بين الحداثة والتجديد في الأدب
مصطلح الحداثة شيء، والشعر العربي المعاصر شيء آخر. ولا يمكن إضافة الأول إلى الثاني بمعزل عن الشرط التاريخي والسياقات الثقافية والاجتماعية والدينية والسياسية التي نشأ هذا المصطلح من خلالها، وأدى به بالتالي إلى ما يشبه حجر الفلاسفة الذي ذاع صيته وكثر الحديث حول وجوده من دون أن يتعرف عليه أحد. لذلك ينبغي في هذه الحال أن يدور الكلام حول محورين اثنين، لأنهما يشكلان المرجعية التاريخية الطبيعية التي تؤسس القاعدة التي تنهض عليها تلك السياقات.
أول المحورين يرتكز الى مفهوم الحداثة باعتباره مفهوماً غربي المنشأ والتطور، وكذلك الأثر الفاعل في الحضارة الحديثة. أما الآخر فهو يوجد باعتباره مفهوماً يجسد بصورة أو أخرى، وعي النخبة العربية المثقفة باعتباره وعياً يعكس عمق المأزق الذي وجد نفسه فيه أمام نفسه ومجتمعه، وكذلك تراثه وأمام الحياة والواقع، وذلك إبان الانتكاسات والهزائم التي مني بها المجتمع العربي من جهة، والمد الفكري والفلسفي والأدبي والعسكري الذي جاء من الغرب من جهة ثانية. وما بين هذين المحورين نكتشف أن القصيدة العربية منذ مطالع القرن العشرين دخلت في خط الصدمة الحضارية، التي خلخلت القيم والمفاهيم في الثقافة العربية الإسلامية منذ عصر النهضة وما تلاها من مشاريع تنويرية وتقدمية، لم يستطع الفكر ولا الأدب أن يتواصلا معهما على رغم الاجتهادات التي حاولت تأسيس ذلك.
في ما يخص المحور الأول ينبغي أن نشير أولاً إلى أن جوهر الحداثة الغربية هو نقد الأبدية من جهة، ونقد اللاهوت المسيحي من جهة أخرى على رغم عدم مشروعية الفصل بينهما إلا إجرائياً.
ولكن ما معنى ذلك؟ معناه يكمن في كون أوروبا وجدت نفسها منذ آخر القرن السادس عشر في نهضة حضارية شاملة طاولت كل ميادين الحياة المادية والروحية والفنية على السواء. وقد توجت هذه النهضة بثلاث ثورات مؤثرة: الانكليزية، والفرنسية، والبلشفية. ثم جرت بعدئذ محاولة في الفكر الغربي للبحث عن مرجعية تاريخية يعيد من خلالها وصل حضارته بالماضي. وعليه كانت نظرية الأصول اليونانية الإغريقية للحضارة الغربية تأسست وانتشرت وطغت على الدراسات الفكرية والفلسفية. وإذا ظلت هذه النظرية مهيمنة على الخطاب الغربي حتى خمسينات القرن المنصرم بسبب النظرة المركزية التي سيطرت على التفكير الأوروبي، فإن مصطلح الحداثة من جانب آخر ظل مرتبكاً ومتناقضاً لا يحيل إلى معنى محدد، وتضاربت آراء النقاد والمفكرين والباحثين حول الطبيعة الدلالية لهذا المصطلح، فحصره بعضهم في أدب القرن العشرين، وجعله بعضهم الآخر رديفاً للحركة الرومانسية في القرن التاسع عشر، والبعض منهم ركّبه عنواناً للحضارة الغربية برمتها. وهناك من قال: بدأت الحداثة من حيث انتهت الحركة الرومانسية، وهكذا. ولكن في دراسته القيمة حول الأدب الغربي سعى الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث الى الإمساك بعمق التحولات الفكرية والأدبية التي طاولت التاريخ الأوروبي، ولم ينزلق إلى الحديث عن إشكاليات التسمية، وإنما استعاض بدلاً منها بمقولة الجوهر: نقد الأبدية واللاهوت المسيحي. هذا السعي أفضى بباث عن حق الى التعرف على المكونات الرئيسة التي غيرت ليس الأدب الأوروبي فقط، وإنما الأدب العالمي بطريقة أو بأخرى بما فيها الأدب العربي بطبيعة الحال.
إن نزع القداسة عن الدين المسيحي ومن ثم تحويله إلى حدوده الدنيا، أثر بصورة أو أخرى في الأدب الغربي، إذ كان المعول النقدي الغربي يكسر الزمن المسيحي الدائري المغطى بالقداسة ليجد الإنسان الغربي نفسه أمام زمن حداثي خالٍ من التقديس ومعرى أمام عقلانية محضة. وبالتالي أصبح هذا الزمن الجديد بوطأته الثقيلة على الإنسان الغربي بالدرجة الأولى هو الحس المأسوي والتراجيدي الذي طبع نتاج الأدب الغربي سواء في الرواية والشعر والمسرح أو في الفن والسينما. وهذا ما نجده في «التربية العاطفية» لفلوبير، «البحث عن الزمن الضائع» لبروست، ورسوم براك، وشعر فرنسيس بونج، ورواية «الغريب» لألبير كامو. لكن اللاهوت المسيحي من جهة أخرى انتقم لنفسه من الحضارة الغربية - كلمة انتقم هنا ينبغي أن تفهم مجازياً وليس حرفياً - وذلك من طريق الشعر. كيف تم ذلك؟ في منتصف القرن التاسع عشر زمن بودلير ورامبو ومالارميه ولوتريامون الذين يسميهم الشاعر فرلين «الشعراء المنحطين»، اسس هؤلاء الشعراء نظرتهم إلى الشعر بصفته الحياة السرية الصافية، أو المجهول المطلق الذي ينبغي الكشف عنه خلف الحياة الظاهرة. لذلك دعوا للوصول إلى هذه الحال عبر خلط الحواس وتشويشها، وأن يصبح الشاعر رائياً. ولا يمكن من خلال هذه الدعوة الشك مطلقاً في مدى صلة هذه النظرة إلى الشعر بالحركات السرية الصوفية المسيحية اليهودية التي انتشرت في أوروبا قبل أن يصفّيها كلها المجمع الكنسي في روما باعتبارها حركات وثنية تعادي المسيح. لذلك ما يمكن تسميته بالشعر الحديث أو الأدب الغربي ليس في عمقه سوى الانقلاب الروحي ضد ما خلفته الحضارة الغربية على مجتمعها من أزمات كبرى في الحياة. وهنا تكمن المفارقة الكبرى: الأدب الحديث هو في العمق منه ضد التسمية نفسها، وتجاوز هذه التسمية إلى أمر آخر هو الرهان الذي يسعى إليه الأدب الحديث على اختلاف توجهاته.
إذاً على خلفية هذا المحور ننتقل إلى المحور الثاني الذي يركز بدرجة كبيرة على المحطات التي كان فيها الشعر العربي في إطار التجديد. إن هزيمة الجيوش العربية عام 1948 لها انعكاساتها في وعي النخب العربية المثقفة سياسياً وثقافياً وأدبياً. لكن ما قبل هذا التاريخ، ومنذ مطالع القرن العشرين كانت الدعوات إلى التجديد، ولم يكن أصحابها مأزومين بالثنائية الاستقطابية « شرق – غرب» وتداعياتها على تفكير النخبة العربية. كان أبرز مثقفي مصر يدعون إلى تجديد الشعر العربي في مسألة الاستهلال والبلاغة الصورية والتحرر حتى من القافية. ونجد صدى ذلك في كتابات العقاد والمازني وطه حسين. إلا أن هذه الدعوات ظلت حبيسة التنظير أكثر مما حوّلتها الى التطبيق. وأحال بعض النقاد هذه الحال إلى ان هؤلاء لم يكونوا على اتصال بحركات التجديد في أميركا أو فرنسا وانكلترا كما هي الحال عند خليل مطران وزكي أبو شادي اللذين كانا أشد جرأة في دعوتهما الصريحة الى تجديد الشعر. ولكن يتغافل هذا السبب مدى الصلة القوية بين الناقد الغربي وليم هازلت والعقاد الذي تأثر كثيراً بهازلت. وكان هذا الأخير منخرطاً في مسائل التجديد في الأدب الغربي، ولكن أعتقد بأن هناك أسباباً أخرى دعت هؤلاء الى أن يكونوا أكثر حذراً في إطلاق دعوات التجديد، ولسنا هنا في صدد تفصيلها.
أما الضفة الأخرى التي دعت صراحة الى التجديد تحت وطأة التأثير الغربي، فهم شعراء المهجر، وكان أبرزهم على العموم أمين الريحاني وجبران خليل جبران. دعا الريحاني إلى نبذ التقاليد الشعرية في التراث والتوجه إلى مضامين شعرية أكثر إنسانية ومعاصرة، والى التخلص من الوزن والقافية. وهو أول من أطلق مصطلح «الشعر المنثور». ولم تكن كتابات جبران سوى التطبيق العملي لمثل هذه الدعوات، ترى ألم يقل: «لكم لغتكم ولي لغتي».
أما مرحلة ما بعد 1948 فهي مختلفة تماماً، سواء على مستوى تبني الأفكار أم انتشار التيارات الفكرية المتناقضة أم الحالة الاجتماعية العربية تحت نير الاستعمار ومحاربته. هذا هو المشهد الذي يقوم على خلفية المشاريع التي سعت فعلاً إلى تجديد الأدب العربي وعلى رأسه الشعر.
محمد الحرز
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد