تحوّلات «النصرة»: «سكّين الزرقاوي» على الرّف... مرحليّاً
ما الّذي حلّ بفكرة «فك ارتباط جبهة النصرة» عن التنظيم الأم «القاعدة»؟ ولماذا صمتت الأصوات التي تعالت في المرحلة السابقة مطالبةً بذلك؟ وكيف توقّف الضّخ الإعلامي المتعلّق بهذه القضيّة؟ جملة أسئلة لا بدَّ من طرحها، وخاصةً في ضوء المؤشرات على اختلاف أداء «النصرة ــ تنظيم القاعدة في بلاد الشام» في المرحلة الراهنة عنهُ في مرحلة «ما قبل إدلب». المتغيّرات بدأت مع الكلمة المسجّلة لزعيم «النصرة» أبو محمّد الجولاني، التي نُشرت مطلع نيسان الماضي.
ورغم أن الجولاني بدا حينَها في مظهر من يدعو إلى «منهجيّة» جديدة لتنظيمه، غيرَ أنّ الدعوة في حد ذاتها لم تكن لتعتبر تحوّلاً لولا أنّ المُعطيات على الأرض عكست شيئاً من ذلك، ما يجعل كلمة الجولاني تلك بمثابة فاصلة بين مرحلتين. وخلافاً للصورة التي صبغت أداء «النصرة» إبّان دخول مدينة إدلب نهاية آذار الماضي، فإنّ المرحلة التالية اتّسمت بالتزام «جنود الجولاني» الإخلاص لـ«راية جيش الفتح»، لتغيبَ عن التداول الإعلامي صور رايات «القاعدة» في المناطق التي سيطر عليها الأخير وحلفاؤه بعد إدلب، (جسر الشغور، والمسطومة مثلاً). حتى المقاطع والصّور التي أظهرت «راية التوحيد»، فقد خلا معظمُها من ذكر اسم «القاعدة»، واكتفى بـ«النصرة». كما اقتصر رفعه على الآليّات والتجمعات الخاصّة بها، فلم تُطالعنا على سبيل المثال صورٌ لرفع «راية القاعدة» بدلاً من العلم السوري في «دوّار اللاذقية»، على غرار ما حصل في مواقع كثيرة سابقة مثل مبنى محافظة إدلب. أمّا صورة السيارة التابعة لـ«الجبهة» في جسر الشغور وعلى واجهتها صورتا أبو مصعب الزرقاوي، وأسامة بن لادن فلم يروّج لها كثيراً على صفحات «النصرة»، وكأنّ أمراً ما قد صدر بسحبها من التداول.
«منهجيّات» جديدة
تؤكد معلومات متقاطعة أنّ المظاهر المذكورة لا تعدو كونها «جزءاً من منهجيّات جديدة عمّمت قيادات جبهة النصرة على عناصرها وأمرائها ضرورة الالتزام بها في المرحلة الراهنة». يوضح مصدرٌ «جهادي» مرتبط بـ«النصرة» أنّ «كلمة الشيخ الفاتح (أبو محمد الجولاني) كانت ملخّصاً لمنهج عمل الجبهة في الفترة الراهنة». المصدر أكّد أنّه وبالتزامن مع نشر الكلمة المذكورة «صدرت تعليمات واضحة وصارمة عن الشيخ الفاتح، وبتأييد من مجلس الشورى تضمّنت محدّدات لعلاقة النصرة ببقية الفصائل، وبسكّان المناطق والمدن المحرّرة». ووفقاً لمعلومات ، فإن التعليمات الجديدة لم تأتِ من فراغ، أو بمبادرة من الجولاني، بل جاءت «ثمرة مشاورات طويلة على أرفع المستويات الشرعيّة والعسكريّة، داخل النصرة، والقاعدة، وفي محيطهما». وتوحي المؤشّرات بأنّ تلك التعليمات كانت بمثابة حل وسط بين «إعلان فك الارتباط»، والتمسّك به. انخرطت في النقاشات شخصيّات «جهاديّة» معروفة، داخل سوريا وخارجَها. منها من هو على تماسٍ مباشر مع الميدان مثل السعودي عبد الله المحيسني، ومنها من يواكبُها من دون الانخراط اليومي فيها مثل السوري أبو بصير الطرطوسي (عبد المنعم حليمة). ومنها من يُعتبر «مرجعيّة رمزيّة عُليا» مثل أبو قتادة الفلسطيني (عمر محمود عثمان، أردني من أصل فلسطيني). وقامَت على أساس البحث عن حل بديل من «فك الارتباط» بما «يخدم ضرورات المرحلة الجهاديّة»، شريطة ألّا يؤدي إلى «انفضاض المجاهدين عن جبهة النصرة في حال ابتعادها عن تنظيم القاعدة». استندت «المنهجيّات» الجديدة إلى «ضوابط شرعيّة» يندرج معظمُها تحت باب «فقه الضرورات وسد الذرائع»، ومنها ما يندرج تحت باب «فقه الاختلاف». وخلُصت إلى جملة أوامر «عُمّمت على الأمراء العسكريين والشرعيين» وفقاً لمصادر، وهي أوامر تحاول في معظمها الحفاظ على العلاقة مع «الفصائل الأخرى» من جهة، ومع «البيئة الحاضنة» من جهة أخرى. كما تحرص على «عدم منح الإعلام فرصةً لتشويه صورة المجاهدين»، و«قطع الطريق على دعاة القوميّات الساعين إلى استغلال الظروف لضرب الجهاد ومنع المجاهدين من تمكين شوكتهم»، وفقاً للمصادر.
«لا حدود» قبل «التمكين»
أبرز ما ركّزت عليه التعليمات الجديدة كان «تطبيق الحدود» (العقوبات “الشرعية”). وانطلاقاً من أنّ «تطبيق الحدود في حال انعدام السلطان أو ضعفه هو فرض كفاية»، صدرت الأوامر بوجوب «تحاشي إقامة الحدود ما أمكن في دار الحرب». وهي «منهجيّة» تخالف ما دأبت عليه «النصرة» في المرحلة السابقة، حيث دخلت في ما يشبه سباقاً مع تنظيم «الدولة الإسلاميّة» في «إقامة الحدود». كما نبّهت التعليمات الجديدة إلى ضرورة «الابتعاد ما أمكن عن بث صور ذبح الجنود النصيريين»، من دون أن يعني ذلك عدم نشر صور جثث الجنود الذين يسقطون في المعارك.
في الشأن الإعلامي أيضاً، نصّت التعليمات الجديدة على وجوب «إظهار العلاقة الطيبة بين المجاهدين، وعوام المسلمين من أبناء المناطق المحرّرة». كما على «ضرورة تسليط الضوء على المجاهدين الأنصار (السوريين) في الإصدارات والتغطيات، وعدم اقتصار ذلك على المهاجرين (من الجنسيات الأخرى)». الأمر الذي يندرج على ما يبدو في باب التمهيد لـ«سورنة جبهة النصرة». كذلك، تبلّغت «المؤسسات الإعلاميّة» التابعة لـ«النصرة» وجوب «التزام الإشارة إلى جيش الفتح في الإصدارات والتغطيات»، الأمر الذي يصب في خانة «الحفاظ على العلاقة مع الفصائل الأخرى». وبات معروفاً أنّ «جيش الفتح» هو عبارة عن «غرفة عمليات» ضمّت «النصرة» وحلفاءها مثل «حركة أحرار الشام الإسلاميّة»، و«الحزب الإسلامي التركستاني لنصرة أهل الشام»، و«جبهة أنصار الدين». وهي «الغرفة» التي تمكنت من السيطرة على مدينة إدلب، وتواصل العمل على السيطرة على كامل محافظة إدلب. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى التزامن بين خروج تحالف «جيش الفتح» إلى العلن، والحملة الإعلامية الكبيرة التي تناولت «فك الارتباط» ويُرجّح أنّه تزامنٌ مقصود ويصبّ في خانة «بروباغندا» إعادة تصدير «النصرة» في معزل عن «القاعدة».
«جسم سياسي» لـ«جيش الفتح»؟
مع نهاية الشهر الماضي، تعالت بعض الأصوات «الجهادية» على مواقع التواصل الاجتماعي مطالبةً بـ«تشكيل جسم سياسي لجيش الفتح» يستلهم تجربة «حركة طالبان». وبرّر المطالبون الأمر بأنّ «الائتلاف وغيره من هيئات المعارضة السياسية تحاول الركوب على انتصارات مجاهدي جيش الفتح، ويجب قطع الطريق عليهم». مصدر «جهادي» أكّد أن «مثل هذا النقاش يدور في الكواليس بجديّة، ولكنّ الأمر لا يزال في حاجةٍ إلى التأنّي». المصدر أوضح أنّ «مثل هذه الخطوة لا يمكن أن تتمّ من دون دراسة مستفيضة، ونقاشات مع بعض الجهات الداعمة». وقال المصدر إنّ «المرجح في هذه المرحلة أن يتم تمثيل بعض فصائل جيش الفتح في جسم سياسي شامل، من دون أن يعني ذلك طي الاقتراح السابق نهائيّاً».
إدلب: جسر بين «الإخوان» و«النصرة»؟
مثلَما بدت السيطرة على مدينة إدلب بوّابة لمرحلة جديدة تحمل تغيرات في أداء «جبهة النصرة» على صُعدٍ عدّة، تبدو المحافظة الشّماليّة مؤهّلة للتحول إلى جسر يُمهّد لتطوّر العلاقة بين «النصرة» و«جماعة الإخوان المسلمين». وكانت شخصيّات بارزة في «الجماعة» قد دعت «النصرة» إلى «فك ارتباطها بالقاعدة»، كما حثّت كوادر «الجماعة» على العودة إلى سوريا وقصد «المناطق المحرّرة»، وإدلب على وجه الخصوص. ومن المعروف أن كثيراً من أعضاء «الجماعة» ينحدرون من مناطق عدّة في إدلب، ومعظمهم يعيش خارج سوريا
صهيب عنجريني
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد