مئة عام على ولادة التكعيبية
"في ليلة كنت فيها لا أزال صغيرا، تناولت كتابا من فوق سريري لكي اخفف بقراءته وطأة شعور غامض بالقلق والحزن. ما كدت افتح الكتاب حتى وقع من بين صفحاته مسمار حاد. رميت الكتاب بعيدا، دفنت رأسي تحت المخدة واجهشت في البكاء. قد يكون هذا النوع من القلق هو الذي جعل مني الفنان النزق الذي أنا عليه. الناس الذين يحسدونني على بيعي لوحاتي بأسعار مرتفعة، سيكفّون عن ذلك لو عرفوا الثمن الحقيقي الذي سددته لتحقيق نجاحي". جاءت هذه الكلمات على لسان بابلو بيكاسو، الفنان الذي اشتهر بخلق اللوحة التكعيبية وترويجها بعدما اتمّ ارساء قواعدها. لعل هذا "القلق" الذي تكلم عنه الفنان، هو الأكثر افصاحا عن حركة فنية "عصبية" وبالغة الأهمية انشغلت بمتغيرات العصر في الفترة الممتدة بين 1907 و1914 لتطيح مفهوم الخلق آنذاك وتقلب عالم التصوير الفني رأسا على عقب.
تستحق التكعيبية أن توصف بأنها ثورة، أكثر من غيرها من الأنماط الفنية التي سبقتها او جاءت بعدها، كالانطباعية، التنقيطية او التجريدية. اذ انها شكلت جرحا تاريخيا بعيد المدى ترك ندوبه على وجه العالم الفني المعاصر. واذا كانت الندبة تحمل عادة معنى التشويه فإنها، في حالة التكعيبية، ليست الا برهانا ساطعا على تغير الملامح تغيرا جذريا فاجعا لا رجوع عنه. حتى بيكاسو ذاته، وهو والد التكعيبية، الذي اشتهر بتعدد تجاربه الفنية وتطورها وغزارتها (ستة آلاف لوحة، ثمانمئة منحوتة، ثلاثة ألاف وخمسمئة قطعة سيراميك ومئتا محفورة) بقي "مجروحا" بالتكعيبية حتى آخر عمل له، لا ينتمي الى التكعيبية بقدر ما ينتمي الى روحها الساكنة في جسد الفنان، وقد تجاوز التسعين من عمره.
ليس من السهل تعداد العوامل التي ادت الى نشوء التكعيبية، لكنها ولدت من تشابك الشخصي بالعام، ومن الصعب أيضا التغاضي عن ذكر الفنان الذي ألقى بظله على هذه الحركة الفنية ورعى نشأتها بسحر آسر، كما يرعى البحر العشبة البحرية. انه بول سيزان الملقب بـ"والد الفن الحديث" وصاحب النظرية الفنية الشهيرة القائلة "كوّن لوحتك من خلال استعمال الشكل الكروي، الشكل المخروطي والهرمي". تذكّر هذه النظرية بما قاله فولتير يوماً: "كل فنان يعلم ضمنا ان العالم مكوّن من أشكال هندسية". كان التكعيبيون اول من أخرج هذا المعلوم الى ظاهر العمل الفني بشكل واضح ومعبّر. لكن تأثير سيزان على نشوء التكعيبية لم ينته هنا، اذ كانت له مبادىء اخرى لاقت استحسانا عند رواد التكعيبية، كالمبدأ القائل بضرورة خلق مسافة عاطفية تفصل بين الرسام والموضوع المرسوم، وكذلك ضرورة استعمال ملكة الخيال في خدمة الواقع الطبيعي وليس بغية التحرر منه، اي اعتبار العمل الفني فعل مواجهة وليس تنصلاً. لكم يبدو هذا قريبا مما قاله بيكاسو يوماً: الهدف من اللوحة الفنية ليس التزيين بل مواجهة الواقع بكل متغيراته. اعتبر سيزان مثلما فعل التكعيبيون لاحقا، ان كل مشهد يجب ألا يتخطى كونه دراسة حثيثة ومتصلة اشد الاتصال بالعناصر التي يتكوّن منها، أي الخطوط والأشكال والأحجام. ورأى ان اللون لا يجيء الا كعنصر مكمل للعمل الفني. يكفي ان نعلم ذلك لندرك بلاغة التأثير الذي كان لسيزان في نشوء التكعيبية. حتى ان بعض الدراسات خطفت "بنوة" التكعيبية من بيكاسو وكادت أن تلقيها في حضن سيزان (ولاسيما في إشارتها الى لوحة له تحمل اسم "المستحمات")، لولا ان الأخير بالغ في برودة تعاطيه مع الطبيعة حتى وصفت الفاكهة التي رسمها في طبيعته الصامتة بأنها "كالأحجار، عصية على الأكل"!
وفي حين كان سيزان صاحب "حضن بارد"، كان بيكاسو فنانا وحشيا بكل ما تحمل الكلمة من معنى. اعاد نقل الطبيعة الى لوحاته في لحظات انفعال وتخطّ ذاتي لم يتلف عصبها رغم كثرة الدراسات والمخطوطات الاولية السابقة لتنفيذ العمل. لعل أهمّ ما نقله سيزان الى بيكاسو والتكعيبيين، تمثل في القدرة على رسم المشهد الطبيعي بأسلوب يتيح للناظر أن يحيط بالمشهد الواحد من أماكن عدة، كرؤية الوجه من الجانب والأمام والخلف على السواء. ليس من الغريب أن يليق أسلوب تعبيري كهذا بفنان شره كبيكاسو، اراد امتصاص رحيق الحياة حتى القطرة الأخيرة.
ثمة تأثيرات أخرى ساهمت في نشأة التكعيبية، كالفن الياباني من خلال اعتماده بساطة الخطوط، والفن الأفريقي الذي تعرف اليه بيكاسو في متحف تروكاديرو الباريسي. وهو فن بدائي نقل الفنان من جو باريس التي كانت تعيش آنذاك (تحت تأثير فكر هنري برغسون صاحب نظرية "الوثوب الحيوي") مرحلة من التطور والاكتشافات العلمية، الى عالم قديم لا يزال فيه السحر يلعب الألاعيب ويشيّد المعتقدات. وفي حين لم تلق ضخامة الأشكال الأفريقية أي صدى دراماتيكي في نفس الفنان جورج براك، فإنها لاقت انبهارا كبيرا لدى بيكاسو الذي ما لبث أن نقل (او ترجم) تأثره بهذه الأعمال الى نفس براك ليتشاركا بعد ذلك في صنع الثورة التكعيبية. في اكثر من مناسبة، ذكر بيكاسو الصدمة التي شعر بها امام الأقنعة الافريقية التي شاهدها في المتحف وتكلم مرارا عن دورها في جعله يستوعب القلق الوجودي كطاقة سحرية محركة للخلق والتغيير. وبعدما تخمرت هذه التجربة البصرية في نفس بيكاسو، خرجت اول لوحة تكعيبية الى الوجود عام 1907 باسم "آنسات افينيون"، واعتبر ذاك التاريخ، تاريخ ولادة الحركة التكعيبية.
غير ان بيكاسو لم يطلق سراح "آنسات افينيون" من مرسمه قبل عام 1937، اي بعد مرور ثلاثين سنة على رسمها، ولم يشاهدها قبل ذلك التاريخ الا بعض الأصدقاء المقربين، مثل جورج براك الذي حين رآها أيقن أنه سيرافق بيكاسو في مغامرته التكعيبية. فأيّ مغامرة هي تلك التي وصف براك ذاته فيها وبيكاسو، كالمعلقين بالحبال في رحلة تسلقية لجبال وعرة وخطيرة. ثم جاءت لوحة "العاري" كصدى يهلل لنشوء التكعيبية، اما صاحبها فكان بالطبع جورج براك، الوجه الثاني لتلك الحركة الفنية، والذي خلّصها من "فك" التجريدية الشرس الذي كان يتربص بها تربصا مبكرا!
كان براك آنذاك قد انشقّ عن الحركة "الوحشية" المفرطة في تعبيرها اللوني، لينخرط في تكعيبية تمهيدية قوامها التقشف اللوني، الى جانب التركيز على معالجة الأشكال. اذ اقتصرت الألوان المستعملة في تلك المرحلة التي سُمّيت تحليلية، على الرمادي، الأسود، الرملي، والأخضر الزيتي. ولعل تلك المرحلة هي الأكثر برودة و"علمية" من حياة التكعيبية.
بعد فترة، لاحظ بيكاسو أن التكعيبية بدأت تتزحلق شيئا فشيئا في متاهة التجريدية، وهذا توجّه يتناقض مع تصوير الواقع، فما كان من جورج براك الا أن أخرج اللوحة التكعيبية من مأزقها العقائدي، بإدخاله قصاصات من اوراق الجرائد وغيرها الى مساحتها، ليشكل بتلك القصاصات معالم تقارب الواقعية. اعتبر إدخال براك "مواد غير نبيلة" كقصاصات الجرائد الى مساحة اللوحة انجازا تاريخيا، في زمن كانت اللوحة حيزا مقدسا ومخصصا فقط للمواد التلوينية. لأجل ذلك الانجاز، لا يعتبر براك والد فن الكولاج فحسب بل ناقل التكعيبية الى المرحلة الأخيرة والأهم، أي المرحلة التأليفية.
