المواقع الثقافية العربية الالكترونية
لا يختلف اثنان على رحابة الفضاء الذي أتاحته المواقع الثقافية الالكترونية أمام الكتّاب لإيصال إنتاجهم الأدبي إلى أوسع قطاع ممكن من القرّاء، بعيدا من إشكالات النشر في الصحافة الورقية للذين لا يمتلكون أسماء معروفة. هذه المساحة الهائلة خلقت بدورها علاقة جديدة، أساسها حرية الاختيار التي فتحت الأبواب للتعبير عن الآراء ووجهات النظر، وأيضا لإنشاء مواقع خاصة بحسب هذه الآراء والاتجاهات. لكن ذلك تحقق بمرونة أكثر من تلك التي عرفناها في الصحافة الورقية المحكومة أساسا بقيود الحركة وما يثقلها من قوانين رقابية عربية ومن رأس مال كبير تحتاجه الصحيفة الورقية المرشحة دوما إلى الوقوع الحتمي في الخسارة. حال كهذه جعلت بروز صحافة الكترونية أشبه باكتشاف يمدّ يد العون إلى الأقلام الشابة، مثلما يكسر أمام المثقفين والقوى السياسية حواجز المنع ويمنحهم القدرة على توصيل ما يشاؤون من آراء ووجهات نظر.
كثيرة في شروط سهلة، هي المواقع الالكترونية العربية. على أن هذه الكثرة تحمل بدورها ملامح ضعف تعتور النسبة الغالبة من هذه المواقع التي تأسست خارج شروط المستويات الفنية ومواصفات الجدية والرصانة. فالنظرة الموضوعية الى هذه المواقع تهمل الكثير منها، رغم انها تنتشر اليوم كالفطر، لتلتفت الى مواقع أخرى نجح مؤسسوها في جعلها صحافة حقيقية تقدم الجاد والرصين وتلاحق تطورات الحياة الأدبية والثقافية بكفاءة عالية، وتتمكن في الوقت ذاته من تحقيق فكرة الثقافة الحرة والحداثية، والتي تحمل روح التسامح والديموقراطية وحقوق الإنسان وتواكب الآداب والثقافات العالمية.
أهم هذه المواقع الجديرة بالمتابعة هي "جهة الشعر"، "كيكا"، "دروب" و"الديوان"، وغيرها من التي تمكنت حقا من بلورة اتجاهات حقيقية ونجحت في استقطاب قراء ومتابعين في مختلف العواصم والمدن، بل نجحت في "استدراج" مساهمات الكتاب المعروفين من المشاهير والذين تعوّد القارىء متابعتهم في الصحافة الورقية. جمعت هذه المواقع بين أسلوبين، الأول نشر المواد الأدبية والمقالات النقدية المكتوبة خصيصا لها، والثاني أنها ثابرت على إعادة نشر أبرز ما تنشره الصحافة الورقية العربية، إدراكا من القائمين على هذه المواقع أن الصحافة الورقية، ومهما يكن حجم انتشارها، تعجز عن الوصول إلى مساحات كبرى من القراء والمتابعين كما تفعل الصافة الالكترونية.
منذ اسابيع، أعلن موقع "كيكا" عن توقفه، وكان اسسه الكاتب العراقي صموئيل شمعون وتتوزع نشاطاته على أجناس الأدب المختلفة ولا تقف عند الشعر وحده. شكل ذلك صدمة لكثر من المواظبين على متابعة هذا الموقع الذي احتل مكانة مهمة في الحياة الصحافية الثقافية. واظب "كيكا" على الاهتمام بنشر النصوص الخلاّقة والمقالات النقدية المتقدمة ذات المستوى المتميز، فاحتفظ لنفسه بمكانة مرموقة حظي من خلالها باحترام وتقدير الكتّاب العرب على اختلاف أقطارهم وأمزجتهم. من أهم ما قدّمه "كيكا"، مسابقتها الأدبية التي جرت في ايلول الفائت للشعر والقصة والمقالة، مسابقة اتصفت بالنزاهة والموضوعية ولاقت صدى طيبا في الأوساط الأدبية العربية. في اي حال، لم يوضح "كيكا" أسباب توقفه الموقت، ونأمل في أنه سيعود إلى النشر بعد ان يتجاوز الأزمة التي يمر بها.
قبل أشهر قليلة احتفلت الأوساط الثقافية العربية بذكرى إنشاء "جهة الشعر"، الموقع الالكتروني الذي أسّسه وأشرف عليه، ولا يزال، الشاعر قاسم حداد، فكان في صورته الأخيرة مساحة جميلة للخلق والنقد، مع استعداد دائم للتطور في اتجاه توسيع آفاق عمله، وخصوصا إقامة علاقات ارتباط مباشرة بالجامعات ومراكز البحث العالمية الكبرى، بما يجعل هذا الموقع يتجاوز فكرة نشر قصيدة أو مقالة إلى اعتباره إحدى نقاط انطلاق الأدب العربي نحو العالم الواسع والتعريف به، من خلال باب الترجمة في الاتجاهين، أي من العربية واليها.
ينقسم "جهة الشعر" أبواباً متعددة تتنوع اهتماماتها بين نشر الشعر والنقد والترجمات من الشعر العالمي، إضافة إلى المقالات الأدبية المختلفة الاتجاهات. تحتاج هذه النشاطات بالتأكيد مالى تابعة دؤوبة، سواء في ما يصل الى الموقع من مشاركات أو ما ينشر في الصحافة الورقية والمواقع الالكترونية الأخرى من أعمال ومقالات، ترى هيئة التحرير ضرورة إعادة نشرها في الموقع. كثر من الكتّاب المعروفين يحرصون على النشر في "جهة الشعر"، لأسباب متعددة منها ثقتهم بأن قراء الموقع هم في الغالب من المثقفين والخلاّقين الجادين، إضافة إلى أن النشر فيه يوفر لصاحبه توثيقا لما يُنشر، ناهيك بأن الموقع ينشر مواده بأكثر من لغة إضافة إلى العربية. ويجمع المؤيدون والمنتقدون أن "جهة الشعر" هو من أبرز المواقع الثقافية لما يتمتع به من جدية ورصانة ومن مستوى أدبي راق يساهم فعلا في تطوير حياتنا الأدبية ويرتقي بها، وقد أصبح خلال عشر سنين مرجعا لا غنى عنه لمن يدرس الأدب العربي عموما وفن الشعر على وجه الخصوص. إذ هو الموقع الوحيد يتمتع بشمولية وتعددية ويتخذ مسارا صحافيا راقيا يجعله يتجاوز كونه الكترونيا ليصعد إلى مكانة مراكز النشر الكبرى والتي يمكن أن تكون أرضا صالحة لتأسيس علاقات ثقافية متقدمة وحديثة مع المواقع الأخرى المشابهة في العالم، بما يخدم الإنتاج العربي وحركة الترجمة من العربية واليها. لكننا بتنا نلاحظ في المرحلة الأخيرة تباطؤا في نشاطه اليومي وتجديد منشوراته الذي كان يتم بوتيرة اسرع.
ثمة مواقع الكترونية أخرى قدمت جهدا جميلا وحاولت المساهمة في تنشيط الحياة الثقافية، مثل "الديوان" الذي أنشأه وأشرف عليه الشاعر المصري الشاب والمقيم في بلجيكا عماد فؤاد. في تعريفه لأهداف الموقع يذكر عماد فؤاد متابعة الشعر المصري الجديد، إضافة الى اهتمامه بالشعر العربي عموما. "الديوان" توقف أخيراً عن متابعة الصدور، وذكر صاحبه عماد فؤاد أن السبب يعود إلى تقاعس الشعراء المصريين عن التواصل مع الموقع ما جعله يفشل في تحقيق أبرز أهدافه، أي الاهتمام بالشعر المصري الجديد. موقع "الديوان" قدّم مساهمة لافتة للتعريف بقصيدة النثر المصرية وكان متميزاً من خلال ملف "اللحظة الشعرية المصرية الراهنة"، والذي جاء في أربعة أجزاء وشارك فيه عدد كبير من الشعراء والنقاد، فشكّل مرجعا مهما للدارسين، وخصوصا أن قصيدة النثر المصرية كانت ولا تزال الأقل إضاءة بين مثيلاتها العربيات، ناهيك بأن "الديوان" اعتنى أيضا بنشر أعمال شعرية عربية من بلدان مختلفة كانت في غالبيتها لشعراء من الأجيال الجديدة ومن أصحاب الاتجاهات المغايرة، والتي تحتاج عادة الى التشجيع وإفساح مساحة من حرية النشر أمامها.
من المواقع المهمة، يمكن الإشارة أيضا إلى "دروب" و"الامبراطور" و"إيلاف" و"ألف"، وتتوزع اهتماماتها بين الأدب والثقافة والشأن السياسي وتفتح أمام المساهمين فيها مساحات جدية للحوار الذي يضيء بعضا من أهم القضايا التي تواجه العرب كغياب الديموقراطية والحريات. أسس "الامبراطور" ويشرف عليه الشاعر العراقي أسعد جبوري، ويعتني أساسا بالشعر خلقاً ونقدا، في حين يشرف الشاعر التونسي المقيم في ميونيخ كمال العيادي على القسم الثقافي في "دروب". يهتم "إيلاف" بالقضايا الفكرية والسياسية وما يتصل منها بمسألة الحريات العامة، ويمكن من خلاله متابعة أخبار المعارضات العربية وشؤونها، كما يمكن قراءة المقالات والمداخلات السياسية التي تعكس وجهات نظر ليس لها من مكان عادة في الصحف الورقية. ويذهب "ألف" نحو فضاء خلاّق أكثر جرأة، وخصوصا في نشره القصائد الايروتيكية وذات العلاقة بالجسد. تختلف هذه المواقع في توجهاتها المتنوعة، في مستوى ما تقدمه من مشاركات، وإن كانت تفتح كوة في جدار النشر الموصد أمام الشباب، وتوفر لهم قنوات لتوصيل أعمالهم إلى قطاعات واسعة من القراء.
بعيدا من هذه المواقع، ثمة موقع مهم آخر، يجسد اختلافاً نوعيا هو "حجلنامة"، ويتخصص في نشر النصوص الأدبية للأدباء الأكراد أو المتابعات النقدية التي تتناول ما يكتبه الأكراد، سواء بالكردية أو بالعربية. يساهم "حجلنامة" في تقريب المفاهيم بين الثقافتين الكردية والعربية ويتولى تعريف القراء العرب بإنتاجات الأكراد. يفعل "الذبابة" الشيء نفسه، على مستوى الأدب العربي، إذ يقدم إنتاجات أدبية مغاربية لا يعرف قراء المشرق عن أصحابها الكثير.
إلى جانب هذه المواقع، ثمة نوع آخر من المواقع الالكترونية يكرّسه أصحابه ومؤسسوه لأنفسهم ولآرائهم البالغة الإيغال في النرجسية والذاتية، مما يدفعهم في معظم الأحيان إلى تبني قضايا خلافية من النوع "الفضائحي" الذي يتقصد مناوشة الشؤون الشخصية للأدباء والكتّاب، في لغة حوارية شديدة الانحدار، تضيع معها الموضوعية، وتجعل الموقع يتحول ساحة لكيل الشتائم تحت شعار النقد. ومن شأن هذا المنحى أن يجعل الموقع مقتصراً على مجموعة محدودة من "المريدين". هو نوع من النشر الالكتروني يثور على تعسف الصحف الرسمية لكنه يوظّف للهجوم على الخصوم وتصفية الحسابات معهم. وشهدنا خلال السنوات الأخيرة "صولات" بعض "المعارك الثقافية" التي اتصفت بالانحدار والسوقية.
فضاء الانترنت مفتوح، بما يعني أن الإشارة إلى المواقع الالكترونية السابقة لا يلغي توافر مواقع أخرى صارت تُعدّ بعشرات الآلاف وربما أكثر، لكنها في الغالب إما من النوع البسيط الذي لا يتجاوز مستواه عمل الهواة والمبتدئين وإما من تلك "الديوانيات" التي يقبل عليها الشباب لتبادل الآراء العابرة والتعارف. جانب آخر من عالم النشر الالكتروني لعله الأهم والأكثر غزارة اليوم، يتمثل في المواقع الالكترونية الشخصية التي انتشرت في السنوات القليلة الفائتة. أصبح من المألوف وشبه الطبيعي أن يؤسس الكتاب والشعراء مواقع خاصة بهم ينشرون فيها إنتاجاتهم الأدبية ويتلقّون في زاوية خاصة فيها آراء الآخرين من النقاد والقراء على حد سواء. ذلك كله لا يلغي الفوضى الكبرى الناجمة عن ظهور أعداد لا تحصى من مواقع الكترونية شخصية لا تمتلك من المبرّرات سوى رغبة مؤسسيها في إرضاء نزواتهم. لكن، على الرغم من الركاكة الغالبة، فإن هذه المواقع تتيح أمام القراء الفرصة لتقديم آرائهم في القضايا الكبرى والمصيرية، بما أدى الى "إقلاق" السلطات العربية التي بدأت بملاحقة بعض المواقع وحجبها عن الوصول إلى المواطنين المقيمين في مساحة شبكتها الالكترونية. واستدعى ذلك قيام شبّان باستنفار خبراتهم لإحباط هذا الحجب بطرق مختلفة، فصار من المعتاد لدى هواة الانترنت أن يستقبلوا يوميا أعدادا لا تحصى من المقالات السياسية التي سبق لحكومات معينة حجبها، فعمد أصحاب مواقع إلى نشرها بطرق مختلفة أو على الأقل تعميمها كرسائل.
في الأحوال كلها، يمكن القول إن حضور المواقع الالكترونية في حياتنا الثقافية يفتح عصرا جديدا. فقد انكسرت قيود وتحطمت حواجز وانفتح الطريق الحر للنشر في فضاء شاسع، بل لعله فضاء بلا ضفاف. لا نبالغ إذا قلنا إن المواقع الثقافية الالكترونية الأهمّ صارت "سلطة" ثقافية لا تقل قوة ونفوذا عن سلطة الصحافة الورقية، وهي التي نشأت أساسا كنوع من الرد عليها والتمرد على سطوتها. كان لافتا في الفترة الأخيرة أن يعمد شاعر معروف كوديع سعادة إلى نشر مجموعته الشعرية الجديدة عبر الانترنت مؤكداً أنه سوف يكتفي بهذا النشر ولن يطبعها بعد ذلك في كتاب ورقي.
هل صار العالم حقا قرية صغيرة؟... لِمَ لا!
راسم المدهون
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد