حرب أخرى منسية
تملك الكائنات البشرية أنظمة مناعية عاطفية قوية، و تملك المجتمعات الإنسانية قدرة كبيرة على النسيان الجماعي.و ذات مرة وفي حديثه عن تأثير حلقة الأخبار على الذاكرة التاريخية كتب "ميلان كونديرا" :"المذبحة الدموية في بنغلاديش غطت بسرعة على تذكر الغزو الروسي ل تشيكوسلوفاكيا ، الحرب في صحراء سيناء جعلت الناس ينسون أليندي ، المذبحة الكمبودية أنست الناس سيناء، و هكذا و هلم جرا إلى أن يتمكن كل واحد من جعل كل شيء منسيا."
و بطريقة مماثلة قد يقول مؤرخو عصرنا :كان هناك غزو و احتلال للعراق ، حرب بلغت حد الجريمة ، و لكن سرعان ما تبعها حروب أخرى ، أزمات مالية ، و إحباط اقتصادي و وجدنا أننا في مواجهة مشاكل كافية بحيث لا نفكر بالماضي.
لقد ترك الأميركيون حرب العراق وراء ظهورهم ، إذ تبدو و كأنها حدث مخجل من الأفضل عدم ذكره في الأوساط المهذبة.وإدارة أوباما مليئة بالصقور الليبراليين الذين دعموا حرب العراق ،و تقوم شخصيات من إدارة بوش السابقة بالتوقيع على كتب و القيام بمؤتمرات صحافية و مقابلات للحديث عن " الأخطاء التي حصلت"، فحرب الخيار تتحول بسرعة إلى خطأ مشؤوم ما كان من الممكن تفاديه، خطأ لم يحصل بيد السياسيين و المفكرين القابعين داخل شرانقهم و إيديولوجياتهم المتهورة ,و لكنه حصل بسبب "سقطة ذكاء".
و من المحتمل بأن الأميركيين يشعرون بأنهم مع انتخاب رئيس يملك الشجاعة لمعارضة حرب العراق منذ البداية قد كفروا عن ما حدث و يستطيعون الآن المضي في حياتهم السياسية الوطنية .فلم يدر أي حديث عن محاسبة أي من القادة الوطنيين الذين حلموا بالحرب و نفذوها،و فكرة محاكم جرائم الحرب لقادة القوة العظمى أشبه بالفانتازيا و بعيدة جدا عن الواقع السياسي.
و هكذا و بينما تناضل العائلات العراقية و الأميركية التي فقدت كل شيء في الحرب لأجل الوصول للاستقرار و إعادة بناء حياتها ، فان الغالبية العظمى من الأميركيين غارقة في التفكير بالتبخر المفاجئ لثرواتهم و مدخراتهم و أعمالهم بحيث لا يملكون دقيقة للتفكير بالعراق .
و لا يمكن إنكار حدة المشاكل التي يواجهها الأميركيون حاليا و لكن قدرتنا على اجتياز المشاكل المستقبلية تعتمد على قدرتنا على التعلم من أخطاء الماضي. و معظم الأميركيون وصلوا للإدراك بأن حرب العراق كانت غلطة و هذه بداية هامة .و لكن التحدي الذي يواجهه مؤيدو السلام هو إظهار أن الحرب كانت غلطة حتى و لو كانت ناجحة بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية.
و بالعودة للوراء حين كانت الاعتمادات السهلة متدفقة و أسعار البورصة جيدة و حقيقة الفشل الأميركي في العراق لم يتم الإقرار بها بعد ، كان الرئيس بورش لا يزال يمتلك شعبية كافية للفوز ثانية بالانتخابات. و الرأي المعارض للحرب الذي ظهر بعد انتخابات 2004 و قاد الديمقراطيين للفوز في الانتخابات الوطنية عام 2006 و 2008يجب أن يرى كما هو، أي مزاج و ليس إعادة تنظيم في السياسات الأميركية ،ليس انقلابا شاملا على الحرب و لكن إدراك بأننا خسرنا حربا محددة ، الحرب على العراق.
البعض قد يعترض بالقول أن أميركا تكسب الحرب في العراق ، و لكني أقول بأنه لا يمكن لمراقب منطقي ، يرى مجمل المغامرة العسكرية الأميركية في العراق ، أن يستنتج إمكانية وصف القيادة الأميركية بالنصر.
المدافعون الأميركيون عن السلام أقنعوا الغالبية العظمى من الأميركيين بوجوب كون الانسحاب من العراق أولوية ،فلقد وضحنا أن نظرية المحافظين الجدد و أفكارهم حول نشر الديمقراطية بقوة السلاح سخيفة و يجب أن يحاسب مؤيدوها لأخطائهم في العراق و أماكن أخرى ، و لقد بذلنا الجهد لانتخاب الكثير من السياسيين الصريحين المعادين دون خجل للحرب على العراق، و لكن عملنا بعيد عن الكمال إذ ينبغي أن يلعب مؤيدو السلام دورين هامين في المجتمع : أولا يجب أن نكون مدركين تماما للحركات و الدسائس في الدولة و حذرين و جاهزين للوقوف في وجه أولئك المتورطين في حروب غير عادلة و كلها تقريبا غير عادلة . ثانيا يجب أن نتصرف كموجهين فنعمل باستمرار على إزالة التفاوت النفسي الذي يبعد الناس عن أولئك الذين هم أعداءهم أو من سيصبحون كذلك.
علينا العمل لإسباغ صفات إنسانية على الآخرين ، مؤكدين على الحياة الشخصية الإنسانية التي يحجبها عنا ستار التصنيفات و التحامل و العنصرية .و قد يعني هذا في أميركا المعاصرة دعم دراسة اللغات العربية و الفارسية و الصينية ، و قراءة الأدب الإسلامي و زيادة عدد برامج التبادل الدراسية ، فكل خطوة صغيرة لها أهميتها .و قد تمكن كتاب حديث تحت عنوان " مطابخ محور الشر" من إحداث هزة أخرى للإيديولوجيات التي تمنح قيما أقل لحياة المواطنين في دول تعتبر عدوة . و فيلم مثل " المليونير المتشرد" و روايات بقلم كتاب مثل "خالد حسيني" قد وضعت الآلاف من الغربيين أمام طرق بديلة و أكثر إنسانية وواقعية للنظر إلى الشرق الأوسط.
أعمال كهذه تساعد لتحريرنا من الروايات المتحاملة و القائمة على الصراع و التي تعلمناها من مراقبة أخبار المساء.
و على العكس اللامبالاة تؤدي إلى البعد العاطفي ، فتعاطفنا الأكبر يكون مع الأقرب إلينا من أهل و أصدقاء و يكون التعاطف في حده الأدنى مع الأشخاص في الجانب الآخر من العالم .
يجب أن يهدف التثقيف السياسي إلى محاربة اللامبالاة و الحيلولة بين الناس و أحكامهم المسبقة ، و إحدى الطرق الهامة لانجاز هذا هو الاحتفاظ بذاكرة الحرب و آثارها على الأشخاص الذين ضاعوا في رحاها ،و مع تراجع ذكر العراق في العناوين الرئيسية وغيابها عن الذاكرة العامة لترك مجال للصراع التالي ،فإننا نتحمل مسؤولية التفكير بمليوني لاجئ عراقي شردتهم الحرب و عشرات الآلاف من الأميركيين و العراقيين الذين قتلوا أو شوهوا من الحرب .و ما علينا تذكره ليس الإحصائيات و لا الروايات العامة و لكن القصص الشخصية و أي علاقة تربطها بقيم الحكمة و الإنسانية و اللا عنف.
و مع ذلك كما أظهرت حرب العراق،فان ذاكرة فظائع الحرب لا تبدو قوية كفاية لمنع حرب تالية و توفير سلام دائم . هل يستطيع الأشخاص و الموجهون تغيير ذلك؟هل يمكن لضمير أمة أن يتفوق على توقها للقوة السياسية و الأولوية الدولية؟
هناك أمل ، ففي العالم المعاصر نجد طيفا واسعا من الدول و السياسات ,كل منها أكثر أو أقل عنفا، أكثر أو أقل ولعا بالحرب و أكثر أو أقل ديمقراطية من غيرها. و بالبقاء واعيين سياسيا و العمل على تحسين فهمنا للعالم و النضال لأن نعيش قيمنا شخصيا و سياسيا نستطيع استخدام قوتنا الصغيرة للعمل تجاه عالم أفضل.
*بقلم ريان ماك كارل الدارس لعلم الأخلاق في جامعة شيكاغو و منها حصل أيضا على ماجستير في العلاقات الدولية .
ترجمة رنده القاسم عن موقع Antiwar
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد