بول بولز: من دون القراءة تستحيل العلاقة بالعالم

20-01-2008

بول بولز: من دون القراءة تستحيل العلاقة بالعالم

زار الكاتب الأميركي، بول بولز المغرب للمرة الأولى عام 1933، وتردد إليه سنوات، قبل أن يستقر فيه إلى يوم غيابه عام 1999. خلال هذه الفترة ظل عاشقا لهوية أخرى عوضته عن هويته الأصلية التي لم يكن في وئام معها. خص بولز المغرب بمعظم كتاباته، مثل روايته «دعه يسقط» ومسرحها خلال عقدي الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، ورواية «بيت العنكبوت»، مسرحها في فاس وتؤرخ لمقاومة الاحتلال الفرنسي ومحاصرة المدينة بعد نفي الراحل محمد الخامس... ونشرت متزامنة مع عودته... وندد الفرنسيون بها وبصاحبها، بينما ترجمها الأسبان نكاية. وقصصه القصيرة مسرحها مناطق مختلفة من المغرب، بينما احتلت المسائل المغربية معظم رسائله (7000 رسالة)، ونشر معظمها في كتاب بعنوان «على اتصال».

هذه مقاطع من حوار معه امتد عقدين، لم تنشر من قبل، وسيصدر الحوار في كتاب.

* لا تزال ذاكرتك تحتفظ بسلطتها، أكاد أجزم أنك يمكن أن تتذكر كل رحلاتك بسهولة ويسر: ترى نفسك تشد الرحال إلى المغرب، تذهب إلى سريلانكا، إلى أميركا، إلى بعض دول أميركا اللاتينية.

- نعم، نعم.

* إنه هروب، رحلة ذهنية، على متن الذاكرة.

- نعم، نعم. لكن الشعور. (صمت) بالعزلة، بالانقطاع عن العالم يظل مقيماً، على كل حال. آه لو كان بإمكاني أن أقرأ، على الأقل، سأبقى على اتصال بالعالم. من دون القراءة، يستحيل أن أبقى على علاقة بالعالم.
* بول، وأنت تتحدث عن العلاقة بالعالم جعلتني أفكر في طرح هذا السؤال عليك: كيف ترى القرن الآتي، أي القرن الحادي والعشرين، أنت الذي واكبت هذا القرن (العشرون) ورافقته من البداية حتى النهاية؟

- أعتقد بأنه سيسير على الوتيرة نفسها، وسيعيد إنتاج نفسه، ذلك أن لا شيء سيعرف التحسن على هذه البسيطة. القرن الآتي سيكون شاهداً على استمرار انحدار هذا القرن. سيعرف القرن الآتي، أتمنى ذلك، بعض الاكتشافات في مجال الطب، والعلوم الأخرى. لست أدري هل سيكون المستقبل واعداً أم لا.
* هل ستكون روح القرن الآتي متشائمة؟

- بالتأكيد، لا شيء سيعرف التحسن. لا شيء البتة، تقريباً. معظم الأشياء ستزداد سوءاً، لأن ساكنة العالم تتضاعف.
* قد يشكل هذا التضاعف السكاني عنصراً إيجابياً يمثل انتصار الطب، والتقدم.

- وهذا جانب سلبي.
* كيف يمكن أن ينعت تضاعف السكان بالأمر السلبي؟

- لأن التضاعف السكاني أمر سلبي، ألا ترى أن (90 في المئة) من سكان العالم هم من الفقراء، وهؤلاء يعانون الفقر والجوع، وهذا أمر مرشح أن يزداد سوءاً. بالطبع، مضاعفة السكان تعني ازدياد المشاكل وازدياد الحاجة إلى الطعام. خيرات الطبيعة كثيرة، وكذلك نتائج العلوم، لكن هذه الخيرات تتعرض لسوء التوزيع وللاحتكار وهلم جرا.

* كيف علمت أن علال الفاسي قرأ رواية «بيت العنكبوت» وأعجب بها؟

- أبلغت أن الرواية قرئت له وأنها راقته، فقال: «نعم، إن الأحداث مرت بهذا الشكل. إن هذا الأميركي يعرف فاس ويفهم شؤونها». وقد أحسست بالغبطة لما سمعت هذا الرأي، وفهمت أن ليس هناك أدنى اعتراض على مادة الكتاب التخييلية. كان بإمكان علال الفاسي أن يبدي امتعاضه من الرواية، لكن ذلك لم يحدث. وقد استنتجت أن علال الفاسي رجل منفتح.
* من نقل إليك كلام الزعيم المغربي؟

- محمد شكري. كان على علاقة بعلال الفاسي. فعلال الفاسي كان قضى فترة من حياته بطنجة وظل يتردد على المدينة. عندما التقيت شكري للمرة الأولى، أخبرني بذلك وأعطاني ربطة عنق (ضحك)، أهداها لي علال الفاسي، وقد اشتراها من أندونيسيا لما حضر مؤتمر باندونغ. ربطة عنق من قماش أندونيسي، ما زلت أحتفظ بها، أقدرها لأنها هدية من علال الفاسي (ضحك).
* متى حدث كل ذلك؟

- خلال الستينات.
* أعتقد بأن رأي علال الفاسي يستمد قيمته من كونه صدر عن زعيم سياسي وأديب كتب في الشعر وفي الشريعة وفي التنظير السياسي.

- سررت غاية السرور بسماع رأي علال الفاسي، وفهمت أن الرواية أعجبته، فقد كان بإمكانه أن يقول مثلا إن هذه الرواية لا علاقة لها بالمكان ولا علاقة لها بالفترة التي تتناولها. لكنه لم يقل ذلك. وقد شكرت محمد شكري الذي أبلغني هذا الرأي الذي أعتز به.
* بالنسبة إليك، كما يمكن أن يستنتج من أحاديثنا، كان استقلال المغرب سيكون أغنى لو أن المغرب اتخذ لنفسه طريقاً خاصاً يحترم خصوصيته.

- بالتأكيد، لو اختار طريقاً خاصاً، ليس الطريق الأوروبي أو الأميركي، يحترم هويته لكان استفاد أكثر من استقلاله.. لكن رجال السياسة، على رغم أنهم يعرفون خصائص شعوبهم، وطبيعة هويتهم، فهم لا يوظفون كل ذلك من أجل جني الثمار لفائدة الشعب بل يوظفونه من أجل مآرب أخرى. أعتقد بأن رجال السياسة لو كانوا يحملون عواطف إنسانية لما انخرطوا في السياسة، وإذا ما انخرطوا فيها، وهم يحملون تلك العواطف، فهم سرعان ما يطلّقونها. السياسة تفترض الكذب، وتفترض الدفاع عن المصلحة الخاصة، وعن الخطأ، وتفترض القدرة على التمثيل. كتبت رواية «بيت العنكبوت» لأنني لاحظت، قبل حصول المغرب على استقلاله، أن بعض التفريط في الهوية شرع يطبع سلوك النخبة السياسية. وهي سمة تميز سلوك كل نخب الدول المستعمَرة، قد تكون وليدة الافتتان بالحداثة أو الغرب. لكن ماذا يساوي الغرب، أو أميركا أمام عراقة المغرب وأصالته؟ كان على من يحب المغرب والمغاربة أن يعنى بمصيرهما، لذلك رحلت إلى فاس، لمعاينة التطورات عام 1954، لعراقة المدينة واعتبارها عاصمة علمية ودينية لاحتضانها جامعة القرويين. اعتبرت مدينة فاس عينة لما سيتعرض له المغرب (والدول التي عانت من ويلات الاستعمار). التحول العاصف بالهوية، زحف الحداثة، الرغبة في التأورب، تفسخ العلاقات والتمدن الحقيقي، استلاب النخبة السياسية، انفصالها عن أصولها نتيجة الثقافة الغربية التي تجرعتها، فلم تبق أصيلة، ولم تعد حداثية...
* لعل إيقاع العصر فرض التغيير، سواء رغبنا فيه أم لم نرغب.

- ليس العصر هو الذي فرض التغيير بل الاستعمار. زرع الوهم، فاعتقد أبناء الدول المستعمَرة أن الأحوال ستتحسن، واقبلوا على ثقافة المستعمِر ودَعم الاستعمار هؤلاء لأنه رأى فيهم المبشرين الجدد، بدينه الجديد (...)
* كأنك اتخذت موقفاً من استقلال المغرب؟

- لم أتخذ موقفا من استقلال المغرب ولا يجب أن أفعل، بل أردت أن أقدم شهادة عن مرحلة حرجة من تاريخ بلد وشعب أحببتهما، وأقدم شهادة عرفان محذراً مما سيتعرض له بلد أصيل ظل محافظاً على أصالته وعلى هويته مئات السنين ثم تسرب الضعف لاعتزازه بهويته، لضعف في نخبته التي أصابها مس فرنسي، وسار (البلد) يقلد متبعاً طريقاً، لا خير يرجى من ورائه. وأعتقد بأن كتابة عمل أدبي «بيت العنكبوت» عن بلد يخوض معركة الاستقلال، والتنديد بالمستعمِر لا يترك أي مجال للشك في مساندتنا له في معركته من أجل نيل استقلاله. ولكن لا داعي للقول إن المساندة تستدعي القول إن الاستقلال قد حقق كل شيء! كنت في روايتي تلك قاسيا ضد الاستعمار الفرنسي فكشفت همجيته، ولكنني بينت، أيضاً، أن اختيارات النخبة المجتمعة داخل «حزب الاستقلال» لا تحترم أصالة البلد وأهله ولا تحترم هوية المغرب والمغاربة. وأعتقد بأن التاريخ، للأسف، أنصفني. لذلك قدرت شهادة السيد علال الفاسي حق قدرها، لأنني رأيت فيها أنه انتصر للتاريخ والحقيقة والواقع والواقعية.

نعم للاستقلال، هذا أمر طبيعي، وقد أديت كالمغاربة ضريبة الاستقلال، وهذا أمر أغبط نفسي عليه (يشير بولز إلى اعتقاله من لدن السلطة الفرنسية بفاس وضربه، ثم طرده من فاس قبل إغلاقها للاستفراد بأهلها)، ولكن الطريق الذي سارت فيه النخبة فيه نظر. وذلك ما دفع البعض إلى القول إن هناك تعارضاً بين رغبتي الشخصية ومستقبل المغرب. أعرف أن التطور حتمية تاريخية، ومن الصعب أن يقاومه بلد معين أو شعب معين. إنه قانون الوجود، لكن العوامل المؤثرة فيه هي التي تحدد طبيعته. وعلى رغم ذلك يمكن أن نتساءل:

ألا يمكن للمغرب - والبلدان المشابهة له - أن يطرق باباً خاصاً لتطوره يحافظ على تراثه الغني الذي يميزه ويشكل خصوصيته: لباس المغربي، موسيقاه، عاداته. أتعتقد بأن جمعي للموسيقى المغربية الشعبية وتسجيلي لها كان ترفا؟ إنها إبداع رائع كان سيضيع تحت زحف ضجيج الآلات الجديدة غير المنسجم (...) والمثير في الأمر أن المغاربة يعتبرون تلك الموسيقى متوحشة وينبهرون بالموسيقى الحديثة! الحديثة! (ضاحكاً). والمعمار؟ لِمَ كتبت عن فاس المدينة القديمة؟ لن يبقى منها إلا وصفي لها... ووصف آخرين أحبوها. قد لا يفهم تشبثي، الآن، بهذا التراث الإنساني(...)
* وقد سألتني عن رأيي في كتاب مليسنت ديلن عن جين، أود أن أطرح عليك، بدوري، السؤال ذاته.

- إنها اعتمدت على كم هائل من الوثائق والمراجع، لكنها لم تكن تعرفت على جين من قبل.
* لذلك اعتمدت على حوارات مع كل الذين عرفوا جين، وقارنت أحاديثهم مع بعضها البعض، كما اعتمدت على مراسلات جين، وقمت بما يشبه التحقيق البوليسي، وقرأت نصوص جين المنشورة وغير المنشورة قراءة دقيقة.

- (مقاطعاً) وكل ذلك ساعدها على تأليف كتاب غني، ثم إنه كتاب أصيل وموثوق به، ولا أثر فيه لكلام مختلق.
* قرأت هناك، وسمعت منك ذات مرة أنك هددت جين قائلاً لها إنك ستنتحر. كنتما يومها بجزيرة ماضير البرتغالية، وأعتقد بأنك لم تكن صادقاً في كلامك بل رغبت في أن تخيفها وتجعلها تتمالك نفسها وتتعقل. ما هو المبرر الحقيقي وراء تخويفك لها خوفك منها، عليها أم هو حزنك على طبيعة سلوكها؟

- كنت أرغب في تخويفها. لم أعد قادراً على تحمل ما كانت تقوم به من سلوك. كانت تقول لي إن أحسن هدية يمكن أن تقدمها إلي هي أن تقتلني! أهذا هو حبك لي! ألا تريد أن تخلصني من هذا العذاب الأزلي؟ أترفض أن تسدي لي آخر خدمة في حياتي، حتى لو قلت لك إنها رغبتي الأخيرة؟ ساعدني يا بول، لقد أصبحت أكره هذا الوجود المشروط بالألم. ألمي لا يطاق يا بول، خلصني منه. لن أغفر لك صنيعك هذا إذا لم تساعدني على الغياب، يا بول، بيدك الحل، بيدك سعادتي وتحرمني منها؟ إلى غير ذلك من الكلام الذي لا معنى له. كان يصعب على أي إنسان أن يقضي مع جين وقتاً طويلاً، أو يتحمل ذلك لأنها كانت فقدت السيطرة على عقلها ولم تعد تملك أي ذرة من حس التفكير الصائب. كان دماغها قد أصيب، ونال منها المرض والألم. ولم تعد تستوعب ما يقال لها. وعلى رغم ذلك تحرص على الحديث، ويجب أن نتحدث معها، لكن يصعب أن نتفاهم معها.

* من يقرأ رسائلك التي بعثت بعضها لفرجيل طومسون وليبي هولمان. وغيرهما يشعر أنك عانيت كثيراً خلال فترة مرضها، وعلى رغم ذلك كنت تحاول أن تشجعها، ولكن ذلك كان أقوى منك.

- آه، نعم. يمكن أن تتحدث إلى جين نصف نهار ولكن لن تصل إلى نتيجة من وراء ذلك، فكأنك تتحدث إلى متشرد. يستمع إليك، ولكن الخطاب لا يصل إلى ذهنه، لا يستوعبه، لا لأنه لا يريد بل لأنه لا يقدر.

* وكانت جين تظل تذكرك بقول...

- تلك «الشوافة» (كانت تنبأت لجين بمصير يؤطره الألم) كانت تظل جالسة إلى طاولة بمقهى «مدام بورت»، تحتسي الشاي، وتكشف طالع كل من رغب في ذلك مقابل أداء ثمن الكشف.

* ما ثمن كشف الطالع، يومها؟

- لا أذكر الثمن بالضبط لكنني أذكر أنه كان مناسباً جداً.

* هل كانت هذه المرأة مواطنة مغربية؟

- لا أعتقد ذلك. في الحقيقة لا أحد عرف جنسية تلك المرأة أو الرجل! ولا أحد استطاع أن يرى وجهها أو وجهه! كان أو كانت ترتدي لباساً هندياً وتضع/ يضع على رأسه ما يشبه العمامة الهندية فلا يرى أحد وجهه. لقد «طلبت» خدمات «الشوافة»، على رغم أنني لا أصدق ذلك، لأن بعض أصدقائي فعلوا ذلك، وأصــروا أن أفعل ذلك بدوري، من هــؤلاء تــرومان كابــوت وتنيســي وليامز.

* خلال مرحلة مرض جين، وعجزها عن الكتابة، شرعتَ تكتب رسائل باسمها، إلى والدتها كلود وتوقعها باسمها مقلدا توقيعها. فأصبحت بذلك ممثلاً يؤدي دوراً ثانوياً.

- في مسرحية لا أحد يرغب بمحض إرادته أن يحشر بين ممثليها (ضحك). لم أرغب في كتابة تلك الرسائل لكن جين كانت تلح على ذلك حتى لا تضطر والدتها إلى الرحيل إلى طنجة أو مالقة لزيارتها مع ما يكلفه ذلك الأمر من عناء مادي ومعنوي. وكان الكذب يقلقني، ويبدو لي أمراً مزعجاً لأننا عندما نقبل أن نكذب، مرة، لا نستطيع أن نتوقف. يجب أن نستمر. ثم يجب أن نحتاط من انكشاف أمرنا.

لم أحب أداء ذلك الدور، ولم تعلم به كلود أم جين أبداً. كنت أكتب الرسالة على الآلة الكاتبة وأقلد توقيع جين. وكنت أفلح في تقليد توقيعها.

* لو عدنا إلى علاقة جين بالشريفة (خادمة جين في البداية ثم صديقتها في ما بعد)، هل جين كانت تريد أن تتحرر من الشريفة؟

- لا أستطيع الإجابة بدقة عن هذا السؤال، وذلك لسبب واحد أن جين كانت متناقضة وجدانياً. فمرة، كانت ترغب في التخلص منها ومرة أخرى تلح على إبقائها إلى جانبها.

* هناك من قال، ومنهم «ميلسنت»، إن جين كانت، لما طردتَ أنت الشريفة، تذهب إلى بيت آل جيروفي أو إلى مكتبتهم للالتقاء بالشريفة.

- ربما، لا أذكر ذلك. ولكن هذا السلوك ليس غريباً عن جين. والحقيقة أن علاقة جين بالشريفة غامضة، عصية على الفهم، غير واضحة المعالم ولذلك لا يستطيع أحد توضيحها والحكم عليها.

عبد العزيز جدير

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...