"ماو تسي تونغ" تحت سكين النقد
تقع الكتابات التي تتناول تاريخ التجربة الشيوعية، اجمالا، بين حدين متناقضين، يتسم الأول بالتشديد على اهميتها وانجازاتها وفرادتها، وهو ما تميزت به كتابات ما قبل انهيار التجربة الاشتراكية مطلع تسعينات القرن الماضي، فيما يتسم الحد الثاني بموقف عدائي من التجربة ولا يرى فيها سوى سلبياتها. كانت كتابة تاريخ كل بلد اشتراكي ترتبط بالصراع على السلطة وبرؤية القيادة المنتصرة التي تعمد الى الغاء ادوار القادة الآخرين ومنع ايراد اسمائهم الا بما يسيء الى دورهم وموقعهم. مما يعني ان الكتابات الرسمية وشبه الرسمية للتجربة لا تعطي القارىء فكرة موضوعية حول الايجابيات والسلبيات. بعد انهيار التجربة وزوال الديكتاتوريات في اكثر من مكان، خرجت اصوات ناقذة ومحللة للنظرية الشيوعية وللسلطة التي ترتبت عليها في المعسكر السوفياتي او الصيني، منها ما جاور الموضوعية، ومنها ما اتصف بعدائية شديدة. في هذا السياق يمكن النظر الى كتاب "ماو تسي تونغ، القصة المجهولة" لكاتبيه يونغ تشانغ وجون هوليداي، والصادر لدى "دار النهار"، ترجمة نقولا شرفان واوديت نحاس ينيّه. يصنّف الكتاب في خانة العداء المطلق لشخص ماو، إذ يحمّله مآسي الشعب الصيني الذي كبدته حوالى 70 مليون قتيل. تجدر الاشارة الى ان الكاتبة نفسها (يونغ تشانغ) كانت وعائلتها من ضحايا سياسة الثورة الثقافية الصينية في ستينات القرن الماضي.
يلقي الكاتبان الضوء على مراحل تاريخية من تطور الصين، من خلال تتبع اعمال ماو وسياساته منذ انتسابه الى الحزب الشيوعي الصيني، فيريان خيطاً ناظماً لمسلكه قبل الوصول الكامل الى السلطة في تشرين الاول 1949، وبعد تمكنه من السيطرة على الصين حتى وفاته عام 1976. وهو مسلك اتسم على الدوام بالانتهازية، والانانية، وتصفية كل مخالف لرأيه او لسلطته، وبانعدام المسؤولية، والاستئثار بالامتيازات، وبالغدر والطعن برفاقه، واللجوء الى اساليب غير شرعية للاحتفاظ بالسلطة. هكذا قرأ الكاتبان مراحل صعود ماو عاماً بعد عام ومرحلة بعد مرحلة.
في المرحلة الممتدة من عام 1920 حتى عام 1949، اي من بداية انتسابه الى الحزب الشيوعي، تميز ماو بالانانية والتركيز على مقولات العنف حيث كان يردد دائماً "يجب ان يهدم البلد ويعاد تكوينه"، وهو عنف لم يأخذه من النظريات بمقدار ما كان ينبع من طبائعه. وخلافاً لما هو شائع عنه في الكتابات الرسمية او الغربية التي روّجت له مثل الكاتب الاميركي ادغار سنو، لم يكن ماو يعمل شيئاً لتنظيم العمال والفلاحين، كما لم يكن يشعر بأي تعاطف معهم. بدأ صعوده في الحزب من خلال التزامه خط موسكو وحماسته لها، في وقت كانت القيادة السوفياتية تسعى الى خلق ثورات في بلدان العالم وتأمين المساعدات اللازمة للاحزاب الشيوعية المتكونة آنذاك. تجلى ولاؤه لموسكو عندما استجاب طلبها دخول عناصر شيوعية الى حزب القوميين (الكوفيتانغ) والتحالف معه. ظهر في تلك المرحلة تلميذاً مطيعاً لستالين الطامح الى السيطرة على الصين والعامل على املاء سياسات شخصية على الحزب الشيوعي الصيني.
في موازاة سعي ستالين الى السيطرة على الصين، كان ماو ساعياً ليكون الزعيم الاول داخل الحزب الشيوعي من خلال تنفيذ سياسة موسكو او عبر اطلاق نظريات "ثورية"، متشبهاً بماركس ولينين. اطلق في تلك المرحلة شعاره الشهير "السلطة في فوهة البندقية" الذي تحول لاحقاً الى "انجيل" لحركات التحرر في العالم وبوصلة للكفاح المسلح ضد الاستعمار، وكان له اثر كبير في فكر اليسار الجديد في بلدان العالم الثالث. في سعيه للوصول الى السلطة في الحزب وفي المقاطعات التي استولى عليها الشيوعيون، خاض ماو اول مرحلة من تطهير الحزب، فتسبب بإعدام عدد من الشيوعيين بتهمة معاداة الشيوعية، وعبر استخدام تعابير ستالينية جرى اعتمادها في تطهير الحزب الشيوعي السوفياتي، مثل "فلاح ثري"، او "تروتسكي" او معادٍ للبولشفية. ادار ماو المقاطعات التي سيطر عليها الحزب بالرعب والارهاب، وتميز برفضه العمل في اطار قيادة جماعية، وابعد كل من لا يدين له بالطاعة، معتمداً في ذلك على علاقته بموسكو التي كانت ترى فيه "القائد السياسي الموثوق به والمجرّب" للحزب الشيوعي الصيني.
عشية الحرب العالمية الثانية وخلالها، كان ستالين يرغب في جر اليابان الى داخل الصين وخوض الحرب معها هناك. طلب الى الحزب الشيوعي الصيني وقف عدائه لحزب القوميين بقيادة تشان كاي تشيك بل اعتباره حليفاً للشيوعيين. تردد ماو في استجابة طلب ستالين وسعى الى عدم زج جنوده في الحرب بحجة عدم القدرة على هذه المهمة، وهو ما تسبب بخلافات مع ستالين الذي اتهمه بانه متآمر مع "مجموعة بوخارين" وانه "زعيم التروتسكيين في اعمق موضع في الحزب الشيوعي الصيني". لكن ماو زوّر التاريخ لاحقاً ولفّق اسطورة ان الحزب الشيوعي الصيني كان القوة الأكثر تفانياً في مناهضة اليابان. وعند انتهاء الحرب العالمية الثانية بهزيمة اليابان وانتصار الاتحاد السوفياتي، رأى ماو ان موازين القوى الدولية المقبلة ستتيح له القضاء على حزب القوميين والامساك بالسيطرة الكاملة على الصين. لذلك استبق تحقيق هذا الانجاز بحملة على معارضين في الحزب متهماً اياهم بالتروتسكية والتجسس لمصلحة حزب القوميين، فنظم حملة ارهاب تحت حجة البحث عن الجواسيس اخضع فيها الاعضاء الى امتحانات فكرية، ومارس ضدهم الواناً من التعذيب، وحوّل الشباب الى مجموعات آلية. ترافقت هذه الخطوات مع بناء ماو صورة لنفسه باعتباره معبود الجماهير، واعاد كتابة تاريخ الحزب بما يناسب اهواءه، وعقد مؤتمراً للحزب تحت عنوان "سر الى الأمام تحت راية ماو تسي تونغ".
تواصلت اساليب ماو السلطوية في المرحلة الحاسمة الثانية من مسيرته الحزبية والتي تمثلت بإعلان نفسه حاكماً مطلقاً على الصين عند اعلان انتصار الثورة الصينية وقيام "جمهورية الصين الشعبية" في تشرين الأول عام 1949. بدأ خطواته الجديدة بإلغاء المحاكم القانونية واستبدالها بلجان الحزب، وضيّق الخناق على كل تعبير سياسي للمعارضة، والغى الحريات على الاصعدة كافة في الخطاب والحركة والعمل والمعلومات، وتوّج ذلك عام 1950 بإطلاق حملة في ارجاء الصين لقمع مناهضي الثورة كلفت ثلاثة ملايين قتيل ماتوا اعداماً او بالعنف الجماعي او بالانتحار.
بدأ حلم توسيع نفوذ الصين نحو العالم الواسع يدغدغ ماو، فعمل على ترويج نظرية مفادها "ان الطريق الذي سلكه الشعب الصيني هو الطريق نفسه الذي يجب ان تسلكه شعوب العديد من البلدان المستعمرة ونصف المستعمرة، وان الكفاح المسلح يجب ان يكون الشكل الرئيسي لأي نضال". بدأت اهداف ماو وطموحاته تلاقي غضباً من ستالين الذي لم يقبل توسع ماو عالمياً من دون موافقته، وغضبه ايضاً من ترويج ماو في الاعلام المحلي والعالمي عن ادخاله تحسينات واضافات على الماركسية اللينينية بما يجعله متفوقاً نظرياً على ستالين.
لكن ماو المدرك تحفظات ستالين، مارس سياسة تملق وانتهازية واظهار الولاء والخضوع له، وذلك رغبة في مساعدة ستالين له لبناء آلة حرب بمستوى عالمي وتحويل الصين قوة كبرى، وهذه مسألة تتطلب اسلحة وتكنولوجيا لن يوفرها سوى الاتحاد السوفياتي. ساعد اندلاع الحرب الكورية عام 1950 ودخول الصين فيها في تقوية موقع ماو في وجه ستالين، ترجمه بمطلب مساعدة الصين في بناء قنبلة ذرية.
بعد وفاة ستالين، اطلق ماو برنامج تحويل الصين قوة عظمى، ووضع خطة اطلاق التصنيع وبناء مصانع اسلحة، وسعى الى مصادرة المؤن والطعام من الفلاحين لتوظيفها في خدمة برنامج القوة العظمى، وهذا ما تسبب بالمزيد من افقار الفلاحين. لكن ماو سيصطدم هذه المرة بخصم اصعب من ستالين الا وهو خروتشيوف الذي نظر سلبا الى ماو منذ البداية ورأى فيه جنون عظمة: "اعتقد ماو نفسه رجلا ارسله الله لينشر مشيئة الله". وشهدت العلاقة بين البلدين اندلاعا للصراع الصيني - السوفياتي الذي شمل مطالب الصين من روسيا، ومبدأ التعايش السلمي مع المعسكر الرأسمالي والطريق السلمي الى تحقيق الاشتراكية الذي قالت به موسكو ورفضه ماو. لكن موقع الصين تعزز عند تمكنها من تفجير اول قنبلة نووية في تشرين الاول 1964.
بعد قيام الدولة الشيوعية حتى بدء الثورة الثقافية منتصف الستينات، مارس ماو سياسة داخلية متعددة الجانب. اطلق شعار "فلتزهر مئة زهرة"، عنوانا لنهوض الصين، وارفقه بخطة "القفزة الكبرى" للحصول على ارتفاع كبير في الحصاد، لكن معظم المشاريع اصابها الفشل فتسبب ذلك بخسارة ضخمة من الموارد الطبيعية والجهود البشرية. تلازمت الخطوات الاقتصادية مع التطهير داخل الحزب الذي استهدف هذه المرة المفكرين والمثقفين تحت عنوان "مناهضة اليمينية"، فنشر الخوف في صفوف رجال الدولة الكبار عبر تهديدهم بتصنيفهم "يمينيين" في حال معارضتهم برنامج "القوة العظمى"، كما أجبر القادة على ممارسة نقد ذاتي هو اقرب الى الجلد الذاتي واقرارهم بارتكاب اخطاء. عززت هذه السياسات المزيد من عبادة الشخصية والذات لماو حيث ارتفع هذه المرة شعار "العمر الطويل للرئيس ماو".
شكلت سنوات الثورة الثقافية في منتصف الستينات ابشع المراحل التي شهدتها الصين. فبعد سياسة "القفزة الكبرى" التي كبّدت الشعب الصيني من الضحايا حوالى 38 مليون مواطن فاقمت هذه الثورة الثقافية الاعداد بالملايين. قادت الثورة الثقافية زوجة ماو وزوجة لين بياو، المنظّر الاساسي لها، والذي اخترع "الكتاب الاحمر الصغير" الذي يحوي مجموعة اقوال قصيرة اطلقها ماو لتعليم عقيدته. انشأ ماو مكتبا جديدا سماه "المجموعة الصغرى للثورة الثقافية"، واختار هذه المرة الشباب في المدارس والجامعات للقيام بعمليات التطهير تحت اسم "الحراس الحمر". هكذا انطلقت الثورة الثقافية بالطلب الى الحرس الاحمر ادانة الاساتذة والمسؤولين عن التعليم لأنهم يسممون عقول الناس بأفكارهم البورجوازية. وانتقلت الثورة الى استهداف الثقافة والاوصياء عليها والدعوة الى سحق الثقافة القديمة. لتحقيق ذلك اقتحم الحرس الاحمر المنازل واحرق الكتب ومزق الرسوم وحطم كل ما له علاقة بالثقافة او يرمز اليها. ومن اجل محو الماضي من اذهان الناس، عمد الحرس الاحمر الى تدمير منزل كونفوشيوس واتهامه بأنه "العدو المنافس لفكر ماو تسي تونغ". بعد ذلك تحول التطهير الى الجيش تحت عنوان القضاء على "مؤيدي الرأسمالية في الجيش" فطال الغالبية الساحقة من ضباطه بعد اخضاعهم للاهانة والاذلال. كلفت الثورة الثقافية مقتل ثلاثة ملايين مواطن ماتوا بطرق مختلفة، وافتضح امرها عندما تكشفت عن صراع واضح على السلطة هدف ماو منها القضاء على رجالات الدولة في الحرس القديم خاصة رئيس الدولة ليو شاو تشي، ورئيس الوزراء تشو ان لاي، ووزير الدفاع لين بياو.
بعد موت ماو عام 1976، شهدت الصين تحولات ومراجعات لسياسة ماو كان ابرزها نقد الثورة الثقافية واعتبارها من الاخطاء الكارثية التي تسبب بها ماو. جرت ملاحقة ابرز رموزها ولاسيما زوجته وما سمي بـ"عصابة الاربعة"، وأعيد الاعتبار الى كثير من الذين لحقهم الاضطهاد. لكن الابرز يبقى ان التاريخ لم يشهد لمقولات ماو النظرية ولتطبيقاتها السياسية، بل شهد لانهيار هذه المقولات. تكرّس التعايش السلمي بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، وفشل اطلاق ثورة عالمية مركزها البلدان المتخلفة وجماهيرها التي رأى فيها ماو عنصر التحول الثوري ومفتاحه على الصعيد العالمي، كما لم يمكن نقل مقولة حرب الشعب الطويلة الامد لتعتمدها حركات التحرر. اما الفشل الاكبر فهو لنظرية ماو التي شكلت اساس ثورته الثقافية والقائلة بخلق "انسان اشتراكي" ذي طبيعة بشرية مختلفة عن الانسان الذي تكوّن في ظل الثقافات الاقطاعية والبورجوازية وفق المفهوم المادي في تصنيف البشر.
لا تزال التجربة الاشتراكية التي قامت على امتداد القرن العشرين تخضع لدراسات ونقد في اكثر من مكان. يجري التركيز على الاسس النظرية التي وضعتها الماركسية والمبادىء التي دعت اليها باعتبارها المفتاح في فهم ما حصل من تكوّن لدول توتاليتارية وسيطرة ايديولوجيا الحزب الواحد الذي يختزل الشعب ويحتكر الحقيقة، وصولا الى تكريس الامين العام مختزلا الشعب والحزب، وهذا تسبب في عبادة الشخصية لدى ابرز قائدين للتجربة الشيوعية، اي ستالين وماو.
ما يحض على قراءة التجربة أكثر، انها اعتمدت نظرية قامت في الاساس على الدعوة الى "الغاء استغلال الانسان للانسان" والسعي الى تحقيق سعادته وتأمين الحرية والعدالة والمساواة بين ابناء البشر، ونشر الديموقراطية قاعدة لادارة الحكم. ادى وضع النظرية موضع التطبيق الى اعتماد وسائل الغت الحياة السياسية واحتكر فيها الحزب السلطة، وجرت تصفية المعارضين واعتمد العنف والارهاب طريقا للتغيير وتكريس السلطة، ونصب الحزب نفسه حاملا للحقيقة. وبديلا من قيام مجتمعات عادلة تحقق المثل التي دعت اليها النظرية، شهد التاريخ قيام ديكتاتوريات وانظمة قمعية مطلقة. لذلك سيظل التاريخ يسجل ان التجربة التي قامت باسم الانسانية والدفاع عن قيمها قد تسببت بأكبر المجازر في التاريخ الحديث وادت الى سقوط مئات الملايين. فاذا كانت القيم والمبادىء التي قالت بها النظرية لا تزال تحتل موقعها في سلّم المثل والاهداف التي يسعى البشر اليها، الا ان وسيلة الوصول الى تحقيقها والطريق الذي سلكته يحتاجان الى اعادة نظر جذرية وشاملة والافادة مما افرزته التجربة من نتائج كارثية.
خالد غزال
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد