ذاكرة البطيخات
عام 1900 وبضع مئات من السنوات قبلها ..
كانت الماما تهدهدني في حضنها الواسع وهي تقص عليَّ شفهيا حكاية الشاطر حسن ومصباح علاء الدين ومغامرات السندباد في بلاد السند والهند قبل العودة ظافرا إلى بغداد . لكن قبل بدء حكايا النوم ، هناك حكايا نهارية أخرى أكثر متعة وتشويقا أخبئها في ذاكرتي الفتية وأنا أراقب الماما بدهشة تحمل عشر بطيخات بيد واحدة وتقوم بكل أعباء المنزل وحدها ، فأركن قربها لألحس ماتصل إليه أصابعي الصغيرة من مربى المشمش والكباد والنارنج التي تصنعها من سكّر القلب ، وأستمتع برؤية البخار المفعم برائحة الصابون البلدي المصنوع يدويا في المنزل يفوح من الغسيل داخل مرجل نحاسي ضخم فوق الحطب الملتهب . وخلال الوقت الذي يستغرقه الغسيل ، يمكن للماما الماهرة أن تصنع أكثر من عشرين صنفا من المخللات وتحشو أكثر من سبعين كيلو من باذنجان المكدوس وتدقّ هبرة الكبة لتصنع منها لاحقا أكثر من مائتي قرص مقلي أو مشوي تفوح رائحتها حتى سابع جارة في سابع حارة . وحين تنتهي من أعباء المطبخ التي لاتنتهي ، تلتفت إلى حياكة ملابس العائلة الصوفية الشتوية ، ثم الصيفية الناعمة ، مرورا بأكثر من خمسين قطعة من الملابس الداخلية القطنية التي ستعطرها لاحقا بورق الورد والغار ، وبالطبع لن تسهو خلال ورشة الخياطة عن درز الشراشف والوسائد وتقطيب بيوت الملاحف التي ستحيك لها خصيصا بعض أطراف الدانتيلا والغيبور والتنتنا والكروشيه لتمنحها الفخامة الضرورية، حتى لو كانت خدعة بصرية للإيحاء بغنى دارنا وثرائنا المعنوي . كل ذلك قبل أن تتفرغ للبابا في الليل ، فتمسد له قدميه المتعبتين وتدلك ظهره المنهك وتلاعبه البرجيس وتغلبه غالبا ، ليقضي البابا ليلة هانئة بين أحضان الماما التي تغمره بالحب والدانتيلا ، قبل أن تصحو مع الفجر وتحضر له زوادته وتدعو له بالصحة والرزق ، لتعود بعد خروجه وتفتتح مهام يومياتها آنفة الذكر .. وهذا دواليك .
عام 1963..
الماما تقرأ لي قبل النوم من المجلات الملونة المتوفرة مغامرات ميكي ماوس وتان تان والبطة دونالد . لكن قبلها هناك بالتأكيد قصص أكثر إثارة ، حيث أراقب الماما كيف تعصر بيد العصارة الغسيل داخل صندوق الغسالة الكهربائية التي دخلت بيتنا وصارت كل يومين تدور وتلف دون أن تدوخ ، يفوح منها رائحة برش صابون جاهز تشتريه الماما من الدكانة، وبالتأكيد يمكن للماما الجديدة الماهرة مثل الماما عام 1900، أن تستغل وقت الغسيل وتتصل بالتلفون (أبو قرص ) لتحضر مالذ وطاب من طعام جاهز ، ويمكنها أن تتصل بالتيتا لتطلب منها أن تحسب حسابها بالمونة بعشر قطرميزات مكدوس وعشرة للمخللات وأخرى للمربيات ، وتوصيتها على خمسين قرصا من الكبّة يمكن أن تخزنها في الثلاجة التي دخلت البيت ومعها دخل صندوق التلفزيون جالبا الدهشة والبهجة والسعادة . كل ذلك تفعله الماما قبل أن يأتي البابا من عمله ويقرأ الجرائد ويتناول الطعام ، ليخرج مجددا هو وماما ويقضيا سهرة ممتعة في السينما أو المسرح ، يعودا بعدها وينامان هانئين ليستيقظا مجددا نشيطين ، يذهب هو إلى عمله ، وهي لعند الخيّاطة التي تفصّل لنا الملابس والشراشف والملاحف والوسائد بلا دانتيلا ، حيث يمكن للماما بعدها قضاء بعض الوقت والمشاركة بنشاطات واحدة من حركات التحرر النسائي المنتشرة ، التي خفّضت جديا عدد البطيخات العشر التي تحملها النسوة بيد واحدة ومنهن ماما ، وجعلتها تسعة ونصف .
عام 2006 ..
لم أعد أقرأ قصصا أو يقصّها علي أحد قبل النوم ، وإن اشتقت للقصص يمكنني متابعتها بأفلام كرتون في واحدة من مئات المحطات التلفزيونية . وإن لم تعجبني يمكنني إحضار أقراص أفلام جاهزة والتسلية على الكومبيوتر والأنترنيت ماأشاء. الماما ، التي وظف علماء التكنولوجيا خلال السنوات الخمسين الماضية كل جهودهم لاختراع الأجهزة التي تريحها ، إلا أن المسكينة ولسبب غير مفهوم مازالت تحمل عشر بطيخات بيد واحدة ، وفوقها تسع بطيخات ونصف . حيث تبتدئ يومها بين وظيفتها التي تستهلك منها أكثر من عشر ساعات ، ومايتبقى من يومها تقضيه في سيارتها بين السوبر ماركت لشراء أقراص الكبة وقطرميزات المخلل والمكدوس والمربيات ، ثم تعرج لشراء الملابس والشراشف والوسائد والملاحف الجاهزة بدانتيلا من صنع المعامل . وحين تعود أكون أنا نائما، ويفوتني بالتأكيد مراقبة دوران الغسالة الأوتوماتيك بعد منتصف الليل ، حيث أن الماما تستغل هذا الوقت بمهارة ، وتطهو بعض الأطعمة بالمايكرويف ، وتتابع ماتبقى من عملها على الكومبيوتر ، قبل أن يعود بابا منهكا أكثر ويسبقها إلى النوم، دون أن ينسى أن يرسل لها رسالة على الموبايل( تصبحي على خير )، ليناما الساعات القليلة المتبقية من الليل ، ثم يباشر كل منهما عمله في اليوم التالي، تماما كما في اليوم السابق .
عام 2050 وعدد غير معروف من السنوات التي تليها ..
ليست لدي ذاكرة أو قصص شيقة عن الغسيل والمكدوس والدانتيلا . ليس أمامي إلا جهاز كومبيوتر متطور للغاية ، يحاول أن يكون لطيفا ويناجيني ، وبدوري أقدم للـ ( المازر بورد ) بداخله باقة ورد حمراء بمناسبة عيد الأم ، فقد صارت أمي التي أعيش معها ليل نهار ، حيث أنني لم أعد أرى الماما إلا في المناسبات ، ولا أستطيع أن أحصي عدد البطيخات التي باتت تحملها بيد واحدة . وهكذا دواليك.
كوليت بهنا
المصدر: مجلة جهينة
إضافة تعليق جديد