بغداد في السيدة زينب والفلوجة في جرمانا
الزمان هو بعيد منتصف الليل والمكان هو ميدان مضاء بشكل باهت أقرب ما يكون إلى العتمة في حي السيدة زينب في العاصمة السورية دمشق.
تصل حافلة إلى الميدان وتتبعها ثانية فثالثة. يخرج الركاب من الحافلات متعبين وعلامات الحيرة والذهول بادية على وجوههم، وقد أخذوا يسحبون أغراضهم من بين الأمتعة وعلى أكتافهم أطفالهم النائمون. إنهم اللاجئون العراقيون.
يتكرر هذا المشهد نفسه في هذه الضاحية كل ليلة، إذ يصل حوالي 2000 شخص إلى المكان كل يوم حيث تستمر موجة النزوح الجماعي من العراق بعد أربع سنوات من الغزو الأمريكي والبريطاني لتلك البلاد.
لقد قدم إلى سورية على الأقل 1.5 مليون عراقي، وهذا أكثر من الذين وصلوا إلى أي بلد آخر في المنطقة.
ولكن ما تدعوها الأمم المتحدة بأكبر مأساة للاجئين في الشرق الأوسط منذ نزوح الفلسطينيين عن ديارهم لا تزال تحظى باهتمام قليل من قبل العالم الخارجي.
وبالخسارة الجماعية للأشخاص المدربين والمتعلمين في العراق، فإن العديد يخشى بأن يؤدي هذا الأمر إلى حدوث انتكاسة في فرص العراق بإحراز تقدم أو تطور في المرحلة القادمة.
ومع عدم وجود نهاية تلوح في الأفق للأزمة العراقية، فإن موجة نزوح العراقيين تترك منذ الآن عواقبها الوخيمة على سورية. فقد ارتفع عدد سكان البلاد بحوالي 10 بالمائة بسبب اللاجئين-وهذا ما يعادل استقرار 6 ملايين شخص في بريطانيا خلال سنوات عدة فقط.
وبما أن السلطات السورية قد سمحت حتى الآن للاجئين العراقيين بالعيش بحرية، وليس داخل مخيمات، فقد أدى هذا إلى اكتظاظ مناطق عدة من دمشق.
فالخدمات الرئيسية، كالكهرباء والمياه والصرف الصحي، تشهد ضغطا حادا، إذ بدأنا نسمع الشكاوى من السوريين بشأن أثر مثل هذا الأمر على اقتصاد بلادهم المترهل أصلا.
ونتيجة عزلتها الناجمة عن خلافاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كانت الحكومة السورية تأمل بكسب بعض المصداقية الدولية بسبب اهتمامها باللاجئين العراقيين، وبالتالي الحصول على مزيد من المساعدات.
وبما أن مثل هذا الشيء لم يتحقق، ولا يلوح في الأفق شيء ينبئ به، فقد قالت السلطات السورية إنه يتوجب الآن إظهار بعض التشدد، إذ قد ينشئون مخيمات للاجئين بالقرب من الحدود-العراقية السورية.
الدكتور فيصل مقداد يسخر من المساعدة التي يقول عنها إنه تم تقديمها حتى الآن من قبل الولايات المتحدة إذ يقول:
"سمعنا بأنهم تبرعوا بمبلغ 17 مليون دولار أمريكي، ولكن صراحة هذا الرقم يعتبر مصروف جيب بالنسبة لما ينفقونه في العراق."
لقد استقر العديد من العراقيين في حي السيدة زينب الذي بات اليوم يعرف ببغداد الصغيرة. فالطريق الرئيسي في البلدة يُدعى الشارع العراقي، فهو مليء بالمحال التجارية والمقاهي التي تقدم خدمتها على الطريقة العراقية وتحت أسماء مثل مطعم الفلوجة ومخبز بغداد.
التقيت هناك بسيف البالغ من العمر 14 عاما، والذي فر مع عائلته من جنوبي بغداد منذ ثلاث سنة مضت، وهو لم يذهب إلى المدرسة منذ ذلك الحين.
وهذا الأمر يُعد من المخاوف الرئيسية الآن، فالعديد من الأطفال اللاجئين لا يحصلون على فرصهم في التعليم.
ويعمل سيف الآن في مقهى والده الذي افتتحه على قارعة الطريق.
يقول والد سيف: "أريد أن يتعلم جميع أطفالي، ولكننا لا نستطيع تحقيق ذلك. فلو ذهب سيف إلى المدرسة، فلن يبقى معي شخص آخر لكي يساعدني."
ولكن بعض الأطفال الآخرين المحظوظين، وهم أبناء العائلات العراقية الميسورة، لديهم فعلا فرص للتعلم. فقد زرنا جامعة خاصة أنشأها رجل أعمال عراقي وأكثر من نصف طلابها من العراقيين.
ففي قسم الهندسة، قال لي محمد إنه يخطط لإكمال دراسته في المرحلة التالية في أوروبا حيث يطمح بالحصول على شهادة الماجستير من هناك. وهو في نهاية المطاف يريد أن يصبح مهندس بترول، "ولكن ليس في العراق"، كما يقول وبشكل حاسم.
ولقد أقامت وكالة الأمم المتحدة للاجئين هذا العام مركزا لاستقبال الأعداد المتزايد ة من القادمين العراقيين، إذ لم يعد مكتب الوكالة وسط المدينة يفي بالغرض. ولكن حتى مع وجود مستودع كبير تم تحويله ليخدم أغراض المركز ورغم وجود عدد أكثر من الموظفين، فإن الوكالة مازالت تصارع لمواجهة المهمة.
عندما زرنا الموقع، كان هناك مئات الأشخاص ينتظرون للحصول على موعد مقابلة.
لقد تم إخبار الجميع بأن عليهم الانتظار ستة أشهر على الأقل قبل المطالبة بالنظر بوضعهم لمنحهم وضعية لاجئ. ولكن العديد من العراقيين لا يتقدم للحصول على مثل هذه الصفة، فهم لا يزالون يأملون بإمكانية العودة إلى ديارهم.
وفي منطقة أخرى من دمشق التقيت بشخص آخر أعرفه جيدا ويدعى محمد وقد وصل للتو، إذ عملنا معا في وقت سابق في بغداد.
فمنذ شهرين سيطرت ميليشيا شيعية على مجمع الشقق الذي يسكن فيه، ولو اكتشفوا أنه عمل مع الأجانب، فإنه سيكون في خطر محدق.
كان عمل محمد يسير على ما يرام، فقد كان يتقاضى مرتبا جيدا. هو لم يرد مغادرة بلاده، ولكنه قرر ذلك لأنه لم يكن أمامه خيار آخر.
يقول محمد: "قد يأتيني أحدهم في أي وقت ويرفس باب منزلي ويقتلني أو يخطف واحدا من أطفالي."
ويتابع محمد قائلا: "كان أمامي إمّا عملي وإما حياتي وحياة أسرتي."
ولكنه، مثل العديد من العراقيين الذين قابلتهم، يقول محمد إنه لم يجد حتى الآن إشارة للتوترات الطائفية التي ما زالت تمزق أجزاء من العراق.
يقول محمد: "يعيش جميع العراقيين هنا معا، شيعة وسنة وحتى مسيحيين."
إنها علامة للأمل وسط اليأس المتنامي.
المصدر: BBC
إضافة تعليق جديد