سليم الحص: نحن أهل السنة
قولي هذا، نحن أهل السنّة، قد يوحي بوقوعي في شرك الفئوية. معاذ الله، فأنا أستخدم العبارة لإثبات العكس. فأنا أقصد الحديث عن الرسالة التي تبناها ويتبناها أهل السنّة منذ أن كان لبنان. فهم عُرفوا بكونهم في طليعة المتمسكين بوحدة لبنان وعروبته. حملوا راية الوحدة الوطنية في لبنان في وقت كان بين اللبنانيين تيار يدعو إلى فدرلة هذا البلد الصغير، أي إلى اعتماد نظام اللامركزية السياسية فيه على قاعدة الفرز الفئوي الذي برز واحتدم في مراحل معينة، بخاصة خلال الأزمات التي توالت على لبنان منذ الاستقلال، وبعضها ارتدى طابعاً طائفياً أو مذهبياً. إلا أن أهل السنّة، في غالبيتهم العظمى، بقوا على العهد، أمناء على الوحدة الوطنية ووحدة الوطن. وكانت نظرتهم دوماً إلى الفدرلة، أو اللامركزية السياسية، بأنها صيغة تجعل البلد خطوة واحدة دون التقسيم، والتقسيم يعني عملياً نهاية الوطن.
جاءني يوماً أحدهم، من طائفة أخرى، يناقشني في جدوى الفدرلة ومنافعها، فتحدّيتُه أن يرسم لي حدود القطاع السني فيما لو قسّم لبنان على قاعدة الفرز الطائفي والمذهبي. كيف تكون حدود قطاع يشمل سنّة الجنوب الشرقي من لبنان وسنة عاصمة الجنوب صيدا وسنّة إقليم الخروب في الجبل، وسنة العاصمة بيروت وسنة البقاع الغربي وبعلبك وسنّة الشمال في طرابلس والمنية والضنية وعكار. إن انتشار أهل السنّة في كل مناطق لبنان يدحض حجة التقسيم على أساس طائفي ومذهبي. من هنا القول إن أهل السنّة كانوا وسيبقون من ضمانات الحفاظ على الوحدة الوطنية.
هذا لا ينفي وجود جماعات من أهل السنّة ضلوا الطريق في الآونة الأخيرة بفعل أحداث أو تطورات معينة فأضحى بعضهم أسير العصبية المذهبية الضيقة. تجاوز بعض هؤلاء عقدة الطائفية واستسلموا لعقدة المذهبية. هؤلاء باتوا يقولون، والحمد لله، إن العلاقة مع إخواننا المسيحيين يجب أن تكون طيبة، فقدرنا أن نعيش معهم بسلام وإلفة. ولكن حديثهم عن الشيعة يغلب عليه الجفاء. فلا تسمع منهم جواباً على السؤال: أليس قدرنا أيضاً أن نعيش مع هؤلاء بسلام وإلفة؟
الحق يقال ان الجفاء متبادل إلى حد ما بين بعض أهل السنّة وبعض أهل الشيعة. فما تسمعه من بعض أهل السنّة عن أهل الشيعة، تسمع مثله من بعض أهل الشيعة عن أهل السنّة. عند ذاك ينتابك شعور بأن مجتمعنا يعيش حرباً أهلية وإنما داخل النفوس وليس في الأزقة والشوارع والحمد لله، والفضل في عدم خروج الحرب الأهلية إلى الشارع يعود إلى إرادة الكثرة من اللبنانيين، الذين صمموا على عدم العودة إلى أجواء الحرب الأهلية التي خيّمت ما بين العام 1975 والعام 1990 هذا مع إدراك الفارق الخطير في أن الحرب الأهلية انتصبت خلالها خطوط تماس فصلت إلى حد معيّن ما بين الفئات. أما اليوم فلا خطوط فاصلة مذهبياً أو طائفياً، فإذا اشتعلت حرب أهلية في الشارع، لا سمح الله، فإن حصادها سيكون كارثياً. فالتداخل المذهبي قائم في عدد لا يحصى من المنازل، وداخل كل مبنى، وفي كل شارع في عاصمة هذا الوطن.
ولعل أفدح الأحداث التي وترت الأجواء المذهبية في بعض قطاعات المجتمع الجريمة النكراء التي آلت إلى استشهاد الرئيس رفيق الحريري. فإذا بأصابع الاتهام توجه إلى سوريا قبل أن يباشر أي تحقيق، علماً بأن التحقيقات الدولية التي أجريت حتى اليوم لم تؤدِ إلى هذا الاستنتاج. مع ذلك بقيت الشبهة في منزلة الاتهام لدى كثيرين، وقد ساعد على ذلك انزلاق وسائل إعلام ذات وزن إلى الترويج للشبهة، وكذلك مواقف دول كبرى تناصب سوريا العداء. وبين حلفاء سوريا في لبنان جهات وازنة ذات لون مذهبي معيّن.
نحن مع إقامة محكمة دولية، على أن تكون عادلة، فلا تُستغل من قوى دولية معينة لتسييس التحقيقات والمحاكمات. ويجب أن نبقى في انتظار نتائج التحقيق الدولي قبل إطلاق الاتهامات. ونحن مع ملاحقة كل من يثبت ضلوعه من قريب أو بعيد في الجريمة النكراء. ولكننا أيضاً مع الحفاظ على أطيب العلاقات مع الدولة السورية، وهي أقرب الأشقاء للبنان. وقد برهنت الأيام أن لا حياة للبنان في عزلة عن سوريا. كما لا حياة لسوريا في الانغلاق عن لبنان.
أما الفرقة السنّية الشيعية فظاهرة مدمرة لا يجوز أن تستمر لحظة واحدة. إن المذهب الجعفري أحد المذاهب الإسلامية التي يعترف بها الأزهر الشريف، تماماً كالمذاهب السنّية، ومنها الشافعي والمالكي والحنبلي والحنفي. الكل، على تفاوت الاجتهادات في الممارسة، يلتزمون الدين الحنيف بأركانه الخمسة: الشهادة والصلاة والصوم والزكاة والحج إلى بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً. ففي زحمة الحج المبارك لا يدري أحدنا ما إذا كان يتدافع في سعيه مع أناس من السنّة، لأي مذهب انتموا، أو من الشيعة.
يطيب لي أن أردد القول: إن الدين يجمع فيما الطائفية، وكذلك المذهبية، تفرّق. الدين رسالة مبنية على قيم سامية، من مثل المحبة والرحمة والإحسان والصدق والاستقامة والخير بمعناه الأوسع. وهذه القيم تنطوي على معانٍ متماثلة في شتى الأديان السماوية. الإسلام في ذلك كما المسيحية. لذا القول إن الدين يجمع. أما الطائفية فعصبية، والعصبيات تتصادم إذ تنبري كل منها إلى إلغاء الأخرى. لذا القول إن الفئوية تفرّق. فلنعتصم بالدين وننبذ الطائفية والمذهبية. بذلك نحفظ وحدتنا الوطنية ومن ثم مصيرنا.
وأهل السنّة كانوا ولا يزالون من سدنة العروبة في لبنان. في مرحلة من المراحل كانوا هم شارع جمال عبد الناصر الناشط في لبنان وسائر العالم العربي. فما بالنا نسمع اليوم من قلة خارجة عن الصف توازي بين الشقيقة سوريا والعدو “الإسرائيلي”، لا بل بعضهم لا يخفي إيثاره العدو على الشقيق. هذا في منزلة الكفر قومياً، ونحن نربأ بأي من شعبنا الوقوع في شركه. فالاعتبار القومي العربي اعتبار يتعلق بالمصير كما يتعلق بالمصالح الحيوية لشعبنا بصرف النظر عن توزعه الفئوي.
نحن أهل السنّة، إذ ننادي بالتزام القيم الإسلامية السامية، ندعو إلى الاعتصام بالدين ونبذ الفئوية، المذهبية كما الطائفية. وندعو وطنياً إلى التمسك بالوحدة الوطنية وقومياً إلى التشبث بعروبة بلدنا.
سليم الحص
المصدر: الخليج
إضافة تعليق جديد