اكثر ما اشارت اليه المرحلة المسماة تأليفية، هي عودة اللون، كعنصر قائم في ذاته وليس كملحق للشكل المرسوم، الى البناء التأليفي للوحة. لم يكن ينقص اللوحة التكعيبية حينذاك الا نظرة غنائية من الفنان هنري ماتيس لكي تضج الحياة في ابعادها. تعتبر مساهمة ماتيس في هذا المجال فائقة الأهمية، فهو لقّن الفنانين التكعيبيين كيفية استخدام الضوء بأسلوب يحوله لوناً او باقة الوان، بما يشير الى حجم الغرض المرسوم وشكله في اللوحة.
منذ تلك اللحظة التي دخل فيها اللون حيز اللوحة التكعيبية، اصبح التفكيك والتكسير في آفاقها أشبه بانفجارات مدروسة الأبعاد ومرغوبة النتائج! هنا يكمن الفرق الهائل بين مفهوم التكسير في زمن التكعيبية، اي قبل بداية الحرب العالمية الاولى، وذلك الناتج من اندلاع تلك الحرب. ففي حين كانت التكعيبية حركة متفائلة تسعى الى ابتكار نظرة جديدة الى الفن تجعله محفزا للتفكير والخيال، وخصوصاً بعد ظهور التصوير الفوتوغرافي كناقل حرفي للواقع، سعت فنون ما بعد الحرب، كالدادائية، الى التحطيم من أجل التحطيم.
ليس كمثل هذه الحركة الفنية جرأة في مواجهة القلق السحري الذي تكلم عنه والد التكعيبية. لا بد من ذكر ما قاله يوما الشاعر ابولينير المعروف عنه حماسته الشديدة للتكعيبية، "انها حركة فنية تضيف الى اظهارها البعد الثالث، اظهارا لبعد رابع، هو حس المعرفة المسبقة بالأشياء مهما يبلغ تهديدها".
الى جانب فن الرسم، سرت دماء هذه الثورة في شرايين فنون عدة كالموسيقى والنحت والهندسة المعمارية. من الفنانين الذين لحقوا بركاب التكعيبية: فرنان ليجيه، جوان غري، لوفوكونييه، روبير دولوني، وألبر غلييز. حتى ان الأدب كان له نصيب من ثرواتها. واستولدت التكعيبية من ذاتها تيارات فنية جديدة مثل تيار الفن التجريدي.
لا يمكن ايضا ان نذكر التكعيبية من دون ان تحضر الى ذهننا الحركة المستقبلية. اقل ما يمكن قوله عن الخيط المتين الذي يجمع بينهما، أنه مثلما جزّأت التكعيبية الشكل لتوحي بحركته الكامنة، جزّأت المستقبلية عنصر الحركة واحتفلت بالسرعة وبالوتيرة المتصاعدة قلبا وقالبا. لعل أروع لوحة في هذا المجال، هي تلك التي تحمل اسم "عار ينزل السلم" لمارسيل دوشان. ألا تكون التكعيبية، كما المستقبلية، في ذلك، تمهيدا عظيما للفن السينمائي الأكثر تقدما؟
ظلت روح التكعيبية تسكن بيكاسو حتى بعدما ابتعدت اعماله عن التكعيبية البحتة. لوحته "القبلة" التي رسمها قبل ثلاثة أعوام من وفاته وكان تخطّى التسعين، هي الأروع في افصاحها عن تمكن الفنان من تكثيف "فلسفة" التكعيبية حدةً وشراهةً في الاحاطة بالموضوع المرسوم. احاطة خلاقة متعددة لجوانب الموضوع الخارجية. أما الجوانب العاطفية فبرع بيكاسو في الاحاطة بها حتى الألم، بفضل "حس المعرفة" الذي تكلم عنه أبولينير، ممجدا من خلاله التكعيبية. رسم بيكاسو في هذه اللوحة الحب مفتوحاً على مصراعيه، الحزن والفرح على السواء. هي قبلة تهجس بالفراق الذي يتربص بالعاشقين، بفعل تقدم سن بيكاسو. قبلة كالمسمار يدكّ به الفنان اسفين "القلق الغامض" الذي كان يقض مضجعه مذ كان صغيرا.
ميموزا العراوي
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد