بطل سوري عالمي بلعبة الشطرنج .. في مأوى.. وبلا دواء..!!؟ “
حين عثرنا عليه كان يمثل حالة نموذجية لمتشرد: ثياب رثّة، جسد متسخ، وعي شبه غائب” هكذا قالت السيدة هويدة زهوة مديرة دار الحياة لرعاية المسنين، وتضيف: هو الآن أفضل، صحيح أنه فقد الكثير من وزنه بسبب أمراض معوية، لكنه حليق نظيف يرتدي ثياباً مغسولة، وقد اهتدى بعض أصدقائه القدامى إلى مكانه ويزورونه بين الحين والآخر.
الحديث السابق ليس عن رجل عجوز مجهول يمكن أن تصادفه في أي دار لرعاية المسنين، بل هو بطل عالمي ظل اسمه لعقود معروفاً لدى الأجيال، ومثّل سورية في مئات البطولات القارية والعالمية، وعاد بكؤوس معظم تلك البطولات لتصطف في خزائن الاتحاد الرياضي، كشاهد وحيد على أنه كان في سورية ذات يوم لعبة شطرنج.
أجل عن عماد حقي نتحدث.
لا أقارب له في دمشق، وهو يقيم في دار الحياة منذ قرابة الثلاث سنوات، ويكفي أن تذكر كلمة شطرنج أمامه حتى يستعيد بعضاً من نفسه، وتلمع عيناه وتبدأان في جرد المكان بحثاً عن الرقعة التي صال وجال بأصابعه فوقها طيلة 46 عاماً، وتوج بفضلها بطلاً لسورية والعرب.
رغم إصابته بالزهايمر، إلا أن عماد حقي (63عاما) لا يزال يحتفظ بذهن وذاكرة كفيلين، على علاتهما، بجعله يدرك ما يدور حوله.
بدأ حقي بارتياد المركز الثقافي الروسي في سبعينيات القرن الماضي للتدرب على لعبة الشطرنج بإشراف المدرب أحمد الراشدي، وكانت بطولة دمشق للرجال (أواخر عام 1973) أول بطولة رسمية له. وتتالت البطولات وتتالت معها الألقاب والميداليات والجوائز، حتى صار حقي اسماً من ذهب.
الاسم الذهبي صار اليوم نزيل دار الحياة في شارع الأمين بدمشق، حيث يستقبل عدداً من رفاقه القدامى الذين يأتون ليلعبوا معه الشطرنج. وتقول مديرة الدار، هويدة زهوة، إنه “رغم حالته الصحية فهو لا يزال قادراً على تحقيق الفوز.. يبدو أن الشطرنج يقبع في مكان عميق من روحه لم ينجح المرض في الوصول إليه”.
سجل مترع بالذهب
يبتسم حقي عندما أسأله عن أمجاده الماضية. يشوح بيده ويقول: “لا أدري كم هو عدد المرات التي فزت بها فأنا لم أحصها”.
لكن تاريخ اللعبة يدري جيداً، وهو يحتفظ لحقي بسجل مترع بالإنجازات:حصل على بطولة الجمهورية للرجال أكثر من عشرة مرات. وهو أول لاعب سوري يحصل على لقب أستاذ دولي في الشطرنج. كما حصل في العام 2005 على أعلى رقم تصنيفي دولي للاعب شطرنج سوري وهو 2471 نقطة. كما مثل سورية في العشرات من البطولات العربية والآسيوية والدولية والأولمبيات العالمية. وفي عام 1989 حصل على بطولة الفرق العربية مع المنتخب السوري.
كما حصل على لقب بطل العرب لفردي الرجال. وحصل أيضاً على ذهبية الفردي بالدورة العربية في مصر عام 2007، إضافة للميدالية الفضية للفرق مع المنتخب السوري في الدورة نفسها. ولقد فاز بعدد كبير من الميداليات في البطولات العربية والدولية التي شارك فيها.
وكان رئيس الاتحاد الروسي للشطرنج قد قال، أثناء بطولة أقيمت في إسطنبول في العام 2009، إن حقي واحد من أهم ثلاثة لاعبي شطرنج في العالم من حيث الاستراتيجية والمهارة في الافتتاح والاطلاع على الأفكار.
إنقاذ العمدة من النسيان
أطلق لاعبو الشطرنج المصريون على عماد حقي لقب “العمدة”، وهو اللقب الذي يحبذ ميثاق الحسن أن يستخدمه في الحديث عن صديقه القديم. يقول المدرب والحكم الدولي للعبة الشطرنج: “أحزنني جداً الحال الذي وصل إليه العمدة.. لقد كان يتمتع بشعبية واسعة في أوساط لعبة الشطرنج بسبب روحه المرحة وكرمه.. وهو لا يزال يمتلك قدرة ممتازة على لعب الشطرنج والتغلب على منافسيه رغم حالته الصحية”.
. ويضيف: “هناك تقصير اتجاهه من قبل الاتحاد الرياضي العام الذي تقاعس وخاصة من ناحية تأمين مأوى وإقامة لائقة. وهذا الأمر مع الأسف يحدث مع عدد من اللاعبين. نحن في اتحاد لعبة الشطرنج لا نملك المال الكافي لدعم عماد وكنا قد أجرينا عملاً جراحياً لعينه في العام 2017 وتم دفع كامل التكلفة، لكننا لا نملك أموالاً لمساعدته”.
يختم الحسن: “مؤسف أن نشاهد العمدة في هذا الوضع وكل ما أستطيع تقديمه اليوم هو التذكير بعماد في كل مكان أكون فيه، وأنا أدرب أدواره للاعبين الجدد الذين أدربهم، كما أن عدداً من المدربين المعروفين على مستوى العالم يقومون بتدريب أدواره ونقلاته”.
سجين تلك الرقعة
نوبة من الغضب انتابت عماد حقي عند سؤالي له عن دور الاتحاد الرياضي في رعاية الرياضيين. راح يكيل لهم الشتائم، وتزاحمت الكلمات في فمه وصار غير مفهوم، ليعود بعدها إلى هدوئه ويطلب سيجارة.
تقول السيدة زهوة: “كان لعماد فيما سبق راتب تقاعدي لكن الراتب توقف بسبب إجراءات روتينية لم تتح له حالته الصحية إتمامها، وبالتالي لم يقبض أي راتب منذ فترة، كما أنه لم يتلق أي مساعدة مالية أو عينية من أي جهة حكومية كوزارة الشؤون الاجتماعية أو الاتحاد.. ما يحصل عليه فقط هو زيارة ودية من عدد من الأصدقاء يأتون للترفيه عنه لا أكثر”.
تحوي غرفة عماد حقي في الدار رقعة شطرنج خاصة به، وسرير مريح، والقليل القليل من الأثاث. ويبرر مسؤولو الدار ذلك بالخشية من أن يؤذي نفسه بعد أن حاول الهرب أكثر من مرة.
يضبط عماد جلسته ويضع سيجارته جانبا وهو يتحدث عن هزيمته لبطل روسي بنقلة واحدة. انتهت اللعبة ومات الملك وبقي عماد سجين تلك الرقعة، مع غضب عارم من زمن أنكره واتحاد لعبة لفظه خارجاً.
قامة سورية أخرى تموت ببطء بعيداً عن الرعاية، متحولاً إلى عالة على الآخرين بانتظار إحسان من هنا أو صدقة من هناك.
المصدر"الأيام"
إضافة تعليق جديد