عقاب أميركي قديم و قوة روسية جديدة
الجمل- *بقلم الدكتور ماثيو كروستون- ترجمة: رندة القاسم:
في الثامن عشر من كانون الأول ألقى الرئيس فلاديمير بوتين خطاب نهاية العام التقليدي ، و أعتقد أنه النسخة الروسية من خطاب الاتحاد الأميركي الذي يلقيه دائما رئيسنا.و في خطابه عبر بوتين عن الفزع و القلق من تصرفات شركاء روسيا الغربيين، بل ذهب الى أبعد حد حين اعتبر أن النوايا الغربية تهدف الى السيطرة على المصادر الوطنية الروسية و جعل روسيا نتيجة لذلك دولة تابعة. و بشكل حيوي استخدم تشبيه الدب المقيد في حديثه عن القوى الغربية الساعية الى تجريد روسيا من مخالبها و قوتها لجعلها خانعة و عاجزة، بل انه لجأ بشكل دراماتيكي إلى تشبيهات قديمة خلال خطابه الذي امتد ثلاث ساعات.
ردة الفعل التقليدية للسلطة الأميركية على هذا الاستعراض العلني للقوة و التحدي تتمثل بالازدراء و النبذ. في معظم الحالات من غير المؤذي تجاهل استعراض العضلات، و لكن في هذه الحالة أعتقد أنه توجد دلالات معينة ضمن الخطاب تشير الى أنه ينبغي على الأميركيين بذل انتباه أكبر و عدم الاعتقاد ببساطة أن هذه تصرفات رجل يائس يُدفع نحو نهايته بسبب العقوبات التي تحقق التأثير المطلوب على روسيا.
يحتاج الأميركيون تحرير أنفسهم من الوهم القائل بأن العقوبات تسبب انحدارا رهيبا في شعبية بوتين، و من غير الغريب أن ترى العديد من التقارير في وسائل الإعلام الغربية تعمل على اثبات هذه الفكره بالذات، مع وجود الكثير، ممن يفترض أنهم خبراء غربيون في السياسة الروسية، يعلنون توقعاتهم حول متى سيسقط بوتين على يد الشعب الغاضب. معظم نتائج استطلاعات الرأي في روسيا اليوم، و ليست كلها متملقة للحكومة الروسية، تظهر أن نسبة التأييد للرئيس بوتين تصل إلى 80% خلال هذه الأوقات الصعبة المميزة بالانحدار القوي للروبل الروسي.
في أميركا تترجم المشاكل الاقتصادية فورا و بشكل أوتوماتيكي إلى انخفاض رهيب في شعبية سياسييها، و لذا من السهل معرفة سبب هذه الافتراضات حول شعبية بوتين.
و بشكل غامض، نبدو نحن في الغرب متجاهلين لحقيقة أنه من السهل نسبيا توصيف و افتراض انحدار الروبل على أنه النتيجة المباشرة للتدخل الغربي في الاقتصاد الروسي، بكلمة أخرى، نتيجة العقوبات الغربية ضد روسيا. من جهته، اتخذ بوتين نوعا ما موقفا متوازنا و معتدلا من أزمة الروبل، و قال بأنه لم يوافق على ردة فعل البنك المركزي المبالغ بها و تبديد احتياطي النقد الروسي المكتسب بصعوبة، و تحدث عن إجراءات مضادة ستتخذ من أجل عودة الروبل معافى خلال العامين القادمين.
و لكن الأكثر مدعاة للحيرة في كل ذلك هو تصريح بوتين بأن العقوبات تشكل نسبة 25 إلى 30% من الأسباب التي أدت الى هبوط الروبل. و الأكثر أهمية كان اعتماد روسيا المستمر على النفط و الغاز الطبيعي، ما يجعلها عرضة لتقلبات السوق العالمية. و ثانيه، سيضحك الكثيرون في أميركا من هذا الكلام على أنه لرئيس يائس. غير أن المفكرين الماكرين و الموضوعيين سيرون أن هذا الكلام ليس ذكيا من الناحية السياسية فحسب بل أيضا دقيق اقتصاديا. و العقوبات التي فرضها الغرب عبر عام 2014 ترافقت للأسف مع انخفاض متهور في أسعار النفط و الغاز العالمي، ما دفع روسيا نحو نتيجة قاسية و لكن مهمة جدا، ففي الماضي كانت روسيا تتباهى بكونها دولة تعتمد على المصادر الطبيعية، و اذا أخذنا بعين الاعتبار احتياطيها الضخم و الطاقات غير المستغلة عندها سيبدو غرورها منطقيا جدا. و لكن من خلال التعمق بخطاب بوتين، قد تكون سنة 2014 نقطة تحول فاصلة للحكومة الفيدرالية الروسية. إذ أكد بوتين أنه من الضروري و الجوهري أن تقوي روسيا اقتصادها المحلي و مصادر الإنتاج الاقتصادي المحلية بحيث لا تكون قابلة للعطب و معتمدة على السوق العالمي المرتبط بمصالح و أولويات الولايات المتحدة.و اذا قامت روسيا فعلا بإجراءات لتحقيق هذا الهدف طويل الأمد، عندها ستتغير كل طبيعة العلاقات الدولية الأميركية -الروسية بشكل جذري.
إذن هنا وصلنا، ثانية نحن نشاهد ما يشبه الحرب الباردة بين روسيا و اميركا مع كون الأخيرة واثقة تماما بأن مناوراتها و أعمالها ستعيق الأولى ، و تركعها و تجعلها اكثر تبعية للمصالح الغربية. و لكن ربما سنشهد عوضا عن ذلك خلق استراتيجية روسية جديدة من أجل المستقبل الاقتصادي تحقق قوة سياسية أكبر و المزيد من الاستقلالية. ربما أميركا الآن في موقع القوة، قانعة بان روسيا مقيدة و في الزاوية، و لكن أي انسان يملك الحد الأدنى من المعرفة بالتاريخ الروسي يذكر أحداثا ماضية تصرفت فيها الدولة الروسية بطريقة غير متوقعة و متناقضة، فالتصرف عكس توقعات الأجانب من طقوس روسيا. و أنا لا أؤمن بأن الوضع الراهن في روسيا سيؤدي الى اسقاط بوتين، أو انهيار الاقتصاد الروسي، أو حتى مجرد استسلام روسيا للمطالب الغربية المتعلقة بأوكرانيا. بل أعتقد على الأرجح أن أحداث 2014 ستدفع مفكرين في الظل و محللين استراتيجيين عميقين في روسيا الى استنباط طريق بديل نحو مستقبل يجعل روسيا أقل عرضة للأذى و اقل اعتمادا على ما تعتبره أهواء الاستراتيجية الغربية.و اتفاقية التعاون الاقتصادي الحديثة الضخمة مع الصين تؤيد هذه الرؤية بسهولة.
و ربما ينتهي الأمر بمفاجأة مؤلمة للولايات المتحدة، فأفعالها التي تقوم بها وفقا لأسلوب الحرب الباردة قد خلقت دوافعا لدى روسيا لم تكن من قبل. و سخرية القدر تكمن في أن العقاب الأميركي القديم يخلق قوة روسية جديدة، و الأمر الأكثر ارباكا في كل ذلك، هو أنه بينما تخلق هذه الحالة حقول لعب عالمية أكثر بين روسيا و أميركا، فاني أخشى أن هذه الندية لن تخلق شراكة متعاونة أقوى بين هاتين الدولتين.
*بروفيسور في العلوم السياسية و مدير برنامج دراسات الأمن الدولي و الاستخبارات لدى جامعة بالفيو في الولايات المتحدة الأميركية.
عن مجلة New Eastern Outlook الالكترونية
الجمل
إضافة تعليق جديد