دمشق تشرب المياه وريفها يكتفي بالتعلل
قبل عقود قليلة مضت كانت المناطق القريبة من دمشق وخصوصاً تلك التي تقع ضمن نطاق حوض بردى ترفل بغدق وافر من المياه العذبة، حينها لم تكن مناطق كالزبداني وبلودان ومضايا وسرغايا وغيرها تشكو من أي نقص في المياه بل على العكس كانت هذه المناطق أماكن اصطياف يشار إليها بالبنان لكثرة مياهها ونقائه بل حتى تلك المناطق البعيدة عن حوض بردى كمناطق الغوطة الشرقية كان يصلها الكثير من خيرات نهر بردى فلم تكن هي الأخرى تعيش أزمة نقص في المياه.
كل ذلك كان أيام زمان.. أيام كان بردى بحق (هبة دمشق) وأيام كان للفيجة طعمها الخاص.
اليوم يبدو أن أشياءً كثيرة تغيرت فلم تعد الفيجة فيجة، ولا بردى الذي كان يتغنى به الشعراء كبردى هذه الأيام، وشيئاً فشيئاً بدأ شبح العطش يحوم ليس فقط حول الريف البعيد عن دمشق فحسب بل حتى المناطق الواقعة على الحوض لم تعد بمنأى عن خطر محدق باتت تلوح بوادره في الأفق ليصبح الأمر واقعاً لا محالة بسبب عوامل كانت سنوات الجفاف المتعاقبة سبباً رئيسياً في استفحالها، ولكن يظل الاستهلاك الجائر سبباً هو الآخر في ظلّ الانفجار السكاني الحاصل في دمشق وريفها.
لا يكاد يخلو أي شارع من الشوارع الراقية بدمشق من مظاهر هدر المياه كغسل السيارات صباح مساء وشطف الأدراج وسقاية حدائق المنازل الفارهة وان كانت هذه التصرفات تقل حدتها في الشتاء إلا أن الأمر يستفحل ويزيد حدة في فصل الصيف والذي لا يكاد يمر فيه يوم إلا وتطالعنا الصحف اليومية والمواقع الإخبارية بعبارات الاستغاثة والتوسل لمكافحة هدر المياه وترشيد استهلاكها مدعومة بعبارات الويل والثبور لكل مسرف، وتكون النتيجة في غالب الأحوال نداءات تذهب أدراج الرياح فلا حياة لمن تنادي ويستمر الهدر والاستهلاك الجائر وعلى عينك يا تاجر.
ويسير هدر وإسراف المياه بالتوازي مع وجود أكثر من /100/ مغسل في دمشق معظمها يستخدم مياه الشرب لغسيل السيارات إضافة إلى عشرات المسابح والمشاتل والورش الصناعية التي تستخدم مياه الشبكة بطرق غير قانونية، كل ذلك يحدث في ظلّ معاناة حقيقية من نقص مياه الشرب شهدتها المناطق القريبة من دمشق وضواحيها، والتي كانت تتلوى عطشاً لأسابيع وربما أكثر في الوقت الذي تشكل فيه هذه المناطق مصادر مهمة لتزويد دمشق بالمياه.
أمام هذا الوضع كان لابد أن تطفو على السطح بضع أسئلة تتعلق بفرضية أن تكون دمشق التي تتزود بالمياه على حساب الريف العطش أصلاً مسؤولة بشكل أو بآخر عن ازدياد الوضع المائي في الريف تأزماً، خاصة إذا ما علمنا أن طبيعة المصادر التي تغذي دمشق بهذه المياه يأتي جلها من ريف دمشق.
حسب مصادر مؤسسة المياه بدمشق يعتبر نبع الفيجة المصدر الرئيسي لتغذية مدينة دمشق بمياه الشرب وهناك أيضا آبار الينابيع الجانبية عين حاروش و دير مقرن ويتم استجرار مياهها عندما ينقص تصريف النبع الرئيسي عن حاجة دمشق وتؤمن بحدود 1م3/ثا في عام وسطي الهطول.
وبتفصيل أكثر فإن دمشق تتزود بالراحة من نبع الفيجة 2 م3/ثا ومن نبع بردى 1,1 م3/ثا ومن الآبار المحيطة بدمشق 1,5 م3/ثا و 12 ألف م3 يومياً من نبع عين حاروش.
والمصدر الثاني لدمشق هي مصادر سهل الزبداني وهي آبار نبع بردى الذي يعد المصدر الداعم الأول لنبع الفيجة، حيث تم حفر مجموعة من الآبار في منطقة الزبداني وبدأت مؤسسة مياه دمشق باستثمارها منذ عام 1995 بواقع 95 ألف م3 يومياً ويتم استجرارها عندما تقل كمية المياه المنتجة من منطقة نبع الفيجة عن احتياج دمشق وتقوم المؤسسة في سنوات الجفاف بضخ 20 ألف م3 يومياً من آبار نبع بردى لأغراض الري في سهل الزبداني، بالإضافة إلى مصادر وادي مروان (الديماس) وهذا مصدر رديف ويتألف من مجموعة من الآبار العميقة تضم 18 بئراً إنتاجياً ويبلغ إنتاجها الحالي حوالي 16000 متر مكعب يومياً.
و هناك مصادر جديدة غرب دمشق تتوزع على طول الشريط الحدودي، حيث إن الكميات المتوقع استجرارها تقدر بحوالي 28 مليون م3 سنوياً منها: آبار جديدة يابوس ويتوقع أن يتم استجرار 20000 م3 يومياً وآبار معدر وتبلغ الطاقة الإنتاجية المتوقعة 20000 م3يومياً، حيث تم حفر 18 بئراً ومن المتوقع أن يتم وضعها في الخدمة في نهاية عام 2009.
ومن المصادر أيضاً آبار دير العشاير وبطاقة إنتاجية متوقعة تصل إلى 20000م3 يومياً، حيث تم حفر 10 آبار ويتم حالياً المباشرة بحفر 5 آبار وسيتم تنفيذ هذا المشروع إما بتمويل محلي وإما بمنحة يابانية عام 2008. وآبار بسيمة والطاقة الإنتاجية المتوقعة لها 10 آلاف م3 يومياً، حيث تم حفر 6 آبار وسيتم وضعها في الخدمة.
وهناك مصادر نطاق حوض دمشق وهذه المصادر هي داعم لنبع الفيجة، حيث تقوم المؤسسة باستجرار مياه آبار مدينة دمشق من 15 محطة ضخ إنتاجية وتتوزع في أنحاء مدينة دمشق وتصم 184 بئراً تؤمن تصريفاً وسطياً يقدر لـ 1.2 م3/ثا لمدة سبعة أشهر في السنة ويتم تشغيلها عندما تقل كمية المياه المنتجة من نبع الفيجة وآبار سهل الزبداني عن احتياج مدينة دمشق.
ما سلف كان سرداً سريعاً لأهم المصادر التي تتزود منها دمشق بالمياه ولعل نظرة متأنية لهذه المصادر وأماكن تواجدها تدلل على صحة ما كنا ذهبنا إليه سالفاً وهو أن دمشق ترتوي على أكتاف الريف العطش أصلاً ونقول العطش لأن المتابع لأوضاع محافظة ريف دمشق وعلى امتداد توزعها الجغرافي يلمس مدى معاناة أغلبية قرى ومدن المحافظة من نقص شديد في المياه خاصة خلال فصل الصيف.
صحيح أن مشكلة المياه بدمشق وريفها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالجفاف ونضوب الآبار وقلة الهاطل المطري خلال السنوات الماضية، إلا أن ما زاد من طين هذه المناطق بلة هو الاستنزاف الجائر من قبل البعض وخاصة في دمشق، حيث تنتشر كما أسلفنا مغاسل السيارات وتتنوع أساليب الإسراف المعتادة كسقاية الحدائق وغيرها إضافة إلى تطور الحياة من خلال ازدياد الطلب على الماء والاستغلال العشوائي والجائر للمياه الجوفية، كل ذلك أدى إلى اتساع الفجوة بين العرض والطلب على المياه وبات الأمر يشكل عبئاً متزايداً على الوضع المائي الذي يزداد حرجاً مع تقدم الأيام وخاصة بمحيط دمشق، أي المناطق التابعة لمحافظة ريف دمشق. والتي تحملت أعباء هذا الوضع أكثر من مناطق دمشق بدليل أن أقصى مدد التقنين في دمشق خلال الصيف لم تتجاوز عشر ساعات، بينما كانت بعض مناطق الريف تعيش دون مياه لأيام وربما لأسابيع حتى بات لسان حال سكان قرى ومدن ريف دمشق (يا رب هل يرضيك هذا الظمأ والماء ينساب أمامي زلالاً).
ولأن الشيء بالشيء يذكر فمن المناسب أن نلقي في هذه العجالة نظرة سريعة على مصادر مياه مدن وبلدات الريف ومدى استفادتها من مصادر المياه الموجودة في أراضيها والتي تزود دمشق بالمياه علماً أن احتياجات الريف تصل إلى 120 مليون م3 سنوياً للشرب.
وحسب مصادر مؤسسة مياه ريف دمشق فإن وضع المياه في المحافظة وكمياتها تتنوع بين منطقة وأخرى، فقرى بيت سابر ودربل وبقعسم ودير ماكر تغذى عن طريق الآبار التي تقل مياهها في الصيف وتتأثر في فترات الجفاف ويجف بعضها مثل قرى كوكب ودروشا وجديدة عرطوز وعرطوز وهذه المناطق تعاني من نقص شديد لمياه الشرب.. وتشرب قطنا من نبع الباردة في بلدة عرنة ونبع رأس النبع، وتؤمن مياه داريا من مشروع جر مياه الغوطة القريبة من خلال آبار في قرية ريمة في سفوح جبل الشيخ التي تقل صيفاً لتعوض عن طريق الآبار..وتؤمن مياه تجمعات جرمانا والسيدة زينب وببيلا وسبينة وشبعا والمليحة وعين ترما وزملكا وكفر بطنا وحمورية وجسرين وبيت سوى من مياه الآبار بنوعية سيئة جداً وهناك نقص شديد لمياه قرى خربة الشياب وخربة الورد والمعلقة ونجها.. أما منطقة دوما وحرستا والضمير وضاحية الأسد بحرستا والمدينة العمالية بعدرا وبلدة عدرا والتجمعات الأخرى تؤمن مياهها من السلسلة الجبلية من عمر كريتاسي بنوعية جيدة، لكن الحامل المائي بدأ يعاني هبوطاً في منسوب المياه الجوفية ما يهدد باستنزاف الحامل. ويشرب سكان النبك من آبار موزعة على سلسلة جبال لبنان الشرقية وعلى سلسلة جبال شرق النبك من عمر كريتاسي بنوعية جيدة للمياه وكافية باستثناء مدينة النبك وبئري الحميرة والقسطل اللذين يتميزان بارتفاع درجة حرارتهما ووجود غاز الكبريت.
ويشرب سكان يبرود من آبار موجودة على سلسلة جبال لبنان الشرقية في رأس المعرة وآبار بالقرب من التجمعات السكانية وتعاني من نقص في مدينة يبرود وعسال الورد..
ويشرب سكان القطيفة من آبار موجودة على السلسلة الجبلية الممتدة شمال مدينة القطيفة وجيرود والناصرية من عمر كريتاسي بكميات كافية ونوعية جيدة إلا أن هناك نقصاً في مدينة الرحيبة بسبب فاقد الشبكة الكبير وتؤمن لقرى جبعدين والتواني من مشروع المجر جنوب شرق بلدة عسال الورد وتؤمن معلولا وعين التينة من آبار خان العروس.
وتؤمن مياه التل من آبار ذات تصاريف نوعية وجيدة والوضع المائي مستقر في حلبون ومعرة صيدنايا ورنكوس وحفير التحتا وهناك نقص في صيدنايا وتلفيتا بسبب ضعف المصدر المائي وفي بلدتي بدا وحفير الفوقا التي تتغذى من منطقة عكوبر.
وتعاني الكثير من آبار هذه المناطق من ارتفاع النترات التي أخرجت هذه الآبار من الخدمة.
قد يقول البعض: إن من المناطق المذكورة ما هو بعيد عن دمشق ولا يعتبر مصدراً لتزويد دمشق بالمياه ولكن ومع اتفاقنا مع هذا الرأي غير أن ذلك لا يعني أن هذه المناطق المذكورة لم تتأثر بكميات المياه المستجرة وخير دليل على ذلك منطقة الزبداني التي يعتبر سهلها (سهل الزبداني) مصدراً أساسياً لتزويد دمشق فمن كان يسمع بأن منطقة الزبداني في محافظة ريف دمشق تعاني أزمة حادة في مياه الشرب يعتقد للوهلة الأولى أن ذلك نكتة ممجوجة على اعتبار أن المنطقة معروفة عبر التاريخ بكثرة مياهها، حيث تنتشر الينابيع حولها من جميع الجهات، لكن ذلك لم يشفع لها أو يمنع عنها شبح المعاناة بسبب الاستجرار الزائد من الحوض وهناك حسب المصادر مشروعات عديدة باشرت مؤسسة مياه الريف بالإعداد لها منها حفر آبار في الزبداني وكذلك الأمر في سرغايا والإعلان عن حفر آبار في بلودان والروضة ومضايا وهي كلها من المناطق التي طالها شبح العطش في وقت كان الماء ينساب من حول هذه المناطق زلالاً.
الدكتور موفق خلوف مدير المؤسسة العامة للمياه نفى فرضية أن تكون دمشق مسؤولة بشكل أو بآخر عن نقص المياه في الريف مشيراً إلى أن نبع الفيجة ومنذ التاريخ هو المصدر الرئيسي للمياه في دمشق، فقد قام العثمانيون بجر مياه النبع إلى دمشق عام 1908 وتوزعت المياه عبر 400 سبيل آنذاك، وعلى عكس ما يطرح البعض يقول خلوف:إن المناطق الواقعة على مجرى النبع وتلك الواقعة على حوض بردى كعين الخضرة والفيجة وحتى قدسيا تسقى من مياه النبع وتعتبر هذه المناطق تابعة لمؤسسة مياه دمشق، وأكثر من ذلك يلفت خلوف أن المؤسسة تتعاون بشكل كامل مع مياه الريف للتقليل من حدة نقص المياه الحاصلة في الريف ويطرح عدة أمثلة على ذلك منها إعطاء 24 ألف متر مكعب من المياه يومياً لمناطق الغوطة الشرقية في ريف دمشق وأيضاً قامت المؤسسة بحفر آبار في منطقة رخلة وأمنت مصدراً للمياه بطاقة 20 ألف متر مكعب وأعطي هذا المصدر لريف دمشق.
ما المشكلة إذاً؟ هنا يرى خلوف أن ما فاقم مشكلة مياه الريف هي مسألة الهدر الحاصل ومعروف أن اغلب مناطق الريف هي مناطق زراعية على عكس مناطق دمشق لذلك يذهب قسم كبير من المياه في قرى ومناطق الريف للزراعة على حساب مياه الشرب وما يزيد المشكلة هو الطرق القديمة التي يعتمد عليها بعض الفلاحين وهي طريقة الري عن طريق الغمر وهذا يؤدي إلى استنزاف هائل للمياه. ويوضح خلوف أن الحل يكمن بإدارة متكاملة للمياه وإعطاء الأولوية للشرب أولا ثم يحول الفائض إلى الزراعة بشرط أن تتبع طرق الري الحديث.
المؤسسة وعن طريق المشروعات التي نفذتها أو تلك المزمع تنفيذها تأتي في إطار ما سماه مديرها الاستفادة من المصادر المائية غير المستغلة والتي تتجدد باستمرار بهدف التقليل من الضغط على المصادر الرئيسية والتي لم تصل إلى مرحلة الخطر أو استنفاد الاحتياطي الاستراتيجي وحسب ما أشار مدير المؤسسة هناك سعي دائم للبحث عن مصادر جديدة للمياه تستطيع أن تقرب بين معادلة العرض والطلب عن طريق البحث عن مصادر جديدة غير مطروحة كتلك التي نفذتها المؤسسة عام 2007 وهي مصادر مياه جديدة يابوس وهناك أيضاً مياه زائدة غير مستغلة في نبع الفيجة، حيث قامت المؤسسة بحفر 5 آبار بطاقة إنتاجية تبلغ 12 ألف متر مكعب يومياً وخلال شهر آذار المقبل سيدشن هذا المشروع.
ومن المشروعات المستقبلية للمؤسسة أشار خلوف إلى مصدر للمياه في منطقة دير العشاير بطاقة 20 ألف متر مكعب وسيتم البدء بالتنفيذ خلال العام الجاري وهناك خطة في عام 2009 لجر مياه من مصادر جديدة في منطقة معدر ستوصل مع محطة الضخ الجديدة في جديدة يابوس.
الاستجرار غير النظامي من الشبكة وصفه خلوف بالعمل غير النظامي وغير الأخلاقي معتبراً أن البعض ما زال بحاجة لما يسمى ثقافة ترشيد الاستهلاك وهذه تحتاج إلى وقت حتى تعمم ولكن ما يبشر بالخير – كما قال خلوف – هو الشكاوى التي ترد للمؤسسة عن التجاوزات الحاصلة من قبل البعض وهذا يشير إلى أن المواطن بات يتلمس حجم الخطر وهذا بداية الطريق لتعميم ثقافة الترشيد.
المشروعات التي ذكرها خلوف آنفاً تأتي في إطار زيادة المتوفر من المياه وهناك أيضاً مشروعات أخرى لترشيد الاستهلاك فقد قامت المؤسسة بتقليص حاجة مدينة دمشق من المياه من 680 متراً مكعباً إلى 540 ألفاً فقط وذلك عبر استبدال الشبكات القديمة، وهناك بحث دائم عن الخطوط القديمة لاستبدالها إضافة عن التنقيب المستمر عبر أجهزة خاصة عن التسربات التي قد تحصل للشبكة.
المصدر: مجلة المال
إضافة تعليق جديد