بخبرةسويديةومساعدة محلية مشروع لتنظيم وتطوير إدارة الأراضي في سورية
أنجز خبراء من مؤسسة الأراضي الوطنية السويدية وبالتعاون مع عدة جهات وكفاءات وطنية مشروع دراسة جدوى حول «تنظيم وتطوير إدارة الأراضي» في القطر ورغم أن المشروع شكل تجربة عمل مميزة في أسلوب ومنهجية وصوله إلى النتائج الهامة التي وضعها على طاولة مجلس الوزراء، إلا ان التعاطي مع هذه النتائج وممانعة بعض المؤسسات لتقبلها أظهر مرة أخرى مجموعة من المشاهدات حول بعض نواحي الخلل في سير العلاقات داخل الجهاز الحكومي إجمالا، ولعل الحديث عن هذا الخلل علانية من خلال هذه التجربة العملية قد يعتبر مساهمة في عملية الإصلاح المستمرة.
تبلور مفهوم إدارة الأراضي في سورية، كما في معظم بلدان العالم، كحاجة أساسية فرضتها ضرورات التخطيط الشمولي والحاجة الأساسية للبيانات عن الأراضي إما كمخططات وخرائط رقمية أوكمعلومات عقارية ذات قيم حقوقية ومالية وهندسية.
الحصول على هذه القيم والمعلومات عن الأراضي أصبح الآن يشكل قاعدة إدارة جميع الأنشطة الانسانية التي لها علاقة بالأرض من عمران وتطوير للبنى التحتية واستثمارات صناعية وزراعية وسياحية وغيرها.. عدا متطلبات الامن والدفاع.
ولكن هذا المفهوم لم يجد إلى الآن اعترافا رسميا به في سورية يحدد معالمه كقطاع مستقل، غير متماهٍ مع قطاعات أخرى ،مؤسساته مشتته ومسؤولياته موزعة بين أكثر من جهة...هو قطاع يكون مسؤولا عن تقديم الخدمات الفنية والحقوقية والادارية والضريبية والاقتصادية المتعلقة بالاراضي، وعن تأمين قاعدة انتاج للبيانات المكانية وبنية تحتية وطنية للتشارك في انتاج هذه البيانات بالاضافة إلى تأمين المعطى العقاري وتحقيق شروط التشارك في جمع وتحديث وأتمتة هذه البيانات للاستخدام والتداول.
تسويق أهمية تناول مكونات إدارة الأراضي في سورية ضمن دراسة جدوى شاملة ونوعية قامت بها مجموعة من الكفاءات السورية المحلية والمغتربة في عدة مناسبات وعلى مدار حوالي أربع سنوات قبل أن تتبنى وزارة التقانة والاتصالات هذه المهمة وتوافق على اقتراح مشروع استمرت صياغته عدة أشهر تقدمت به مؤسسة الأراضي السويدية وبجهود من شبكة نوستيا (شبكة العلماء والتقنيين السوريين في المغترب) تم الحصول على تمويل للمشروع من وكالة التنمية السويدية.
تمثل هدف المشروع العام في وضع معايير تحسين نوعية وأمن وفعالية إدارة الأراضي في سورية، بما يقتضي المساهمة في زيادة النمو الاقتصاديِ وخفض مستويات الفقر وكذلك توزيع أكثر تساوياً للثروات الوطنيةً، كمحصلة نهائية.
ربط هدف المشروع العام بمسائل النمو الاقتصادي والتنمية عموما جاء ليضع الاهتمام الحكومي بتنظيم إدارة الأراضي كمهمة تحتاج إلى اهتمام مركز، بعد تزايد أعراض عدة أزمات ومشكلات فنية وإدارية، ترجع إلى عدم فاعلية وتشتت خدمات هذه الادارة، وهذا ما بات يؤثر على أداء قطاعات أخرى بشكل واضح وبصورة خطيرة.
. القصور المتزايد في أداء وفعالية النظام العقاري والنظام الضريبي العقاري، ما يؤثر على مصداقية السجلات العقارية وعدالة التقييم الضريبي مع الوقت، ولعل فشل جهود أتمتة النظام العقاري المستمرة منذ أكثر من عشر سنوات دليلاً على وجود أزمة تتعدى الحلول الفنية.
.تشكل ازمة إدارة الأراضي أرضية مناسبة لأكبر مصادر الفساد والتعدي على الأراضي الزراعية والاستيلاء على الأراضي الحكومية، وتعقيد الخلافات العقارية بين المالكين، مايكلف خزينة الدولة أموالاً طائلة.
.عدم ضبط السوق العقارية، مع فعالية محدودة لعمل الضمانات والقروض البنكية وخدمات التأمين ما يحرم الاقتصاد من عوائد كبيرة للحركة النقدية العقارية.
.تزايد العشوائيات وعدم توفر قواعد لحلها، وتعدد اللجوء الى سجلات ملكية خارج السجل العقاري(الطابو) ما يمنع وجود معطى عقاري موحد قابل للتداول وللاستخدام في عمليات التخطيط وتأمين الخدمات المدنية للمجتمع وتسهيل عمليات الدفاع والأمن للمجتمع.
.تداعيات عدم توفر قواعد بيانات منظمة ونوعية عن الأراضي على نوعية القرارات التنموية والاقتصادية وحتى الاجتماعية، وإعاقة وتأخير عمل البلديات والمحافظات والجهات الخدمية وتنمية البنى التحتية.
.عدم تحقيق الجدوى المطلوبة لجذب واستيعاب الاستثمارت العمرانية والسياحية، وعدم القدرة على تنظيم الموارد الوطنية والحفاظ على البيئة.
إذا الترجمة الاقتصادية لأزمة إدارة الأراضي من خلال هذه الظواهر وغيرها، هو بطء النمو الاقتصادي وجعل تحقيق بعض أهداف الخطة الخمسية أمرا مستحيلا. إضافة إلى تزايد الانفاق الحكومي على المعالجات السطحية لهذه الظواهر، مثل تزايد هدر الأموال على ازدواجية انتاج البيانات عن الأراضي، من قبل كل جهة تحتاجها.
لعل من أهم نتائج المشروع هو تشخيصه لأزمة إدارة الأراضي وفصله بين أعراض الأزمة وجذورها، وجذور أي أزمة هي المولد الأساسي للأعراض ومعالجة الأعراض وعدم البحث عن الجذور هو مضيعة للوقت وهدر للموارد، وضعت الدراسة جذور أزمة إدارة الاراضي في سورية ضمن ثلاث مجموعات رئيسة تم تحديدها على الشكل التالي:
1 ـ مجموعة العوائق الإدارية والمؤسساتية: من أهم هذه العوائق ضعف التنسيق المؤسساتي بين الجهات المعنية والمسؤولة عن إدارة الاراضي بسبب وجودها تحت إدارة وزارات مختلفة،ووجود العديد من القوانين واللوائح والاجراءات القديمة والتي لا تناسب بل تعوق إدخال واستيعاب التقنيات الحديثة.
2 ـ مجموعة العوائق الفنية المتعلقة بعدم وجود أساس مساحي صالح وموحد، وبعدم وجود قواعد لانتاج ولتداول الخرائط والمخططات والبيانات المكانية بشكل مرن ونوعي، وصعوبة التشارك في هذه البيانات بسبب عدم وجود معايير موحدة تسمح بتبادلها وإعادة استخدامها وتحديثها وجعلها متاحة للمستخدمين.
3 ـ مجموعة العوائق الخاصة بالنظام العقاري وتسجيل الملكيات: تبين أن السجل العقاري (الطابو)مع أنه لا يزال يتمتع بمصداقية قانونية عالية، إلا أنه لا يتطابق مع واقع العقارات على الأرض، وأن الطابو ليس السجل الوحيد أو المرجع الوحيد المعتمد لحفظ الملكيات في سورية، وأن طرق العمل المتبعة لتسجيل العقارات تأخذ وقتاً طويلاً وكلفة مرتفعة ودقة المسح والمخططات غير عالية، إضافة إلى أن المعطى العقاري غير مؤمن وغير متاح للتداول.
وبناء على هذا التصنيف تم تشخيص نقاط الضعف ومراكز الخلل التي تجب معالجتها واصلاحها، من أجل القضاء على مسببات الأزمة وبالتالي التخلص من الأعراض الناتجة عن المشكلة الرئيسة المتمثلة في عدم فعالية وتشتت مفاصل إدارة الأراضي في سورية.
يمكن تقسيم نتائج المشروع إلى قسمين رئيسين، الأول هو تشخيص واقع إدارة الأراضي في سورية، وعمل مؤسساته الحالي وتشريعاته وقوانينه ومشكلاته الفنية والتقنية، مع تحليل لهذا الواقع باستخدام مبدأ التحليل المنطقي،
Logical Framework Approach (LFA) المعتمد لدى العديد من منظمات التنمية الدولية.
القسم الثاني خصص للحلول المقترحة.
. نتائج القسم الأول لاقت موافقة شبه مطلقة، أما الحلول فقد نوقشت وعدلت عدة مرات لكنها بقيت، وحسب ما هو متوقع، خارج نطاق الاجماع. وبشكل أدق لاقت الاقتراحات المتعلقة بالجزء المؤسساتي ممانعة مطلقة من أغلب القائمين على هذه المؤسسات وخاصة من قبل المؤسسة العامة للمساحة، والسبب هو في معارضة جوهر خلق بيئة تنسيق بين مؤسسات إدارة الأراضي وهو حل قدمه المشروع على أساس نقل هذه المؤسسات (المصالح العقارية، المؤسسة العامة للمساحة، الهيئة العامة للاستشعار عن بعد ومديرية أملاك الدولة) تحت إدارة جسم سياسي قد يكون هيئة جديدة تسمى الهيئة العامة لادارة الأراضي، كما تم توصيف مهام الهيئة الجديدة وربط مسؤولياتها بإنجاز مشروعين وطنيين: الأول تأمين الاساس المساحي الموحد بالطرق الحديثة، وإنشاء البنية التحتية الوطنية للتشارك بالبيانات.
لقد رأت الدراسة في هذا الحل قاعدة صحيحة لتأمين شرط التركيز الحكومي على انجاز تنظيم وتطوير إدارة الأراضي دون حدوث تأثيرات جانبية على عمل المؤسسات وأدائها أثناء المراحل الانتقالية نحو تحديث القوانين والتعليمات اللازمة لخلق البيئة التشريعية والمؤسساتية المناسبة.
لقد تم تشويه هذا الاقتراح واخراجه من محتواه من قبل المعارضين له بشكل مقصود أو بسبب عدم استيعاب أبعاده، بل تم اهمال النتائج والتحليلات والاقتراحات الاخرى التي احتوتها الدراسة والتركيز على اقتراح تم تغييره كان ينادي بضم مؤسسات ادارة الاراضي تحت وزارة تستحدث لهذا الغرض.
ومع ان اقتراح انشاء وزارة تعني بشؤون ادارة الاراضي في هذه المرحلة يعد اقتراحا سليما الا ان الدراسة استبدلته بانشاء هيئة أو أي جسم إداري،و تفاديا للانتقادات المتسرعة احتفظت بشروط خلق البيئة التنسيقية والتركيز الحكومي والانتقال الآمن والمدروس نحو التحديث.
من الواضح إلى الآن أن هذا الجهد يتم إخراجه من محتواه وأن محاولة جعل هذا المشروع أن يصبح دليل عمل متكاملاً من أجل تنظيم وتطوير إدارة الأراضي بشكل منطقي وحديث قد تبوء بالفشل، ويبقى ذلك رهن الدور الذي يجده مجلس الوزراء لنفسه، هل هو الدور القديم المعتمد على التوافق بين الجهات والمؤسسات أم أخذ المبادرة وتسيير المؤسسات حسب الاتجاهات الاستراتيجية لعمل القطاعات في خدمة توجهات التنمية.
إن أهم ما يمكن عمله الآن هو القيام بتكليف لجنة حكومية باعادة مراجعة نتائج دراسة جدوى تنظيم وتطوير إدارة الأراضي في سورية، وملاءمة نتائجها مع ما يمكن تطبيقه على الواقع السوري بما يحقق المتطلبات الاستراتيجية لتنفيذ خطط وبرامج التنمية،بعيدا عن المصالح الضيقة للمؤسسات والافراد، وبعيدا عن التضليل والتشويش على اتخاذ القرارات الجذرية والاستراتيجية الذي مارسته لأكثر من عشرين سنة جهات فنية وأكاديمية تفتقر للرؤى الاستراتيجية من خلال تقديمها اقتراحات ومشاريع قرارات تعالج بشكل سطحي ظواهر أزمة الأراضي.
د. محمود آغا
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد