في ذكرى (ذكرى)
حين نرى الى اغلب مغنّي اليوم، يتنططون ويطلقون أصواتاً، يعاودنا الشعور بفداحة غياب ذكرى المطربة التونسية التي قتلها زوجها رجل الاعمال المصري، ثم قتل نفسه في الواقعة الحزينة، وتناولتها الصحافة منذ ما يقرب السنوات الثلاث.
نفتقد فعلاً، الانسجام الذي كانت تبلغه ذكرى في أدائها، وقد ساعد على تأكيد المعنى في أغنياتها، وتأكيد التأثير، ما يستتبع بالضرورة تأكيد التلقي الجيّد لمستمعيها. عند ذكرى بساطة الاحتراف، وغياب التصنع والتكلف في غنائها، كما في ظهورها ووقفتها على المسرح، وهو أمر نادر بين أهل الفن المحدثين. لقد نجحت ذكرى الصبية التونسية المشبعة آذانها بالموشحات والأندلسيات والفولكلور المغربي العربي، وكلاسيكيات القرن، والتي قصدت مصر واستقرت فيها لغاية اطلاق اغنياتها وإصابة الشهرة والنجاح، نجحت في تزويدنا بالعالم العاطفي الغني في أغنياتها، من تركيبها الموسيقي والشعري، ومن الصوت سوبرانو الخاص والقوي للمطربة، الذي ترسله سلساً وتعبيرياً، في علاقتها الصريحة بالفن والغناء خصوصاً، وفي ذائقتها الجمالية، والثقافية على صعيد الأداء.
اكتنزت ذكرى، فهماً تاماً وغزيراً عن فنها، فاجتهدت إلى مزيد من الامكانيات التعبيرية في مسيرتها الغنائية، كانت هذه سبباً لردم اي خلل في التلقي بينها وبين جمهورها.
في احد تسجيلات أغنياتها المتلفزة، ولتكن اغنية: وحياتي عندك، لو كان ليّ عندك خاطر وهي اغنية مؤثرة في عاطفيتها وتكاد تكون مباشرة او شبه ذلك، لكي لا نقع في توصيفها بالشعبية، وبالإجمال اغنية ذات عاطفة بريئة، غرامية بالمعنى اللذيذ وغير المُدرك للغرام، سوى ان ذكرى لمن تسنى له سماعها، كما رؤيتها في هذه الاغنية تحديداً، يجد نفسه حيال امرأة ذات واقعة شعورية بالغة. أدت ذكرى الاغنية بحزن وشجن، وأضافت أبعاداً الى المعاني، في أدائها للجمل البسيطة والعالية في السلالم الموسيقية من مقام الحجاز، بلغت فيها المطربة كل مراميها الداخلية الدافئة، مترجمة بأداء جميل لا تقدر عليه سوى نادرات في مجال الغناء. تشكل هذه الأغنية، الى أغنيات كثيرة خلفتها ذكرى لمحبيها، عودة للرومانسية كما كانت في الخمسينيات والستينيات على غرار اغنيات عبد الحليم حافظ، وهي سهلة وممتنعة في آن، وحقيقية بدليل صمودها وترديدها من قبل الشباب.
كان السوق الغنائي، على ما اصطلحت التسمية، يرغب في تكوين ذكرى على شاكلته، لكنها، وتكاد هنا تكون منفردة سوى بعض الاسماء القليلة، رفضت هذا النموذج، وأصرت على تميزها وانتقاءاتها وخصوصية أدائها ورفعته، لا مجرد ظل للحياة الفنية الاستهلاكية وسجن لكآبة الواقع الغنائي الراهن، مع استثناءات لا تشكل واقعاً مغايراً. سوى ان حياة ذكرى كانت قصيرة، فشلت فيها في إدراك السعادة، كنموذج الفنانين المنذورين للموت اسمهان مثالاً والمحتشدة حياتهم القليلة بالحزن البليغ.
يؤثر عن ذكرى في مسيرتها الفنية القصيرة، انها لم تغن اغنيات هابطة، وذلك من فطرتها السليمة التي لم تضلل، ومن تعلمها اصول الغناء الشرقي، العربي تحديداً، وتجديدها عبر امكانيات صوتها، في فنونه وأصوله حتى نجحت اغنياتها نجاحاً باهراً، ساعدتها ايضا نبرتها الجميلة والأنيقة، وذوقها وإحساسها حتى أتت فترة ما قبل موتها، بدت فيها خارج المنافسة مع كثيرات أصالة وأنغام وسوزان عطية وبدا صوتها أشد تأثيراً في العالم العربي وفي مصر نفسها، من مطربات عربيات، ومصريات ذائعات الصيت.
صوت ذكرى السوبرانو ويقابله بين المطربين الذكور العرب صوت المطرب الكويتي نبيل شعيل، يضم في التصنيف الاوروبي من حيث المساحة الصوتية للصوت النسائي، فئتي السوبرانو والمتسوسوبرانو كما أن ذكرى تجيد الغناء من الرأس، ما يصنف صوتها بالصوت الكبير. صوت الرأس كما هو شائع في الغناء اي الأوبرالي المرتفع ويعجز عنه ذوو الأداءات المتوسطة، في منتهى الحنان ايضا، والدفء الإنساني والدقة والذوق السليم، ويعتمد التعبير الفني ولكن بلا اي نبرة صراخ.
اعتماد ذكرى للصوت الأوبرالي المرتفع، كان من اجل التعبير الموسيقي والأدائي وليس لاستعراض الصوت في وصوله الى طبقاته العليا.
في أغنية الله غالب قدمت ذكرى سبيكة غنائية، عصرية وفاتنة مزجت فيها عناصر الغناء العربي بالأوبرالي، الذي يعرف مواصفاته جيداً علماء النقد الموسيقي.
أنوثة ودفء شكلاً وصوتاً، وغناء عصرياً وإن ملتزماً بالقواعد والاصول، ومؤسساً على التقليدي الاصيل. لم تفعل ذكرى سوى ان غنّت نفسها، حتى في حفلاتها المتلفزة التي اقتصرت على استعادات لأغنيات أم كلثوم، بقيت هذه المطربة تحافظ على خصوصيتها، اي على صوتها المفتوح والحاد "Aigu" ممزوجاً بحسن اللفظ وبالأداء المتصف بالأناقة والذوق، ونلاحظ ذلك في اظهارها او تشديدها على الحروف الساكنة في آخر الجمل كما كانت تفعل اسمهان كمثل لفظها الكاف الساكنة في عبارة معاك في اغنية: إن كان بُعدك.
غير ان التعبير الإنساني بقي الأكثر تأثيراً في غناء ذكرى. اذ هي على المسرح، بدت امرأة عاشقة ومعذبة ومتعذرة السعادة في قلبها. في اغنياتها، ونقرأ ايضا في ملامح وجهها اثناء الغناء، فنلاحظ سرعة انتقالها من مزاج الى مزاج آخر، وفقاً للحن والمعاني في الاغنية الواحدة، حيث يبتدئ الغناء بشفافية وإشراق بالصوت، لينتهي بالحالة التي تحبها وتؤثرها ذكرى كثيراً، وهي اضفاء الحس الدرامي (النهوند) على كل ما تغني، في رغبتها الشعورية الى التعبير الفني عن مزاج شديد الوضوح في تقلّبه.
رحلت ذكرى، ونحب تذكرها في غيابها المنقضي منذ ما يقرب السنوات الثلاث. كل من سمعها او شاهدها تغني على المسرح، رأى مطربة ذات شخصية وحدانية مستغلقة، تغني لنفسها أولاً، غير قابلة للتقليد، وعابرة، او هو الصوت المعجز والمقدّر له الاختفاء.
عناية جابر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد