بيينال الشارقة في دورته الثامنة
تتطرّق الدورة الثامنة من بيينال الشارقة (من 4 نيسان الى 4 حزيران) الى التحديات الاجتماعية والبيئية المتصاعدة التي يواجهها العالم بسبب التطور المفرط والاطماع السياسية والاقتصادية، وبسبب الاستهتار في استهلاك الموارد الطبيعية واستنزافها. من خلال الاعمال التي يقدمها هذا المعرض الضخم، يجري التركيز على دور الفن المتجدد في مخاطبة نطاق واسع من القضايا التي تؤثر في الحياة التي نعيشها. بحسب المنظمين (دائرة الثقافة)، فان البيينال لا يحاول أن يطلق الاحكام أو يملي على الناس طريقة معينة في الحياة، بل يهدف الى اثارة هذه الهموم وتعميقها لامتلاك فهم أوسع للحياة وتدارك مسؤوليات المواطنين ازاء الطبيعة. عدد كبير من الفنانين يشاركون في هذا البيينال ويتورطون في إشهار الاسئلة وتأجيجها، هادفين الى توريط جميع قطاعات المجتمع في استمرار التساؤل حول ممارساتنا الاجتماعية والسياسية والبيئية والتي يمكن أن تفضي الى اعادة صوغ علاقة الانسان مع الكوكب الارضي، بما يمنحها ديناميكية متجددة.
يتضمن البرنامج العديد من النشاطات الفنية وعروض الافلام والندوات الفكرية، بالتعاون مع الجامعة الاميركية في الشارقة والجمعية الملكية للفنون والبيئة و"لاتيتيودز ـــ برشلونة"، بالاضافة الى معرض استعادي لدورات بيينال الشارقة السابقة. ويشارك في هذه التظاهرة 80 فناناً من مختلف انحاء العالم، تدور اعمالهم في فلك البيئة وتداعيات العبث بها. تتوزع النشاطات بين أمكنة متفرقة، اي بين متحف الشارقة للفنون ومركز "اكسبو الشارقة"، ومنطقة التراث. هناك ايضاً نشاطات تقام في اماكن خارجية ضمن التجمعات السكنية والمواقع الطبيعية، من مثل بحيرة خالد، حديقة ميسلون، ميدان الرولة، ملعب الكريكيت،...الخ. انها اماكن غالباً ما لعبت دوراً اساسياً في بلورة الفنون البصرية في دولة الامارات. فعلى مساحة مكونة من 5200 متر مربع، يعتبر متحف الشارقة مثلاً من أهم معالم منطقة الفنون في شارع الشويهيين، ويستضيف منذ عام 1995 نشاطات فنية عدة من الداخل والخارج، ويحتوي على مقتنيات من أعمال المستشرقين التي تعود الى القرن الثامن عشر، والعديد من الاعمال المعاصرة لأجانب وعرب. أما مركز "اكسبو الشارقة" الذي مرّ على تأسيسه 30 عاماً، فهو المكان الرسمي لاقامة المعارض المحلية والدولية، بحيث انه ينظم سنوياً أكثر من عشرين معرضاً.
وتهدف الندوات المرافقة للبيينال الى البحث في ملامح العلاقة بين الثقافة والبيئة وما في ذلك من تحديات وتناقضات، مركزةً الحدث على العمل المتميز في مجال العمارة والفنون البصرية عبر تكنولوجيات جديدة. يطرح هذا اللقاء الفكري محاور جريئة في دولة تهيئ نفسها للمستقبل والتغييرات الاتية والعولمة. ومن الاسئلة التي نعثر عليها في اطار النشاطات المحاذية: ما دور المعماريين والمصممين والفنانين في شؤون الاسكان والمجتمع؟ مع تزايد الضغوط على الموارد والمساحات وتقلبات المناخ السياسي، كيف يمكننا التقليل من الأخطار قبل وقوع الكوارث بدلاً من التعامل مع تبعاتها؟ هل يمكن التصميم والمعمار ان يلبسا رداء سياسياً؟ هل يقبل المصممون والفنانون على المواد المعاد تصنيعها؟ وكيف يؤثر ذلك في وجهة نظرنا تجاه المادية في الفن والعمارة؟ ما هو مستقبل المدينة كموطن للانسانية؟ فالبيوت تزداد كثافة والمساحات التجارية والثقافية والاجتماعية والمخصصة للبنى التحتية تتضاءل مما يتناقض مع رغبة الانسان في الإنوجاد في مساحات مفتوحة... في ظل هذه الظروف، ما مستقبل المدينة ككائن غير حيّ، وكمتفاعل ثابت تقطنه كائنات حيّة؟
الى اللوحات والتجهيزات، يشكل بيينال الشارقة كذلك فرصة لمشاهدة بعض الافلام ذات الصلة بموضوع البيئة، وهدف هذه العروض السينمائية القاء نظرة متأنية على قضايا واسعة المدى، من الطبيعة الحسّية والرمزية لمادة الماء الى حالة قطاع المناجم في الصين، مروراً بتأملات أكثر شاعرية حول ميراث الكفاح للتحرير والاستقلال. تحت شعار "طبيعة صامتة: الفن والبيئة وسياسات التغيير" عرض عدد من الافلام، كان أولها الفيلم الطويل "يوميات نود راسموسن" لايغلوليك ايسوما وزاخارياس كونوك ونورمان كون. استلهم مخرجو هذا الشريط من حياة سكان الاسكيمو الذين تراوح أعمارهم بين كبار السن الذين ما زالوا على قيّد الحياة، والشباب الباحثين عن مستقبل يتجاوز السأم والبطالة والانتحار، محاولاً الاجابة عن سؤالين ظلا يلحّان على المخرج زاخارياس طوال حياته: "من نحن؟ وماذا الذي حدث لنا؟". أما الفيلم القصير الاخر لأوكي هيرويوكي المعنون "شكل قصر اخوة ماتسوماي كون ـــ 1" فهو امتداد لمشروع التخرج الذي قدمه كون حين كان يدرس العمارة في الجامعة، وهو عبارة عن مسلسل. يفصح الفيلم المتوسط الطول "نهر الزجاج" (اندريتش زدرافيك) العلاقات الانسانية عبر التركيز على المياه والصراعات حول حقوق المياه وذلك من خلال سينما تجريبية غير روائية ونشطة. هذا الفيلم يغوص على المشاهد في المياه الزمردية لنهر ستوشا في سلوفينيا. يطلب الشريط من المشاهدين أن يغيّروا وعيهم بعالم الطبيعة. نهر الزجاج يشق فضاء يجعلهم يتأملون علاقتهم بالعالم الطبيعي وكيف يوظف هذا العالم في الفيلم وفي الحقيقة.
ويتكوّن فيلم "800 متر تحت السطح" (يانغ شايوبين) من محورين يدوران حول حياة عمال مناجم الفحم، متناولاً اعماق هذه البيئة ومحيط العمال ومساكنهم، ومركزاً على عمليات الانتاج في مناجم الفحم، مقدماً رؤية ممتعة لحياة العمال حين يخرجون الى سطح الارض. انها حياة لا تزال محجوبة في الظلام وتغيب فيها امكانات الهرب. ومن خلال التجربة الشخصية والسفر تلتقط رهافة احساس الفنان قضايا معقدة تكتشف الجانب الانساني داخل دورة الانتاج. اما "الشبح الافريقي" لأيزيك جوليان، فينسج مرجعيات سينمائية ومعمارية من خلال تصورات غنية للحياة المدنية في واغادوغو، مركز السينما في افريقيا، والمساحات القاحلة في المنطقة الريفية حول بوركينا فاسو. تتخلل وقائع الفيلم فواصل مستمدة من مادة أرشيفية لحوادث الحملات الاستعمارية المبكرة واللحظات التاريخية الفاصلة في التاريخ الافريقي.
ويعتمد فيلم "شار أد يهياي" لكومار شاهاني على رواية قصيرة كتبها طاغور عام 1934، ويتناول المرحلة الارهابية التي تخللت حركة الحرية الهندية. سمحت امرأة اسمها ايلا لنفسها بأن تصبح تميمة حيّة متحركة ومتكلمة بين مجموعة إرهابيين. انها تمثل حضوراً أنثوياً مريحاً لشابة تمزق احترامها لذاتها بسبب تجربة السيطرة الاستعمارية. أما الفيلم الاكثر شهرة الذي يعرض في بيينال الشارقة فهو "كابوس داروين" لأوبير سوبير، الذي أحدث ضجة كبيرة في فرنسا لدى صدوره هناك، وهو يتناول التجربة العلمية التي جرت في بحيرة فيكتوريا والهادفة الى تقديم نوع جديد من الاسماك، لكن هذا الاختبار ادى الى كارثة بيئية شملت البحيرة المذكورة آنفاً.
هوفيك حبشيان
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد