كولاجات أسامة جحجاح.. حميمية المدينة العتيقة في لوحات الديجيتال
حين نتحدث عن الفن يتبادر إلى ذهننا تشكيل المنحوتات بالجص والحجر، أوحفرها بالخشب، وإن شطح خيالنا نحو الحداثة قد تتراءى لنا مجسمات مكونة من قطع المعادن والأسلاك بصيغ تشكيلية مختلفة تكمن غرابتها في المواد المستخدمة بتلك السريالية الإبداعية المتنوعة الغرابة بتنوع الحالمين من فنانينا المعاصرين. لكن حداثة التشكيل الذي نتابعه في معرض الفنان أسامة جحجاح تكمن في تكوين اللوحة عبر برامج كمبيوترية تسمح بالعمل على الصور الفوتوغرافية وخلقها من جديد بألوان وخطوط تقارب بطبيعيتها عفوية التشكيل اليدوي.
في"كولاجات دمشقية" ننتقل مع لوحات جحجاح من القص واللصق بالقماش والخيوط وقطع الزجاج والخشب والأسلاك مما كان يستخدم في الماضي لخلق تحفة فنية أصيلة التكوين، إلى عالم الديجيتال في الفن، فالكولاج هنا يستعير طلاوة الدهان وحرارة ألوانه مع خشونة القماش وحميمية الخشب من دون لمس هذه الخامات. أسامة جحجاح يحكي التفاصيل الدمشقية من خلال تصوير الياسمين وبوابات المدينة السبع والأنثى السورية المنبثقة من المشربيات ولوحات الموزاييك على جدران الأبنية العتيقة المنشقة عن جذر واحد مع الحارات الشامية وأبواب دورها الخشبية بآياتها المنقوشة التي تبارك القادم أو تودعه برقة القديسين. استعار أسامة جحجاح العناصر الدمشقية من طرز معمارية فاخرة في الكنائس والمساجد والقصور القديمة المتبقية من العهد الفرنسي، ومن شخصيات إبداعية شكلت مايشبه الواجهة السياحية للمدينة كالشاعر نزار قباني، مع التفصيلات التاريخية الموثقة للحضارة الأزلية كالنقوش المسمارية والزخارف الإسلامية والتشكيل بأسلوب الأرابيسك مع استحضار الخلفيات الاجتماعية الداعية للتواصل والحميمية بين الأفراد بعناصرها العاطفية الكامنة في الأيدي الأمومية وجذوع الشجر الراسخ الرامز إلى الجذور العائلية مع الدوائر الملونة المحيلة لاستمرار النسل والتجدد والأنوثة التي يرمز إلى وجودها اللاواعي في النفس بشكل الدائرة المعاكسة للمثلث الذكوري، كل ذلك نقله مبدع الكولاجات الدمشقية إلى لوحاته المكرمة لهذه المدينة الحاضنة. ثنائية الأنثى والحارة الدمشقية كانت الركيزة الأساس في المعرض، فدمشق هي الأنثى بخصبها وحرارتها الأمومية المشعة في ألوان اللوحات مابين الخمري والبرتقالي مع البني المحمر والزيتي والزمردي .. نظرة ذات خصوصية في الإحساس بالألوان وإيحاءاتها الروحية التي تجذب الناظر إلى عوالمها السحرية ضمن قماش "كامفيس" الذي طبع أسامة لوحاته الرقمية الثماني والعشرين على خيوطه في مقهى الفن art cafe الذي احتضن المعرض.
وفي حديثه حول معرضه الفردي الثالث هذا، يقول أسامة جحجاح :" لوحات الديجيتال إنتاج فني لا يقل أهمية عن أساليب التشكيل الأخرى طالما أنها تنقل إحساس مبدعها عبر اللون والخطوط الحاملة لموهبة الخلق البصري إلى المتلقي من القلب إلى القلب".
وعبر اطّلاعه على أعمال الفنانين السوريين مثل صفوان داحول، غسان جديد، ولبيب رسلان.. توقف أسامة عند أعمال داحول التي تحكي روحه ومعاناته الخاصة التي أثرت في تصور رسام الديجيتال عن التشكيل وما يتوجب أن ينقله للمتلقي من صميم مكنونات الفنان وخاصة معرض صفوان داحول الأخير المهدى إلى نوار الراحلة راثياً إياها في ثماني لوحات مؤلمة تصور هيئتها المريضة مثل سنونو صغير ومنكمش.
وحاول صاحب الكولاجات الدمشقية هنا أن يقدم إحساسه عبر أسلوب جديد لم تنقص من شخصانيته شيء طالما أن الكمبيوتر يقدم برامج العمل لا أكثر وتبقى عين الفنان وذوقه اللوني والتشكيلي الخاص حاضرين أثناء الخلق.
ورطة الحياة تضعنا أمام خيار لامناص منه، الاستمرار بقوة الروح التي تسحبنا مع نزعاتها نحو ما فطرت عليه. الإبداع أحد أوجه تلك النزعة المازجة بين النرجسية وعفوية العطاء النابعة من روحنا الحقيقية .. وحين حكى أسامة في لوحاته عن الجذور العريقة للعوائل الدمشقية والخشوع الإيماني المخيم على كنائسنا وجوامعنا المتعايشة مع بعضها البعض مع إبراز التفصيلات الجمالية للعمار الحجري والنقش واللون، ذلك التمازج للبرودة في الجمال والحميمية الحلوة في التقشف، فقد صور نظرة المحب لمدينة عتيقة وجذب متلقيه إلى عوالم اللوحة، وفي الوقت نفسه قدم صورته كفنان مجدد في الأسلوب كسر التقليدية في الفن خالقاً حفاوة روحية تحضن المتلقي في حرارة ألوانها .
أسامة جحجاح فنان سوري مواليد عام 1972 ، درس الفن دراسة خاصة شخصية الطابع لم تنح منحى الأكاديمية.
شارك في معارض جماعية عديدة لكن تظل معارضه الفردية هي الأبرز، فالأول كان بعنوان "لمسات" في المركز الثقافي العربي في العدوي عام 2007. والثاني بعنوان "حلم" في الآرت كافيه عام 2008 واليوم يقدم في المكان نفسه معرضه الثالث"كولاجات دمشقية".
ليال حسن
المصدر: بلدنا
إضافة تعليق جديد