فوضى وارتباك في مهرجان بيروت السينمائي
تتنوّع الأسباب الكامنة وراء هذين الارتباك والفوضى، اللذين يعانيهما مهرجان بيروت السينمائي الدولي (مهرجان بيروت الدولي للسينما) منذ تأسيسه عام .1997 ذلك أن الدورات السابقة كلّها، سواء تلك التي عرفها المهرجان باسمه هذا أو تلك التي مرّت باسم آخر هو مهرجان بيروت لسينما الشرق الأوسط ، لم تستطع أن تجعل المشرفين عليه يتدرّبون على آلية تنظيم المهرجان السينمائي وقواعده وأصوله، وهي، بالمناسبة، لا تتطلّب جهداً خارقاً بالنسبة إلى مهرجان لبناني يحاول أن يكون دولياً، فلا يخرج من نطاقه الضيّق هذا.
ارتباك وفوضى
لا يُمكن اتّهام الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان واللبنانيين، بأنها حالت دون تقديم مهرجان منظّم. ففي شهر واحد، نظّمت إدارة أيام بيروت السينمائية الدورة الرابعة (التي أقيمت بين السادس عشر والثالث والعشرين من أيلول الفائت) بأقلّ قدر ممكن من الارتباك والفوضى. يُمكن، في المقابل، اعتبار هذه الحرب سبباً كافياً لتقليل عدد أيام مهرجان بيروت السينمائي الدولي ، وتقليص نشاطاته الموازية للمسابقة الرسمية التي تمّ إلغاؤها هذا العام بسبب هذه الحرب أيضاً (!)، وتخفيف عدد أفلامه. لكن هذا كلّه لا يتطلّب قدرات تفوق الخيال كي يتمّ تنظيم دورة متواضعة، بل على النقيض من ذلك، فإن هذه الترتيبات يُفترض بها أن تؤدّي إلى إقامة دورة تخلو من الارتباك والفوضى.
أما الارتباك والفوضى، فواضحان: كاتالوغ الدورة السابعة للمهرجان، التي تنتهي مساء بعد غد الأربعاء بعرض عمارة يعقوبيان لمروان حامد (تبدأ عروضه التجارية في صالات المجمّع السينمائي اللبناني بلانيت في التاسع عشر من تشرين الأول الجاري)، مليء بالأخطاء اللغوية والطباعية، وبأخرى خاصّة بالترجمة الحاصلة بين اللغات العربية والفرنسية والإنكليزية. تخصيص صفحة من الكاتالوغ بالفيلم الجماعي باريس، أحبّك ، من دون أن يكون موجوداً في البرنامج اليومي، علماً بأن إدارة المهرجان أعلنت، بشكل غير رسمي، أن الفيلم لن يُعرض في هذه الدورة. تغيير مواعيد العروض، من دون الإعلان الرسمي عن ذلك في وسائل الإعلام والصحافة. تخصيص خمس حفلات بفيلم الافتتاح فولفر للإسباني بيدرو ألمودوفار، وبيع البطاقات كلّها قبل إطلاق الدورة السابعة، ثم الإعلان عن إلغاء هذه الحفلات كلّها وقيام إدارة أمبير صوفيل في الأشرفية (حيث تُعرض أفلام الدورة الحالية) بإرجاع المبالغ المدفوعة إلى أصحابها، وذلك لأن الموزّع اللبناني رفض عرضه في المهرجان (ألم يكن الأجدر بإدارة المهرجان أن تتفق مع الموزّع على صيغة ما قبل الإعلان عن العروض وبيع البطاقات؟).
الهوية الضائعة
إن تبديل اسم المهرجان يسيء إلى مكانته في خارطة المهرجانات المحلية، كما يسيء إلى مضمونه و هويته وحضوره في المشهدين الثقافي والفني. ذلك أن كوليت نوفل وإدوار عون أسّسا عام 1997 مهرجان بيروت السينمائي الدولي ، وحين انفصلا عن بعضهما البعض قبل أعوام قليلة، أسّست نوفل جمعية بيروت للسينما بالتعاون مع عدد من سيدات المجتمع اللبناني، أشرفت على إقامة مهرجان آخر حمل اسم مهرجان بيروت لسينما الشرق الأوسط . مع هذا، أصرّت نوفل على أن المهرجانين واحدٌ، فإذا بالدورات تستمرّ، مما أدّى (وهذا خطأ كبير) إلى تحميل الدورة الحالية الرقم سبعة في روزنامة مهرجانين متداخلين بعضهما ببعض، من دون الانتباه إلى أن كل واحد منهما مختلف عن الآخر تماماً، على مستويي الاسم وجغرافية اختيار الأفلام، على الأقلّ.
لا هوية لهذا المهرجان، باستثناء رغبة القيّمين عليه في جعله مهرجاناً سياحياً واستعراضياً، يليق بالأضواء التي تسلّط على السينما، ظنّاً منهم أنهم قادرون على جعله، بسهولة وسرعة، شبيهاً بالمهرجانات الدولية العريقة، التي أمضت سنين طويلة من الكفاح والعمل الجدّي وحسن الإدارة والتنظيم وتحديد الأهداف والأدوار، قبل أن تستحق، عن جدارة، صفة دولي . من هنا، يُفهم الترابط الحاصل بين المهرجان ووزارة السياحة: فالعلاقات العامة أدّت إلى تبنّي الوزارة المذكورة هذا المهرجان المرتبك في اسمه وتوجّهه ومكانته وحضوره وفضائه ونشاطه، مما يعني أن مزيداً من الأموال تتدفّق عليه ل تنشيط السياحة المحلية ، إلى جانب التمويل الذي قدّمته جمعية غاند ولي ، والذي لم يُعلن عن رقمه الرسمي أبداً. بهذا المعنى، يُمكن التساؤل عن سبب الفوضى والارتباك في التنظيم والبرمجة: طالما أن هناك ميزانية جيّدة (يقول بعض المطّلعين على كواليس المهرجان أن الميزانية أكبر من أن تكون جيّدة فقط)، لماذا لا يُقام مهرجان سوي، وإن كان متواضعاً في عدد أفلامه ونشاطاته وأيامه؟ هل يحتاج التنظيم الجيّد إلى عبقرية خارقة كي تستقيم أمور مهرجان لا يزال فاقداً أي صفة أو هوية أو هدف ثقافي وفني وتجاري (فالمهرجانات السينمائية تستطيع أن تلعب دوراً تسويقياً للأفلام ولمشاريع الأفلام أيضاً، ولا شيء يمنع المهرجانات المحلية من لعب هذا الدور)؟ أم إن هناك خللاً ما، في مكان ما، لا يزال عصيّاً على الفهم؟
لا يكفي أن يكون المهرجان صالة عرض لأفلام لا تعثر على صالات تجارية أخرى. هذه إساءة لمعنى المهرجان، إذا أراده منظّموه ثقافياً وفنياً واقتصادياً وتجارياً، وليس مجرّد معرض سياحي ، تتبنّاه وزارة السياحة، وتبتعد عنه وزارة الثقافة (!). هذا إلغاء لقيمته، خصوصاً في زمن يسهل على كثيرين فيه أن يحصلوا على نسخ دي في دي وأجهزة تلفزيونية متطوّرة جداً تقدّم عرضاً مشوّقاً لأي فيلم جديد أو قديم، مما يعني أن المهرجان، إذا لم يلعب دوراً أكبر من مجرّد عرض أفلام بنسخ سينمائية، يصبح نادياً سينمائيا .
خارطة المهرجانات المحلية
لا يعني هذا أن هناك دعوة مبطّنة إلى إلغاء المهرجان، بحجّة واهية أطلقها البعض، تقول إن بيروت لا تتحمّل هذا العدد من المهرجانات السينمائية. إن وقوع مهرجان بيروت السينمائي الدولي في هذه الأخطاء المزمنة، يجب أن يُحرّض منظّميه على تحديد آلية جديدة لعمل المهرجان، من دون ادّعاءات استعراضية وتماه بالأضواء والنجومية، على حساب السينما وعالمها المتنوّع. إن المطالبة بالتنويع البصري في العروض السينمائية التجارية تتكامل مع المطالبة بتنويع آخر يطال حركة المهرجانات السينمائية المقامة في بيروت. ذلك أن بيروت قادرة على استيعاب حركة سينمائية يُفترض بها أن تستكمل الحركة الثقافية، شرط أن تؤدّي هذه الحركات كلّها إلى نهضة تواجه حالات التردّي والسطحية والادّعاءات والتصنّع التي تعيشها الثقافة اللبنانية بامتداداتها العربية والغربية، لا أن تبقى عاجزة عن إنتاج تراكم إبداعي متنوّع، إذ إنها تصبح، في هذه الحالة، مجرّد استعراض ثقافي.
من هنا، يُمكن القول إن بيروت قادرة على تحمّل هذا العدد من المهرجانات السينمائية، خصوصاً إذا تمّ التوافق على مواعيد ثابتة لكل واحد منها لا تتداخل فيما بينها، بل تستكمل بعضها البعض، وعلى أن يكون كل واحد منها متخصّص بنوع معيّن. هذا ما هو حاصل لغاية اليوم، على الرغم من حاجة غالبيتها إلى مزيد من التطوّر: ف نما في بيروت مهرجان للسينما اللبنانية بأنواعها وتفاصيلها وفضاءاتها وأشكالها المختلفة، و أيام بيروت السينمائية مشغول بالفيلم العربي، و مهرجان بيروت الدولي للأفلام الوثائقية يحمل هويته وأهدافه في اسمه، و مهرجان السينما الأوروبية فسحة ضرورية لمتابعة بعض أجمل الأفلام الأوروبية حديثة الإنتاج وأفضلها. هناك أيضاً مهرجانان لمركز الجنى : الأول مهتمّ بسينما الأطفال في العالم، والثاني مختصّ بالسينما الفلسطينية، التي ينجزها فلسطينيون وعرب وأجانب، من فلسطين وعنها، ناساً وقضايا ومجتمعاً. لذا، فإن مهرجان بيروت السينمائي الدولي مطالبٌ بتحديد توجّهه وهويته وأهدافه: فهو إما مهرجان مفتوح على النتاج السينمائي العالمي، وإما محصورٌ بسينما الشرق الأوسط، مما يعني ضرورة التنسيق مع المهرجانات الأخرى التي تُعنى ب خارطة جغرافية متشابهة. كما أنه مطالبٌ بتنظيم عمله: على مستوى الثبات في موعد محدّد لا يتضارب مع المواعيد الأخرى (وهذا ما يجب على منظّمي المهرجانات أن يتفقوا فيما بينهم عليه، وأن يحرصوا على احترامه)، على مستوى بنية عمله وآلية تنظيمه، وعلى مستوى خياراته الثقافية والفنية والاقتصادية والتجارية.
نديم جرجورة
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد