توماس بنشون الحالم بمدن أسطورية

06-10-2011

توماس بنشون الحالم بمدن أسطورية

توماس بنشون, كاتب أمريكي ولد عام 1937 في كلين غوف, التابعة لولاية نيويورك, درس الهندسة والآداب في وقت واحد. عمل محرراً تقنياً في كل من شركة بوينغ لصناعة الطائرات وقوات النيفي الحربية, يتميز باطلاعه الواسع على علوم وتقنيات ذلك العصر, إضافة إلى موهبته الأدبية الخارقة والتي صقلها بحصوله على الإجازة بالأدب من جامعة كورنيل.

أقلع توماس بنشون عن فكرة الزواج طيلة فترة شبابه إلى أن دخلت مكتبه ذات يوم فتاة في الخامسة والعشرين لتشغل وظيفة مديرة أعماله, فوقع وهو في سن الثالثة والخمسين بحبها, فتزوجها وأنجب منها ولداً, إنها ميلاني جاكسون, ابنة حفيدة الرئيس الأسبق تيودور روزفلت. ‏

عرف عن توماس بنشون, منذ بداية شهرته الواسعة, عزوفه عن الأضواء, وزهده بالجوائز الأدبية الرفيعة, إثر نشر روايته الأولى بعنوان «في» التي وضعته في المقام الأول من كتاب مابعد الحداثة في الولايات المتحدة, وفتحت الطريق أمامه لنيل جائزة وليام فوكنر, وهي أرفع جائزة أدبية في الولايات المتحدة. ‏

روايته الأولى «فيV» التي أسالت الكثير من حبر النقاد والصحفيين في سبعينيات القرن الماضي, ونصبته حتى هذا اليوم, كواحد من أهم الكتاب المعاصرين في الأدب الأمريكي الحديث, تنطلق من هذا الحرف الأبجدي الذي عثر عليه الكاتب كرمز لغزي في دفتر مذكرات والده, وهو يمثل على الأرجح أول حرف من اسم فتاة كان والده الراحل يحبها, ترسم بلغة سردية ساخرة, وناقدة بعمق, لمعالم عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي, التي اتسمت بتألق جميع أشكال الفنون والأدب, كصعود موسيقا الجاز, والأصوات الغنائية المتميزة في معظم أنحاء العالم, بما فيها وطننا العربي, وانفجار حركات التحرر, في معظم القارات, وصولاً إلى أوجاع حرب فييتنام, هذا الجرح المفتوح في عمق الوجدان الشعبي الأمريكي. ‏

يقودنا توماس بنشون, في روايته الساحرة «في» من شوارع القاهرة التي كانت تغلي, وتكاد تنفجر على هيئة ثورة شعبية عارمة إثر موت الرئيس جمال عبد الناصر, إلى مدينة لوس أنجلوس التي كانت تزهو بازدهار اقتصادها ونجاحاتها, وتفوقها على سواها من الولايات الأمريكية, لتنتهي عند فضيحة ووتر غيت التي أطاحت بالرئيس ريتشارد نيكسون, وأقصته عن البيت الأبيض, وكذلك الجروح المفتوحة التي تسببت بها حرب فييتنام على البنية النفسية للمجتمع الأمريكي. ‏

بعد نيله جائزة أفضل كتاب أمريكي, توارى توماس بنشون عن الأنظار فترة طويلة من الزمن, حتى كاد يختفي ذكره من عالم الثقافة والإبداع الأدبي, إلى أن ظهر من جديد عام 1990 بروايته «فينلاند», ثم أتبعها بعد سبع سنوات بروايته «ميزون وديكسون» عام 1997, كختام للقرن الماضي. ‏

في كل مرة كان توماس بنشون يتوارى فيها عن الأنظار, تشتد الرغبة لدى الصحفيين لمعرفة مكان وجوده, بهدف الاستئثار ولو بخبر موجز عنه. لكنهم لم يفلحوا إلا مرة واحدة, عندما توصلت محطة «سي.إن.إن CNN» إلى معرفة مكان عزلته, في مزرعة نائية, شبه معزولة عن أي تجمع حضري. ‏

كان ذلك قبل ثلاث سنوات من نشر روايته ما قبل الأخيرة عام 2008, بعنوان «ضد اليوم». ‏

سأله الصحفي من محطة CNN الذي اقتحم عليه خلوته في المزرعة, بطاقم تصوير ضخم, محدثاً جلبة صاخبة في الحديقة, أملاً بالحصول على حديث شائق معه: لماذا أنت انطوائي إلى هذه الدرجة؟ هل تكره الناس؟ ‏

أجابه توماس بنشون بهدوء وبرودة أعصاب: أنا لست انطوائياً كما تزعم. ولا أكره الناس كما تعتقد. أنا فقط أكره الصحفيين الوقحين من أمثالك. ‏

في روايته الأخيرة «العيب المتأصل», الصادرة أواخر العام الماضي في العاصمة البريطانية لندن, يعود توماس بنشون, بحنين إلى دفء عوالم رواياته الأولى في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي, التي يعتبرها المرحلة الذهبية من تاريخ الولايات المتحدة. يقص علينا, بأسلوب السرد البوليسي تارة, والتأمل الفلسفي الوجودي طورا, ويقودنا إلى عوالم الاغتراب الفردي في مجتمع تحكمه قيم المادة, لكنه سرعان ما يفلت من سطوتها عندما تقتحم العواطف المختلفة, من حب وغيرة, ورغبة بالاستئثار, فتحوله إلى كائن آخر. ‏

هذا ما حصل لبطل الرواية, ميكي وولفمان, الثري, عملاق المقاولات العقارية في ولاية كاليفورنيا, عندما انزلقت قدماه ذات يوم إلى حانة شعبية في لوس أنجلوس, يرتادها شبان وشابات هيبيون, فسكنت روائح دخان الماريغوانا أنفه, وأخذ يتردد كل يوم إلى تلك الحانات الرخيصة, وكأنه اكتشف عالماً سحرياً, كان يجهله كلياً, مقارنةً مع أجواء البذخ والرخاء التي عاشها طيلة حياته, إلى أن أخذ قراره ببيع كل ممتلكاته دفعة واحدة, والرحيل مع مجموعة الشبان الهيبيين إلى صحراء كولورادو, من أجل بناء مدينة سكنية متكاملة, فيها كل ما هو موجود في المدن الأخرى بشكل مصغر, وبما يكفي لكي تعيش المجموعة المتآلفة حياة هادئة, بعيدا عن القوانين التي تحكم المدن الأمريكية. ‏

يأخذ توماس بنشون القارئ في هذه الرواية إلى آفاق بعيدة من اليوتوبيا الحالمة, المدينة الأسطورية, أو ربما جمهورية أفلاطون المثالية, كرد صارخ على بشاعة الرأسمالية التي جعلت الحياة كلها مجرد سلع, يحتاج فيها المرء إلى الكثير من المال, كي يحصل على القليل من الملذات والطمأنينة. ‏

يندد توماس بنشون وهو يعانق الثانية والسبعين عاماً, بما حل بمجتمعه اللاهث وراء المادة, وبنظامه السياسي الذي تحول إلى آلة متوحشة لقهر الشعوب الآمنة فيما وراء البحار..يصرخ من مدينة الثري الحالم في عمق صحراء كولورادو, مهيباً بالآخرين أن يسلكوا الطريق نفسه, في إعادة تشكيل مدنهم, بشكل حالم, أكثر إنسانية وانسجاما مع الفطرة البشرية ذاتها, ومع الطبيعة أيضاً. ‏

في تلك المدينة الحالمة في جوف الصحراء, يتراءى لسبورتيلو, أو هكذا يقص على وولفمان, حلمه, بأنه ولد فوق هذه الأرض الرائعة قبل ثلاثة مليارات من السنين, وأنه قد وصل إلى أميركا الحالية عبر آلة زمنية اخترعها الكهنة في غابر العصور. ‏

تتساءل إحدى الشخصيات في روايته «ضد اليوم» قائلة: ما هي أحلام اليوتوبيا؟ أليست شكلاً من أشكال السفر عبر الزمن؟ ‏

«عيب متأصل» أراد الكاتب الأمريكي توماس بنشون من خلالها أن يقول كل ما فاته القول في رواياته الست السابقة, فأتت جامعة لشجونه, وحنينه لأيام ومراحل من العمر, لايخفي تعلقه بها, وليثبت من خلالها أيضاً, أنه لايزال رائد أدب مرحلة مابعد الحداثة بلا منازع, حتى أيامنا هذه. ‏

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...