء إلقائه محاضرة أمام عدد من طلاب صف التخرج في الهندسة النووية كانوا يملأون الغرفة، دهش عندما وجد هناك حوالى 12 طالبًا عراقياً.
ووجد باحثون في جامعة جورجيا في أتلانتا أنه خلال الفترة من 1990 إلى 1999، مُنحت 1215 شهادة دكتوراه في العلوم والهندسة لطلاب من 5 من الدول السبع المصنفة من وزارة الخارجية الأميركية على أنها دول ترعى الإرهاب، بما يمثل 2 في المئة من الشهادات التي منحت لطلاب من مواليد دول أجنبية. ونال العراقيون 112 شهادة دكتوراه في العلوم والهندسة، ومن هؤلاء كان هناك 14 طالبًا يدرسون مواضيع حساسة كالهندسة النووية، أو الكيماوية، أو البيولوجيا المجهرية. وذكر في حينها ان اكثر من 7350 عالماً عراقياً تحولوا من العراق الى دول أوروبية والى أميركا وكندا وغيرها. واذا كان الأميركيون يهابون من علماء البيولوجي والفيزياء في العراق، ويسعون الى توظيفهم في اميركا فالجماعات المسلحة تهدف الى نشر الجهل أولاً وأخيراً، وتضرب العمود الفقري في المجتمع العراقي.
خلاصة القول إن ظاهرة استهداف الكوادر والكفاءات العلمية العراقية تعتبر احد التحديات الخطيرة التي تواجه الحكومة العراقية في الوقت الراهن خصوصاً في ظل استمرار حال الفوضى الأمنية وانتشار العنف، بعدما كان عمل هذه الكوادر من المزاعم التي غزت بسببها الولايات المتحدة بلاد الرافدين بحثاً عن أسلحة نووية غير موجودة.
رؤى الحجيري
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد