سائق التاكسي لسكورسيزي: فييتنام في ادغال نيويورك
هناك أفلام كثيرة في التاريخ الحديث للسينما الأميركية تحدثت عن فييتنام. ومعظم هذه الأفلام عبر عن موقف معادٍ للتدخل الأميركي في فييتنام وغالباً من منطلق مباشر، أي من خلال تصوير الحرب أو تأثيرها على الذين خاضوها، أو قسوة المجازر التي ارتكبت خلالها، أو عقاب المجندين الأميركيين الذين رفضوا خوضها. هي عشرات الأفلام خاضت الحرب ضد تلك الحرب بأشكال مختلفة. ونعرف أن من أبرز تلك الافلام كانت تلك التي حملت تواقيع ستانلي كوبريك («سترة معدنية») وفرنسيس فورد كوبولا («يوم الحشر الآن» و «حديقة الجص») ومايكل يشيمنو («صائد الغزلان») وخصوصاً اوليفر ستون، في ثلاثة من أفلامه الكبيرة على الأقل. ومع هذا يبقى الفيلم الأكثر دنواً من حرب فييتنام، هو الفيلم الذي كان أكثر «ابتعاداً» عنها، جغرافياً على الأقل، من كل هذه الأفلام التي نذكر، مع أنه كان الأقرب منها، زمنياً، إذ حقق في السنة التالية لسقوط سايغون واكتمال الهزيمة الأميركية هناك (1975). وهذا الفيلم هو، بالطبع «سائق التاكسي» الذي حققه مارتن سكوسيزي في العام 1976، فكان اطلالته الكبيرة الأولى على العالم الخارجي، ما أتاح له أن يفوز بـ «السعفة الذهبية» لمهرجان «كان» الفرنسي في تلك السنة.
> ارتبط فيلم «سائق التاكسي» كما نعرف باسم مخرجه الذي صار يعتبر اليوم بعد ثلاثين سنة، واحداً من كبار السينمائيين الأميركيين الأحياء، لكنه ارتبط أيضاً باسمين كبيرين آخرين: باسم كاتب السيناريو بول شرايدر، الذي صار بدوره مخرجاً بعد ذلك من دون أن يحقق تحفاً كبيرة توازي «سائق التاكسي»، وباسم روبرت دي نيرو، الذي كان هذا الفيلم مدخله الى الشهرة العالمية التي جعلت منه، اليوم، اسطورة سينمائية حقيقية وحية، ما دفعه، بدوره، الى تجربة حظه في الاخراج، محققاً فيلمه الأول قبل سنوات عدة عن «البرونكس» مسقطه في نيويورك، وعارضاً هذه السنة فيلم «الراعي الصالح» الذي يتحدث فيه روائياً وبقدر كبير من القسوة والنقد عن ولادة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. ولكن في ذلك الحين كان دي نيرو ممثلاً فقط، شاباً صاعداً ذا أصل ايطالي – مثل كل الذين ساهموا في تثوير هوليوود بدءاً من تلك السنوات -، وكان قد برز في أفلام قليلة لم ترفعه الى ذروة المجد حتى وإن اسبغت عليه شهرة («العراب2» و «شوارع خلفية» لسكورسيزي نفسه). وهكذا كما يدين سكورسيزي لـ «سائق التاكسي» بما أصبح عليه لاحقاً، كذلك كانت حال شرايدر ودي نيرو. ولم يكن هذا الأمر مفاجئاً لأحد، ذلك أن هذا الفيلم القاسي والغريب، والذي لا شك في أن محبيه يعرفونه لقطة لقطة وجملة جملة، كان في حد ذاته ثورة في عالم السينما. بالاحرى كان الفيلم الذي أعلن انتهاء زمن البراءة حتى وإن كان تفكير ملي فيه وفي شخصية بطله تريفيس بيكل، سيكشف عن براءة هذه الشخصية، وكيف أن حرب فييتنام قضت على تلك البراءة، بل قضت على بقية ما كان تبقى لأميركا نفسها من براءة.
ومع هذا نذكر مرة أخرى بأن «سائق التاكسي» ليس فيلماً عن فييتنام. هو فيلم عن محارب كان في فييتنام في صفوف «المارينز» (البحرية الأميركية) فحارب وقاتل وقَتَلَ من دون أن يعي شيئاً مما يفعل، ثم عاد الى مدينته نيويورك ليعيش وحيداً في ادغال المدينة وقد تمكن من الحصول على وظيفة سائق سيارة تاكسي. من ناحية مبدئية قد يبدو لنا أن عمل سائق التاكسي عمل مناقض لفكرة الوحدة. فالسائق ولا سيما في نيويورك، يكون طوال الوقت مع ركابه، يراقبهم، يجاذبهم اطراف الحديث، يرصد حياتهم وتصرفاتهم. لكنه لا يكون هكذا ان كان قد مر قبل ذلك بجحيم حرب فييتنام حيث عاش مع الموت والدمار والهزيمة العامة والشخصية في آن معاً. ومن هنا نلتقط، نحن المتفرجين، تريفيس بيكل داخل سيارته، في شوارع نيويورك وعوالمها السفلية وهو وحيد صامت لا يتذكر شيئاً ولا يتوقع أي شيء. انه مثل غريب ألبير كامو – ولم يكن هذا صدفة اذ ان بول شرايدر، كاتب السيناريو الذي كان في ذلك الحين ينتمي الى جيل الرفض والاحتجاج الأميركي، قال دائماً انه وهو يرسم شخصية تريفيس، لم تبارح ذهنه ولو للحظة شخصية غريب كامو. ولعل علاقة هذا الأخير بحرب الجزائر، تشبه من منظور ما علاقة تريفيس بحرب فييتنام -. المهم ان تريفيس يعيش حياته اليومية وسط وحدته القاتلة. وإذا تكلم مع أحد فإنه يكلم نفسه عبر المرآة (ومن هنا السؤال الأشهر الذي يوجهه الى نفسه وهو يتمعن في مرآته: «هل تراك تتحدث الي؟»). غير ان عيش تريفيس هذه الوحدة، والتجوال اليومي في عوالم نيويورك السفلية وفي شوارعها وميادينها الرئيسة، ونظرته الباردة الى زبائن في سيارته يتبدلون على مدار الساعة، لا يعني أن ليس ثمة في داخله من يقاوم. بل على العكس، سنكتشف بالتدريج ان عنصر المقاومة في ذلك الداخل هو أكبر وأكثر فاعلية من عنصر الاستسلام. وهكذا مثلاً، إذ يجذبه التفاته الى فتاة حسناء تعمل ضمن حملة انتخابية سياسية، الى محاولة الانخراط في ذلك النوع من العمل السياسي، يصل به الأمر الى خيبة أمل، إذ يبدر منه ما ينفر الفتاة، وتتحول الخيبة لديه الى رغبة في القتل – القتل المجاني كما حال لعبة القتل في «الغريب» لألبير كامو -. غير ان تلك الخيبة، بدلاً من أن ترميه في سلبية هادئة مريحة، تقوده الى مزيد من الرغبة في فعل شيء ما، ومن دون الاهتمام بما إذا كان ذلك الفعل شريراً أو طيباً. فبيت القصيد ليس هنا، لا لدى تريفيس بيكل، ولا – بالطبع – لدى مارتن سكورسيزي، لأننا لسنا أمام فيلم وعظي يحاول أن يفرز الخير من الشر، بل نحن أمام فيلم موضوعه الفعل أو اللافعل. وفقط انطلاقاً من أن العقل يرتبط بالحياة، مهما كان لون الحياة، واللافعل صنو للموت... وليس للموت سوى لون وحيد هو لون الغناء. إذاً، فإن مجرد أن يرغب تريفيس في الفعل معناه أنه يميل الى الحياة ويبدي ما لا يقل عن رغبة غير واعية في الرد على هزيمته الخاصة – هزيمته الجوانية -، مرة في حرب فيتنام التي أخذت منه شبابه وبراءته، ومرة ثانية في هذه النيويورك، القاتلة، المملوءة بحيوانات الغابات والتي حين لا تقتل أبناءها تحولهم جزراً منفردة مستوحدة مستوحشة، لا منقذ منها سوى الموت أو الرحيل... ومن هنا، يتحول تريفيس بيكل ذات لحظة الى «غريب» كامو، بعدما كانت المدينة قد حاولت أن تجعل منه «هاملت» آخر، هاملت معاصراً يرى أمامه، فلا يدنو منه. تريفيس يدنو. بل انه يعطي دنوه في المرة الثانية شكلاً منظماً، خصوصاً أن الدنو هذه المرة يأتي لديه من خلال موقف له سمات أخلاقية – حتى وإن كانت غامضة – بعدما كان في المرة الأولى عبثياً: هذه المرة يريد أن ينقذ طفلة حولها القوادون عاهرة وهي بعد لا تتجاوز الثانية عشرة من عمرها (الدور الأول الكبير لجودي فوستر التي كانت لا تزال في ذلك الحين طفلة). وهكذا في محاولة جادة منه، هذه المرة، لتحقيق ذاته والرد على هزائمه، ومن ثم الثأر من هذه المدينة التي يديرها الأشرار واللصوص والقوادون، يتمنطق تريفيس بالسلاح، ويزين وجهه وشعره بأشكال تجعله شبيهاً بالهنود الحمر – وهذه دلالة مهمة من دلالات الفيلم -، ثم يقصد مقر العاهرة الصغيرة، ليقتل قواديها بعنف سنخمن انه لم يمارسه حتى وهو يقاتل «أعداء الوطن» في فييتنام...
> ذلك هو إذاً، الموضوع الذي اختاره مارتن سكورسيزي ليدلي من خلاله بدلوه، في مجال الحديث، في ذلك الحين، عن الموضوع الذي كان يشغل أميركا كلها في ذلك الحين: موضوع فييتنام. ولعل أجمل ما في هذا كله هو أن مارتن سكورسيزي، ابن مدينة نيويورك، والذي حقق فيها وعنها القسم الأعظم من أفلامه حتى اليوم، هو أنه قال فييتنامه وموقفه من فييتنام من دون ان يبتعد هو، أو يبعد بطله، عن هذه المدينة. ومع هذا كانت المعادلة، كما نعرف، رابحة، إذ منذ «سائق التاكسي» صارت سينما مارتن سكورسيزي سينما حاضرة، ومحضرة معها نيويورك، في خريطة السينما العالمية، ونعرف ان سكورسيزي، بعد تلك الذروة الأولى، حقق أفلاماً رائعة تالية، كان روبرت دي نيرو، بطل معظمها، كما كانت نيويورك هي البطلة، ومن أبرز تلك الأفلام «عصابات نيويورك» و «بعد الدوام» و «فتية طيبون» ثم حقق أفلاماً أخرى، في الذهنية نفسها، وإن كان خرج بها من نيويورك، مثل «كازينو» و «الطيار» و «آخر اغواء للمسيح» و «إيقاظ الموتى» (هذا أعاده الى نيويورك)، و «المرحّلون» آخر أعماله حتى الآن.
إبراهيم العريس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد