مجلة «شعر» في رسالة دكتوراه
حازت الكاتبة المغربية دنيا بورشيد شهادة الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية في باريس بعدما ناقشت أطروحتها أمام لجنة تكوّنت من المشرف لوك دوهوفيلز، وعضوية كل من هنري عويس وصبحي البستاني ومونيكا روكو. وحصلت على مرتبة الشرف الأولى، وسمحت لها اللجنة بطبع الأطروحة والتصريح بالنشر.
وعنوان الأطروحة هو: «مجلة «شعر» اللبنانية وأحد رموزها أنسي الحاج: فهرسة وتحليل لمضمون مجلة «شعر» ودراسة لإبداع أنسي الحاج الشعري». تتمحور الأطروحة التي كتبتها بورشيد بالفرنسية، حول قطبين من أقطاب الحداثة الأدبية العربية: مجلة «شعر» والشاعر أنسي الحاج.
وترى الباحثة ان انكبابها سابقاً ضمن دراستها لنيل شهادة الدراسات المعمقة DEA، على ابداع أنسي الحاج الشعري، ساعدها على اكتشاف العالم الفاتن والثري لمجلة «شعر» اللبنانية التي أنشأها يوسف الخال عام 1957، وهي لا تزال الى يومنا المرجع المميز لمغامرة أدبية طليعية، لا نظير لها في طموحاتها الحداثية. وبما أن بورشيد اكتشفت أن ما من مكتبة عربية فهرست هذه المجلة المهمة وأن الأمر يستوجب الاطلاع على أعدادها الأربعة والأربعين سعياً الى التعرف على هوية كتابها والموضوعات التي جرت معالجتها فقامت بفهرسة المجلة بكاملها.
وسمح تحليل مضمون مجلة «شعر»، من جهة، بفك رموز الحياة الأدبية والفكرية لتلك الفترة والتعرف على المشكلات الجمالية التي تميزها، ومن ثم رصد المسائل الرئيسة التي ميزت وجود مجلة «شعر» وأدت بخاصة الى توقفها الموقت 1964 ثم الى توقفها النهائي 1970. وسمح تحليل مضمون المجلة أيضاً بتوضيح موقع أنسي الحاج في تحريرها ودوره في مناقشاتها الأكثر احتداماً ودرجة التفاعل بين الشاعر والمجلة وأثر المجلة في مسيرة أنسي الحاج التالية.
وترى أن مجلة «شعر»، بصفتها موقع رصد حقيقياً للإبداع الشعري في العالم (خصوصاً عبر شبكة مراسليها) ومختبراً حقيقياً للتجريب والتفكير في الحداثة الشعرية العربية، والمجلة كانت مهمومة بالشعر أولاً وأخيراً. والمجلة هذه بإعلائها من شأن حرية الإبداع والفكر وبتشجيعها للتجارب الجديدة الأكثر جموحاً (بخاصة قصيدة النثر والكتابة بالعامية العربية، أي بما يسمى باللغة المحكية) انما تتمايز تمايزاً حاسماً عن كثيرات من أخواتها – وبينها، خصوصاً مجلة «الآداب» (1953) التي دعت الى طليعية ملتزمة – ثم، برغبتها في ادارة ظهرها لأي التزام ايديولوجي وتبنيها لهوية متوسطية (بل انسانية عالمية) وبدعوتها الى الفصل الحاسم بين الإبداع الأدبي للشاعر والتزامه السياسي، وهو ما لم يكن من شأنه أن يجعلها ذات شعبية في سياق عربي قوامه النضالات القومية في سبيل الاستقلال والأزمات المتعاقبة منذ قيام اسرائيل.
ولعل معالجة مجلة «شعر» وعمل أحد رموزها، الشاعر أنسي الحاج، بعيداً من أن تنحصر في فهرسة عادية لمجلة أو في دراسة وحيدة الموضوع عن شاعر، انما تسمح باستيعاب حقل شعري كامل يمتد من آخر خمسينات القرن العشرين الى الآن. والواقع أن تحليل مجلة «شعر» ودراسة عمل الشاعر انما يكشفان عن تمفصلات وتفاعلات، بل عن تلاقيات، بأكثر من معنى.
وفي شكل موازٍ، تفسح مجلة «شعر» صفحاتها لأنسي الحاج (وهو آنذاك في مطلع الشباب، اذ يصل عمره بالكاد الى عشرين سنة). واعتباراً من العدد الثاني (ربيع 1957)، ينضم الحاج الى المجلة بصفته ناقداً، في البداية، ثم مترجماً وشاعراً. وتتيح مجلة «شعر» لأنسي الحاج فرصة إلقاء أو تقديم قصائده النثرية الأولى في ندوة «خميس شعر»، وتفتح له أبواب دارها حيث سينشر مجموعتيه الأوليين «التقويضيتين» من حيث الشكل والموضوع، ألا وهما مجموعة «لن» (1960) ومجموعة «الرأس المقطوع» (1963). وأخيراً، فإن أنسي الحاج إنما يعد، بين نواة تحرير مجلة «شعر»، أحد الشخصيات النادرة التي رافقت حركتها، على رغم العقبات، الى نفسها الأخير (1970).
وترى الباحثة أن التكامل والتماسك في مسيرة أنسي الحاج الشعرية انما يبقيانه على اتصال وثيق بمسيرة مجلة «شعر»، وبروحها الأصلية. فأنسي الحاج، يظل أكثر من أي شاعر آخر من شعراء المجلة، انما يظل مرتبطاً بالمجلة وروحها، على مستوى واحد مع مؤسس المجلة يوسف الخال. فأنسي الحاج، منذ تقديم مجموعته «الهدّامة» الأولى التي نشرتها دار «شعر»، ثم في مقابلاته الصحافية ومقالاته في «النهار»، وفي بنية قصائده نفسها، لا يتوقف عن الإشارة الى أن الشعر الحديث انما يقتفي أثر نبرة الذات الكاتبة. فإيقاعه سيكون ايقاعها ونَفَسه سيكون نَفَسها وقلقه وتشوشه وانعدام تماسكه سيكون قلقها وتشوشها وانعدام تماسكها. على أن تحليل مجموعات أنسي الحاج الست، في الوقت نفسه الذي يكشف فيه عن فرادة عالم هذا الشاعر الخيالي، وتماسك عمله بعيداً من تشظّيه الظاهر، انما يكشف عن عدد من وجوه تحرّر الشاعر من مجلة «شعر» بعد توقفها. فالواقع ان مما له دلالته أن أنسي الحاج ينشر، بعد سنة من توقف «شعر» في العام 1964، مجموعة «ماضي الأيام الآتية» التي تتمايز على نحو ظاهر عن الكتابة الهدّامة المتمثلة في «لن»، وأن سنة الاختفاء النهائي للمجلة (1970) تسجل صدور مجموعة أنسي الحاج الرابعة «ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة» التي تدل في شكل حاسم على تحول كتابة الحاج الشعرية.
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد