الكتاب أضرحة وتعاويذ لتوطين النار وحفظ الأسرار
يقول المعماري هوندرت: "لا أتخيل إنسانا رومنطيقياً مالكا للمنزل الذي سأصممه للمستقبل، فلا عاطفة ولا خيالات جامحة ولا أهواء، سيظل المنزل يحوي في داخله الولاء القديم الذي لا يضيع تحت حصار الآلة". ما ينطبق على البيت، ينطبق على الكتاب، إذ تسكنه الافكار، وله اثاثه وجماله ومغامرته. هذا ما نشعر به في المعرض الذي يقيمه ناصر مؤنس في "غاليري رقم 9"Galerie Number Nine في مدينة نالد فيك في هولندا، حيث نتلمس الولاء القديم والمخيال الجامح اللذين نوّه بهما المعماري هوندرت. الآلة التي تسحق بدورانها العالم، مفقودة تماما في المعرض. نرى فقط اليد التي تنتج اللوحات، بدقتها وإخلاصها وزهدها وصمتها وخيالها. نرى أيضاً كتاباً يشبه ضريح ابن عطاء الله، وصفحات تذكّر بحجرات مضاءة بكلمات الحكمة، ومداداً يرافقنا لونه ونحن نتجول في الأروقة.
المعرض قسمان، يتضمن الأول لوحات غرافيكية بأشكال واحجام مختلفة، ويحوي الثاني كتباً فنية مشغولة باليد وبعيدة عن فتك الآلة التي حذّر منها أنطوان دو سانت اكزوبيري. سوف أتطرق إلى معرض الكتب اليدوية وأستخدم مفهوم "الكتب – الصناديق"، مستفيدا من الخلفية التي توحي بها لوحات القسم الأول. تطوف غالبية الأعمال في حضرة اشكال ورموز لا تحاكي لغة محددة، سواء أكانت عربية أم أجنبية، بل أقرب ما تكون إلى تعاويذ وطلاسم. ثمة مخطوطة للرازي تصور الحروف كتشكيلات بصرية، وقد أجاد الفنان توظيف هذه الفكرة في لوحاته الغرافيكية حيث ان كل شيء مادي يوحي شكلاً بصرياً إذا جرّدته من اسمه ومفهومه. ثمة علاقة سببية بين القلم والكتاب والسحر، وثمة عداوة مصيرية تميل الى الحذف والإقصاء بين الفن والأخلاق في مفهومها الكهنوتي. الفن يذكّر اللاهوت بأن لا حاجه اليه في عالم يسوده الخلق، حيث ينكر الفن أخلاق اللاهوت، الذي نراه يعقد في غالب الأحيان صلحاً عفويا مع الايديولوجيا ضد الفن. الفن بتنكره هذا، يريد القول ان السحر ليس حكرا على الجن بل يستطيع هو مزاولته. فالتعويذة من وجهة نظر الفن لا تعني الوقاية من الحسد. الفن محسود أصلا من الملائكة والكهنة، لما فيه من مروق. أما التعويذة فوقاية ضد فكرة استسهال إنتاج الفن. والسحر، أسوة بالفن، هو إنتاج المهارة والإثارة. الفن هو السحر. ألا يقال عن الشاعر انه ينتظر شيطان الشعر، ويكون كمن تستهويه الشياطين؟
الكتب في المعرض، عبارة عن صناديق تضم في داخلها أوراقا متسلسلة تفضي إلى أوراق أخرى مطرزة بمجهول من الأدعية والتعاويذ، تقر بعظيم الامتنان للسحر. تشبه هذه الصفحات المترابطة قصص "ألف ليلة وليلة" مثلاً، وقد لاحظ احد الباحثين أن رقم ألف ليلة وليلة مفتوح في اللغة العربية وليس مغلقا كالألف، مما يشير إلى علاقة ما بين الكتاب والصندوق والحكاية التي هي محور فكرة المعرض:
- القفل والكلاّب في الصندوق هما كالشفتين للفم. فما ان يُفتح القفل حتى ينفتح الكتاب - الصندوق كاشفا عن صفحاته. الفم هو راوي الحكاية، لذا يخيط البعض أفواههم، إشارة إلى التوقف عن الكلام، وهذا ما يؤديه القفل في الصندوق.
- صفحات الكتب متسلسلة ومتصل بعضها ببعض، فحينما ينفتح الصندوق تتحقق أمنية الأوراق في الظهور، وهذا يشبه تماما رغبة الحكاية في الانفلات من فم الراوي لكي تُسمع. عملية اتصال الأوراق في اثناء انفتاح الكتاب، تشبه تماما تسلسل الحكاية من حيث بنائها الأدبي. فعندما تنطوي الصفحات، تصبح صفحة واحدة ثم تعود إلى الصندوق الذي يشبه الفم، وحالما يتوقف الفم عن الروي تعود الحكاية إلى الفم - الصندوق.
- يتكوّن الصندوق عادة من مادة الخشب، وهي حال الكتب - الصناديق في المعرض.
- الصندوق حافظ للأسرار، مثله مثل رحم المرأة والستائر في البيت. هي جميعاً تحفظ الغيب.
الكتاب، بما يتضمنه من جهد وأفكار، هو الآخر حافظ للأسرار. فحتى لو استطاع قارىء نبيه إن يفك رموزه، فسيبقى الكتاب محجوبا عليه، وأقل هذه الحجب هي أسرار كتابته ومقاصدها.
- الصندوق والكتاب كلاهما يحمل السر والعلن في الوقت نفسه. يمارس الصندوق هذه الصفة بإحكام، ويسمح له غطاؤه بهذا الصلف الإخفائي، في حين يعتقد الذي يتصفح الكتاب أنه مكشوف له، لكن الكتاب كالصندوق مغلق، وإن بدا أيسر على التصفح. وهنا أشير إلى تمنع الكتاب، وإن بدا مكشوفا. تتصل فكرة تجليد الكتاب بحجب الأسرار، فالقارئ الجيد يغلف كتابه المفضل للحفاظ عليه من الاهتراء، أي أنه يحفظ ما في داخله من الأسرار. وثمة بعض الكتب المقدسة مثل القرآن أو الإنجيل، يُعمل لها غلاف ثانٍ من الكرتون بقصد تقديسها (يلاحظ هنا ان مادة الكرتون من الخشب)، كما يحفظ البعض كتبه في صندوق خشية السرقة، ويضعها البعض في حقيبة، وهذه هي نفسها فكرة الصندوق.
مشاهدة كتب ناصر مؤنس تجعلنا نرتبط بصداقة قلبية مع عوالم مملوءة بمناخات تقع على الجانب الآخر من العالم المادي. نتعرف الى "كتاب الشمع"، وهو على شكل يد مضمومة على أربع أصابع تُحيل على يد القسم او الحسد، متصلة بصندوق، ما ان ينفتح حتى ينكشف الكتاب على هيئة يد ممدودة بطول 5.2 امتار. غلاف الكتاب من الخشب (خشب الصناديق نفسه) والزنك، وغرافيكية طباعية تستخدم المواد الطبيعة الخالصة وألوان الشمع. "كتاب النار وملح الليمون"، مكتوب بملح الليمون ومعالَج بالحرق. فكرته تتناغم مع فكرة الحبر السري الذي يمكن تظهيره بالنار وقراءة الممسوح، أي الرسائل السرية. فما ان تمس النار الورقة حتى تظهر الكتابة المخفية ثم تحترق، إلا ان الورقة تبقى في كتاب ناصر مؤنس حيّة ناطقة بعد ان يعاملها الفنان بطريقة خاصة تعتمد على كمية الملح ومدة تعرضها للنار. ثمة "كتاب التعاويذي"، وهو رسم بالصورة لقصائد الفنان نفسه، الذي هو أيضاً مخرج سينمائي. عندما يصمم كتابا يقوم بإخراج كفيلم فيدير فريق عمل مؤلفا من العفاريت والتعاويذ في لوحاته.. وقد عرض الفنان كتابه التعاويذي هذا كضيف شرف في بيينال الإسكندرية الثاني للكتاب، وهو يدويّ بالخالص، من نسخة واحدة ويتكون من 60 صفحة ويكرس فكرة أن الكتاب كاللوحة المتحفية، ويمثل تعويذة تنقذ المرء من الهزائم.
في المعرض "كتاب الملك" لناصر مؤنس نفسه ويتضمن سيرة الملك ابتداءً من صولجانه الى كرسيه. الغلاف مصنوع من الحرير الطبيعي بطريقة الحفر على الخشب. ثمة كتاب آخر عنوانه "عزيزي فلليني"، على شكل اكورديون يتناغم مع حلم المخرج الإيطالي فيدريكو فلليني، كما لو كان هذا الأخير لا يزال يواصل تشكيل هذا العالم الغريب. الكتاب بطول سبعة أمتار ومصنوع من الخشب وورق ومواد مختلفة. ولكل من هذه الكتب طريقة مختلفة في التصنيع تختلف من حيث أسلوبها وتنفيذها. وثمة "كتاب الرماد" و"كتاب الرسم بالممحاة" و"كتاب الحرب" و"كتاب الكراريس".
بعض الكتب لا يكفي أن يستخدم الزائر نظره كي يراها، فقد يحتاج الى ان يلمسها أو يشمّها لأنها مصنوعة من زعفران وروائح أخرى. وثمة كتب يجب أن يتذوقها، إيحاءً بالكتاب المسموم في حكاية "ألف ليله وليلة" والذي استفاد منه الكاتب الايطالي امبرتو ايكو في "اسم الوردة".
علي البزاز
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد