لمع سراب لعابد إسماعيل
يختار الشاعر السوري عابد إسماعيل لمجموعته الشعرية الجديدة "لمع سراب" (دار التكوين، دمشق، 2006)، ما يشبه سوناتات قصيرة غالبا، فهي قصائد تحدّق الى روحه الداخلية وتقرأ هواجسها وما يجول في سراديبها من خيالات تحاكي الواقع وتحاوره. هو واحد من الأصوات الشعرية الأبرز في قصيدة النثر السورية، وخصوصا أنه يذهب إلى الشعر من تجربة نقدية راقية تتجول بإمعان في عالم الآداب الإنسانية وتتميز بخبرة التعرف الأنيق الى ما في تلك العوالم من مغامرات جديدة ومن انتباهات متبصرة، حداثية وجديرة بدخول عالم الشعر وما فيه من أسرار تسلّم مقودها الى موهبة حقيقية مشحوذة على حد التجربة والمعرفة: "الى متى يأخذك الدرج إلى قبو الرغبة/ وترى آلهتك المقيدين بالسلاسل/ يلعبون الورق على ضوء النيون؟".
هي ثمانون قصيدة وقصيدتان، يقدم فيها عابد إسماعيل اختلافا واضحا عن قصائد مجموعاته الشعرية السابقة. نراه هنا يختار تكثيفا شديدا لمشهديات شعرية تتكىء على تشكيلية ترسم صورة العالم، أو ما تقدمه المخيلة للعالم من صور، لكن في حركية تقارب أن تكون لوحات درامية لها قوة اجتذابنا إلى معايشتها بوصفها تفاصيل وجزئيات حوادث. قبل هذا وبعده، هي أشبه بهواجس تطلع من تأمل ومن اصغاء عميقين لسيرورة عالم يضج بما فيه من ألم ومن جمال، على ما في المنبعين من نقائض يذهب كل منهما في اتجاه مغاير. يقترب عابد إسماعيل من القبض على عوالم شعرية شديدة الشغف بالمرئي الذي يسطع في ردهات الروح وتشعبات المخيلة، بكل ما يمنحه ذلك التوهج من جماليات فنية يخطو من خلالها نحو فضاءات شعرية شبه غائبة في هذه الأيام من القصيدة السورية الجديدة، والتي يعيد كثير من شعرائها إنتاج القديم والمكرر، وإن بأدوات "حديثة": "هذا أنا/ أحفر بئر الماء في الحديقة/ ثم أسقط مع الظل/ في البئر ثقيلا كحجر/ وأعرف أن صدى ارتطامي/ لن يبلل رمل الوحشة".
هذه اللوحة الشعرية، اذ تقتصد وتجانب الزوائد والاطالات، ترسم لوحة الهاجس الذي يتحول إلى مشهد تمنحنا دراميته متعة المشاركة بالمخيلة والعقل على حد سواء. لا تغادر الكلمات والجمل الشعرية في قصائد كهذه "عاديتها" بل ومألوفيتها التي نراها في الكلام اليومي المتداول، لكن المشهد هو الذي يؤسس شعريتها ويمنحها اقتدارا مغايرا. تعيدنا القصائد إلى مقولات نقدية قديمة عن شاعرية الكلمات وخوائها أمام تجريبية إعادة تأسيس جديدة للجملة الشعرية، باعتماد قدرتها على خلق الصورة المزدحمة بالمعنى المنسوج من خيوط المخيلة وتفاصيلها.
قارىء "لمع سراب"، الذي سوف يتوقف أمام كلمتي العنوان، سوف يتوقف أيضا أمام احتفاء الشاعر بالجزئيات الصغيرة داخل القصيدة، والتي تشكل بدورها ما يشبه مشاهد مستقلة داخل المشهد العام الذي هو القصيدة: "في لمحة عين/ تصير الحقيقة هبّة ريح/ أرق من البلّور".
في اللوحة السابقة ثمة انتباه أقصى الى ما في الجزئيات والتفاصيل الصغيرة من قوة إيحاء تأتي من حضور شعري يتأسس في حمّى الواقع ولهيبه العاصف. تستحق هذه النقطة الوقوف عندها لتأكيد "واقعية" النظرة الشعرية التي تأتي منها قصائد عابد إسماعيل. هذا إذا فهمنا الواقعية في معناها الآخر، الذي يجافي الفوتوغرافية ويذهب إلى حدود قصوى في التأمل ليخرج بصورة الواقع كما تتبدى من الحدقة الشعرية وليس كما تستقر بسكون في الواقع. تلعب المخيلة دورا، تماما كما تلعب زوايا النظر والرؤية والفكرة الذهنية، التي تشبه بوصلة الوثوب نحو العالم الخارجي وما فيه من مشهديات. هذه المشهديات تستحق أن تعمل أزاميل الشاعر على تهشيمها إلى تفاصيل يمكن أن يكون لكل واحد منها حضوره القادر على أن يتحول بالقراءة الفاعلة إلى حادثة حياة لا تغيب في سهولة أو يسر: "انه فريدريكو غارثيا لوركا/ هذا العابر كظل على الرصيف/ منذ لحظة سقط بطلقة/ لكن ظلّه ظلّ يمشي/ باتجاه المنصة".
كل قصائد "لمع سراب" تأخذ عنوانا واحدا هو "صوت"، لكن بأرقام متعددة. تشير هذه المسألة إلى بنيوية شعرية تتجاوز "الشكلية". ينتبه الشاعر إلى أن عالم مجموعته الشعرية كله هو عالم أصوات داخلية، تذهب إلى العالم الخارجي بحدقتين من مخيلة ومن رؤى، تحاور، تحكي، وترسم، وإن في اقتصاد وتكثيف يدفعان من جديد إلى وصفها بـ"السوناتات الشعرية" الشغوفة بخلق فكرة تتجسد في صور تتحدث في ما يشبه الكلمات.
من المهم ازاء مجموعة شعرية كهذه، الاشارة الى ما تخبئه الكلمات والجمل البسيطة من بنائيات فنية ترتفع بقصيدة النثر الى مقامات شعرية أعلى. ذلك من خلال التزام تأسيس عالم شعري قوامه خلق المناخ الذي تشيع منه رؤى وحكايات، فيها ما فيها من سردية الذات التي تخاطب الآخر، لكن بصيغة البوح الذي يشف حتى نكاد نظنه لا يبحث عن أي آخر هنا أو هناك. هي قصائد تطلع من ضمير المتكلم، أي من لغة "الاعترافات" الشعرية، لكنها في الوقت نفسه تحرص على أن تأتي في اهاب الهمس الذي يشعل الحرائق، ويدفع الى استشراف عوالم لا تبين بوضوحها الكامل. هي تترك للقارىء حق محاورة الجملة الشعرية بمخيلته كي يصل الى التخوم والى ضواحي المعنى، ما دام هذا المعنى يظل عصيا على أي "تفسير أخير"، بل يظل قابلا للتشكيل كل مرة في صورة مختلفة. انها فورة الكلام الذي يصير صورة ومشهدا، وفورة المشاهد والصور اذ تعيد كتابة نفسها بالكلمات.
"لمع سراب" تجربة شعرية خصبة في حقول الجمال والشعر، وهي اشارة مهمة الى مرحلة جديدة من عمل عابد اسماعيل الشعري بعد مجموعاته السابقة. نقرأ في القصائد مزجا سلسا بين الهموم الداخلية الموغلة في الذاتية وما يعصف بالعالم من أهوال. فمن يتأمل المجموعة يلمح عصف تلك الأهوال الخارجية، لكن مرئيةً ومرسومة من حدقة الشاعر ومن رؤاه الطالعة من روحه. هنا يمكن الحديث عن قصيدة لا تبحث عن "موضوع" بالذات، ادراكا بأن الموضوع الدائم للشعر هو البحث عن لحظة توازن مع عالم لا يتوازن ابدا.
عابد إسماعيل في "لمع سراب" يتجاوز كثيرا تجربته الشعرية السابقة، يتفوق عليها ويقدم حضورا أكثر توهجا وجمالية.
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد