المتنبي في محكمة 30 شاعراً عربياً (3)
سيظل المتنبي الشاعر المختلف عليه في العصور المقبلة مثلما كان مختلفاً عليه في العصور الماضية، البعض يراه مبدعاً عظيماً جاوز كل الآفاق بدءاً من أبي العلاء و «معجز أحمد» وانتهاء بمريدي المتنبي من الطلاب الريفيين في أروقة الكليات. والبعض الآخر يراه شاعراً منتفخاً مريضاً بحب ذاته، مداحاً لكل من يملك أو يحكم وانتهازياً كبيراً يأكل من كل الموائد. لكن المختلفين عليه عادة ما يلجأون الى الطعن في شخصه وأخلاقه من دون المساس بقيمته كشاعر عظيم. حتى الذين رأوا فيه النموذج الخالص للشاعر المتنبي المستقر ذهنياً وجمالياً، الشاعر المنشد خلافاً لأبي تمام مثلاً، الشاعر البنّاء المفكر. هؤلاء قدموا توصيفهم له الذي لم يهز مكانته المركزية في الشعر العربي. وفي ظني أنه نال هذه المكانة المتميزة، ليس فقط لجمال عبارته وجزالة ألفاظه وحسن سبكه وإنما لأنه كان النموذج الأول للمثقف المعتز بنفسه أمام الحاكم، والذي رأى في الموهبة الإبداعية مؤهلاً للحكم وامتلاك السلطة في مقابل المؤهلات التقليدية للحاكم من وراثة أو اغتصاب. هذا الموقف كان رهناً بنفس المتنبي العالية ووعيه بموهبته الكبرى واعتزازه بها في مواجهة سلطة الحاكم الغاشمة التي قد تقترن بالحماقة والسفه والطيش والغباء لتكون المفارقة أنكى وأمرّ. حق له إذاً ما دام امتلك الوعي «بولاية الشاعر» أن يقعد لطموحه الهائل الذي يشبه طموح المماليك في الخلافة بحسب الأعراف المستقرة، بأن يعلنها: «أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي/ وأسمعت كلماتي من به صمم».
وهذا ليس فخراً قبلياً من قبيل ما لحق به من بقايا البداوة وإنما هو «ميكانيزم» دفاعي في مواجهة تيه أصحاب السلطة والحكم بما يملكون من قوة مادية، بل إننا لا بد من أن نتوقف أمام بيته الشهير، بيته التميمة الدعاء الذي يقول فيه مدعما نفسه ومؤكداً لها حتى وإن توجه بالخطاب الى غيره: «عش ابق اسم سد قد جد مر انه رف اسر تل/ غظ ارم صب احم اغز اسب رع زع دل انثن نل». هذه تميمة المتنبي التي عاش يرددها لنفسه كمن يتلو «ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون».
كان لا بد من أن يقدم شاعر مثل المتنبي على كسر التابو الاجتماعي الذي يحرم على الشاعر أن يتجاوز منزلة المهرج، بأن يؤمن أولاً بنديته للأمير وأحقيته بالإمارة، فإن لم يكن فبالمنزلة الرفيعة التي تليق بشاعر مثل.
كريم عبد السلام
- لست مطمئناً لما تعودنا أن نقوله عن المكانة التي يحتلها المتنبي في الشعر العربي، خصوصاً حين يعتقد البعض أن هذه المكانة ثابتة، وأنها لم تتغير في هذا العصر عما كانت عليه في العصور الماضية.
وأنا لا أشك في شاعرية المتنبي، ولا أنكر شهرته العريضة، لكني أنكر مبالغات المتحدثين عنه، وأشك في ما يدعونه عن إعجابهم به ومعرفتهم إياه؛ لأن معرفته تتطلب علماً وذوقاً لا يتوافران دائماً ولا يجتمعان إلا للقليل النادر من الناس، وأغلب الظن أن أكثر من يتحدثون عن هذا الشاعر يرددون ما يسمعون، ولا يرون ضيراً في هذا، لأنهم يشهدون للمتنبي بالفضل، ويشهدون لأنفسهم بمعرفته.
وقد سمعوا بالطبع أن المتنبي ملأ الدنيا وشغل الناس، فهو إذن أكبر شاعر عربي ليس في الماضي فحسب، بل في الماضي والحاضر والمستقبل أيضاً؛ لأن الماضي في نظر هؤلاء - كما في نظر المتنبي - هو شباب الزمان، أو هو العصر الذهبي الذي لا يفوقه ولا يساويه أي عصر لاحق، والظروف التي ساعدت على ظهور المتنبي لن تتكرر، والأسطورة تكتمل بهذا الاسم الفريد الذي رضيّ الجميع بأن يحمله المتنبي، كأنما هو حق له وحده أن يدَّعي النبوة!
وشكي في حقيقة المكانة التي يحتلها المتنبي في الشعر العربي ليس مرده الشك في قدرة الكثيرين على قراءته فحسب، بل مرده أيضاً الشك في قدرة المتنبي على أن يفوز بإعجاب الجميع وخصوصاً المعاصرين. لأن المتنبي يقدم لنا في معظم قصائده نوعاً من الشعر لم يعد قادراً على مخاطبتنا في هذا العصر. نوع من الشعر يقوم على حفظ المسافة الفاصلة بينه وبين موضوعه وبينه وبين قائله، فمن الطبيعي أن يقيم هذه المسافة بينه وبين القارئ في هذا العصر.
الموضوع في شعر المتنبي - وفي معظم الشعر القديم - هو الآخر البعيد بوجوهه المتعددة الإيجابية والسلبية التي يكون فيها مرة ممدوحاً، ومرة مهجواً، ومرة مرثياً. وهو بوجوهه كلها ليس شخصاً بالذات، وليس حتى إنساناً، وإنما هو نموذج، نموذج للخير والنبل والجمال إذا كانت القصيدة مديحاً، أو للشر والخسة والقبح إذا كانت هجاءً.
والمتنبي لا يتورع عن أن يجعل ممدوحيه آلهة قادرين على كل شيء. وأن يجعل مهجويه أرانب وغنماً وكلاباً. وبما أنه لا يتحدث غالباً عن إنسان ولا يتعاطف معه وإنما يتتبع صفات النموذج المقررة سلفاً فهو قادر على أن يهجو من مدحه من قبل وأن يمدح من هجاه.
شعر المتنبي شعر محفوظ أخذه المتنبي عن الذين سبقوه. لأن الإبداع في زمنه لم يكن خلقاً جديداً، وإنما كان إعادة صياغة. والشعراء والبشر عموماً في زمنه لم يكونوا أفراداً وإنما كانوا عشائر وقبائل تنتمي لأصل أسطوري يراه أهله نموذجاً في النبالة، ويراه أعداؤهم نموذجاً في السفالة. هذا النموذج بوجهه هو موضوع الشعر القديم، وهو لغته أيضاً التي لا تنسب لشاعر فرد، وإنما تنسب لكل من يحفظونها ويعيدون إنتاجها. فإذا أردنا أن نضع أيدينا على سمات فردية في الشعر القديم فلن نجدها إلا عند الشعراء الذين انفصلوا قليلاً أو كثيراً عن جماعتهم وتحدثوا عن عوالمهم الخاصة كأبي نواس والمعري، والصعاليك والفُتاك، والخوارج، والمُجان، والمتصوفة.
وأجمل ما في ديوان المتنبي وأبقاه تلك المقاطع والأبيات المتناثرة والأمثلة السائرة التي يحب فيها ويكره ويتأمل ويتذكر، ولا شك أن هذا الجانب من شعره يضعه في منزلة رفيعة بين الشعراء العرب، لكنه لا يجعله أكبرهم.
أحمد عبد المعطي حجازي
- لا أفهم لماذا هذا التساؤل بالصيغة التعجبية الاستنكاريّة أحياناً عن ديمومة شاعريّة أبي الطيّب قرابة عشرة قرون! وكأن العرب وحدهم يملكون ظاهرة كهذه، أليس هناك شكسبير الذي لا يزال يُمثّلُ ويُحفظُ على الغيب لدى طلبة المسارح والأدب في كل أوروبا والعالم أجمع؟ أليس هناك سرفانتس في اللغة الاسبانيّة وهل أتوقف عند هذين الاسمين لكي لا أملأ الصفحة بأسماء رديفة من كل ثقافات ولغات العالم؟ أم تراني بمثل هذا التساؤل أعود إلى شعر أبي الطيب نفسه الذي يقول: «وتعظم في عين الصغير صغارُها وتصغرُ في عين العظيم العظائم...».
إنها مسألة طبيعية في تعريف الشاعر العظيم، إنه الشاعر الذي يخترق اللغات والأزمنة والأمكنة وبهذا المعنى فإن عظماءَنا الأقدمين هم من وصلوا إلينا وما أكثر من سقطوا أمام ممحاة الزمن وعوارض التعرية المكانية والتأريخية التي تحفل بها ثقافتنا. وإذا أردنا أن نقترب أكثر من نص المتنبي لنعرف سببَ عظمتِه وسرَّ تَجدُّده فإنني أعتقد أن الأمر يكمن في أن الشعر العربي بعد المتنبي لم يعد كما هو وذلك لأنه عرف كيف يتمثّل الفكر والمنطق اليوناني التي كانت حديثة الترجمة ويمزجها بعنفوان العاطفة والغنائية البدويّة ولا علاقة لكل هذا بالغرض الشعري مدحاً أو ذمّاً، غزلاً أم عتاباً. إنّ أيّ موضوع مهما كان مبتذلاً أو مطروقاً يمكن أن يكون مادّة لنص عظيم إذا كان المبدع قادراً على بعث كينونة جمالية بدمها وروحها عبر اللغة وحسب. ألم يعشْ الفن الأوروبي منذ القرون الوسطى في أحضان الكنيسة والملوك والأمراء ولكن هل مَنعتْ الكنيسة أو الملكيّة من بزوغ ميخائيل إنجلو وهل اعترض بلاط فرانسوا الأول ملك فرنسا عبقرية ليوناردو دافنشي؟ ثم القول «إن المتنبي يفخر بنفسه لدرجة تخرج عن المنطق» أجل ولكن ذلك شأن الكبار كل الكبار، ألم يكتبْ هوغو عن ميلاده بأنه جاء مثل الزمن بكامله وأن القرن التاسع عشر ولد قبلَهُ بـ «عامين»؟ ثم ألم يكتب هيدجر عن هولدرلين قائلاً «إنه يتحدث عن الجبال والأنهار مثل إله»... والكوميديا الإلهيّة لدانتي أين نُصنّفُها في فن الكتابة من حيث وصفِها الدقيق للعالم الآخر وأين نضع دانتي «خالق» هذا العالم في اللغة الايطالية؟
وأخيراً، المتنبّي متناقض لأنه حقيقي.. إن من لا يتناقض هو الزائف الذي يظنّ أنه يملك الحقيقة أو يُموَّهُ لذلك لأن الحقيقة ليست في متناول إنسان قط. وعلى أي حال ليس على الدوام. وكما قال لي بيكيت في لقاء أخير معه قبل أن يموت «إنني صامت الآن أو أكاد، ذلك لأنني أقترب من الحقيقة.. وعندما أدركها أو تدركني سيحل الصمت المطبق». ولهذا فإن المتنبي بالنسبة لي هو كما قال نيتشه، «لا شيء غير شاعر» وفي هذه «اللاشيء» النيتشويّة يَكمُنُ كل شيء.
شوقي عبد الأمير
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد