سوريا: مصائب قوم
المرة الأخيرة التي تمكن فيها حسان من زيارة منزله كانت منذ عامين وشهر ونصف الشهر.
وفق ما روى، كان قد قرّر وشقيقه مالك أن يتفقدا المنزل للمرة الأخيرة، قبل أن ينتقلا إلى حي برزة القريب والأكثر أمناً. في منطقة زملكا، التي كانت بدأت علائم الاضطراب فيها منذ شهرين (ربيع العام 2012)، كان من الأفضل له ولأخيه، ربَّيْ أسرتين من 15 شخصاً تقريباً، أن يتفاديا «حصار المشاكل لرزقهما».
يتذكر حسان ذلك اليوم المشؤوم، ثم يردد لاحقاً باستسلام أن «كل ما يأتي من رب العالمين أهلاً وسهلاً به». ما حصل يومها أن الشاب، الذي يعمل في محل شقيقه الأكبر لتصليح وتركيب الزجاج، سبق شقيقه إلى المنزل، وكان يهم بتفقد نوافذه، قبل أن يغلقها جيداً، حين حصل انفجار هوى به عدة أمتار إلى الخلف.
استفاق بعد لحظات وهرع للنافذة التي تهشمت، ونظر إلى الهرج الحاصل تحت بيته. كانت سيارة بها عبوة انفجرت قرب جمهرة من المحتجين، وفتحت بركة من الدماء في الشارع. لكن عينا الشاب كانتا معلقتين بسيارة محددة مجاورة تفحّم نصفها الخلفي هي الأخرى، ولا زال صاحبها فيها برأسٍ متدلٍّ، وإلى جانبه جسد شاب أصغر حجما مدمّى الرأس. بدأ يصرخ بهيستيريا من فتحة النافذة، حين تبين له أن السيارة ليست سوى سيارة شقيقه، وأنّ مَن بها لا يمكن أن يكون سوى صاحبها ونجله.
كان هذا التفجير هو الرابع تقريباً في زملكا، لكنه العشرون إن لم يكن أكثر في ريف دمشق، وتحديداً في مناطق الغوطة الشرقية. لم يكن السلاح قد ظهر تماماً في يد المحتجين، لكن صراعاً خفياً كان يجري بالمفخَّخات خارج أسوار المدينة وداخلها. كانت السيارات أو الشاحنات تنفجر في أحياء العاصمة، فتقتل من المدنيين وعابري الطرق والعسكريين على حد سواء. وكانت تنفجر في تجمّعات المحتجين والمتظاهرين وتقذف أشلاءهم في دوائر متداخلة من العنف.
لكن بالنسبة إلى حسان كان كل ذلك مجرداً من الخصوصية، حتى شاهد جثة شقيقه ويديه متعلقتين بمقود السيارة في الشارع المنكوب. قبل أن ينزل وعي الشاب إلى مشهد آخر. «كان رجلاً أربعينياً ربّما، اقترب من السيارة، ظننته وأنا متيبس في مكاني أنه سيمدّ يده لانتشال ابن أخي، لكن ساعده تجاوزه إلى صندوق السيارة الداخلي». حمل الرجل حقيبة يد وجدها في الصندوق وهرول بعيداً من دون أن يلقي نظرة خلفه. «حزنت على أخي كثيراً، لكن سرقة ماله من سيارته وهو في هذه الحال أحزنني أكثر. ليس لأن للمال قيمة كبيرة (وكان بقيمة ألفي دولار أميركي من العملة السورية) وإنما لأنه مال يتامى الآن».
حمل الفتى شجونه تلك الليلة إلى بيته المشرَّع النوافذ واستلقى إلى جانب جثة شقيقه وابنه الملفوفتين ببطانيتين. في الصباح اجتمع رجال الأسرة، ودُفِن الاثنان بأسرع وقت ممكن، فيما كان أزيز الرصاص يرتفع في الأحياء المجاورة.
مرّت أيام ثم أشهر على الحادثة، تمكّن بعدها الفتى من الوقوف على قدميه، مستفيداً من الظروف ذاتها التي قتل فيه شقيقه وابنه. بدأ أولاً بإصلاح زجاج المنازل التي هشّمتها التفجيرات المفاجئة بنفسه، ثم توسّع عمله لاستبدال النوافذ والواجهات البلورية التي تتحطّم نتيجة تساقط قذائف الهاون والصواريخ على شوارع العاصمة وأسواقها. رفع أسعار تركيب البلور، بسبب «مخاطر المهنة من جهة وارتفاع الطلب من جهة أخرى»، كما تزامنت عروض سعره المرتفع مع ارتفاع سعر الدولار الذي بدوره انعكس على الزجاج المستورد والمصنّع. توسّع في عمله، وأصبح لديه ورشة، واتفق مع وكلاء لتسويق الزجاج المقوّى المقاوم للارتجاج، حتى أنه صار يقدّم عروض استبدال مرتين بأسعار محددة، وذلك تحديداً للمناطق التي لها حصة قذائف أكبر في المدينة.
وعلى اعتبار أن شركات التأمين المنتشرة في سوريا لم تكن تمنح تأمينات ضد قذائف الهاون، أو عمليات الإرهاب، عرض الشاب أسعاراً خاصة للاستبدال، كما لتغطية النوافذ باللصاقات التي تخفّف من إمكانية تهشمها.
انتقل مع تزايد القذائف المتساقطة من السماء، من شقته المستأجرة إلى جانب أسرة شقيقه، إلى منزلين أرضيين يدفع إيجارهما بنفسه. لكنه اختارهما بواجهة داخلية مطلة على أرض ديار صغيرة، لا تتسع طرقاتها المحيطة لحركة السيارات، كما لا تحتمل التجمّعات. يقول، وهو يراقب عاشقين يتمشيان بالقرب من شجر الزينة في حديقة مجاورة، إن «أقسى ما يمكن أن يحصل الآن هو أن يكون عليه أن يبدأ كل شيء من جديد»، معتقداً أن الله رغم هذا «منحه ما يعوّض به أولاد شقيقه عن فقيديهما ومالهما المسروق»، حتى لو جاء من «جحيم الحرب».
زياد حيدر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد