القمة المصغرة في ليبيا لم تبلور رؤية عربية للاتحاد المتوسطي
لم توفق القمة العربية المصغرة التي استضافتها ليبيا في بلورة موقف موحد من مشروع «الاتحاد من أجل المتوسط» بسبب غياب أربعة بلدان معنية بالموضوع، وهي مصر ولبنان وفلسطين والأردن، إضافة الى غياب الملك محمد السادس الذي أناب عنه رئيس الحكومة المغربي عباس الفاسي.
ويمكن القول إن قمة ليبيا لم ترأب الصدع بين فريقين عربيين أحدهما متحفظ على المشروع الفرنسي منذ بواكير عرضه على بلدان المنطقة، والثاني متحمس له. ويضم الفريق الأول الجزائر وسورية وليبيا، فيما يضم الثاني بقية البلدان العربية المشاركة في مسار برشلونة. ومن المقرر عقد القمة التأسيسية للاتحاد في باريس في الثالث عشر من الشهر المقبل بمشاركة 39 زعيم دولة من البلدان المطلة على المتوسط وأعضاء الاتحاد الأوروبي.
وفيما كان الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي يحمل على «الاتحاد من أجل المتوسط» في الكلمة التي افتتح بها القمة المصغرة التي استمرت ثلاث ساعات في طرابلس، كان موفدو ساركوزي يسلمون دعوات الى رؤساء الدول المعنية لحضور القمة التأسيسية في باريس. وكان الاجتماع الوزاري العربي الذي عقد في القاهرة في 24 أيار (مايو) الماضي وضم عشر دول عربية بدعوة من وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط لبلورة رؤية عربية مشتركة من مشروع «الاتحاد من أجل المتوسط»، انفض من دون الوصول إلى موقف موحد، على عكس الاتحاد الأوروبي الذي استطاع السيطرة على خلافاته في القمة الأخيرة.
- وبمقدار وضوح موقف العرب المؤيدين للمشروع الفرنسي (الذي غدا الآن مشروعاً أوروبياً) مازال الغموض يكتنف رؤية الفريق المتحفظ عليه، فالقذافي الذي كان أبدى حماسته لمشروع «صديقه الحميم» ساركوزي خلال زيارته «التاريخية» لباريس، عاد يحمل في شدة على المتوسطية في خطابه أمام القمة المصغرة الأخيرة. ولم يُحدد القذافي سبباً دقيقاً لمعارضته، لأن مشاركة إسرائيل في الاتحاد لم تكن العنصر الحاسم الذي حمله على تغيير موقفه، إذ أنه ربط الموافقة بتعاون أوروبا مع الجامعة العربية او الاتحاد الافريقي. وكان أحد مستشاريه المقربين عزا معارضة ليبيا إلى منطلقات مختلفة عن التي ذكرها القذافي، إذ أعلن منسق العلاقات المصرية - الليبية أحمد قذاف الدم، عقب زيارته الرئيس المصري حسني مبارك آخر الشهر الماضي، أنه «يجب أن يكون لنا رأي في الطرح (الأوروبي) لأننا لسنا متلقين فقط، وسبق أن نادينا بأن يكون البحر المتوسط بحيرة للسلام وخالياً من الأساطيل الحربية». وكان القذافي أشعر الفرنسيين بكونه لن يحضر قمة باريس بسبب مشاركة إسرائيل فيها، مثلما أبدى الرئيس الجزائري عبد العزيز بو تفليقة، خلال اجتماعه مع وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير في الجزائر أخيراً، ملاحظات على صيغة «الاتحاد من أجل المتوسط» لم يُكشف عن فحواها.
وعبّرت الجزائر على لسان وزير خارجيتها مراد مدلسي عن تحفظات من نوع آخر، فهي «وضعت الكثير من علامات الاستفهام على الفكرة التي لم تجد لها إجابات شافية» على ما قال مدلسي . غير أنها لم تُقفل الباب أمام احتمال الانضمام للاتحاد «في حال توضيح مضمونه» وإذا ما بات وسيلة للتعاون تُكمل مسار برشلونة الذي أطلق عام 1995.
أما تحفظات سورية فتدور حول مشاركة اسرائيل في الاتحاد ومخاوفها من أن يكون مسار التعاون الإقليمي جسراً لتكريس التطبيع السياسي والاقتصادي والثقافي بين العرب والدولة العبرية. لكن الفرنسيين بذلوا جهوداً لمحاولة تطمين دمشق على رغم علاقاتهم الثنائية المتوترة معها. وفي هذا السياق اجتمع وزير الخارجية السوري وليد المعلم أخيراً مع السفير الفرنسي في دمشق ميشال دوكلو من أجل «تبادل وجهات النظر إزاء المشروع المتوسطي والخطوات الجارية الى حين انعقاد القمة المتوسطية». ويُرجح أن تمضي باريس خطوات أبعد في الانفتاح على الموقف السوري من خلال زيارة كلود غيان الأمين العام للرئاسة الفرنسية و ديفيد لافيت المستشار السياسي لساركوزي الى دمشق الأحد، على أمل وضع «القواعد المستقبلية» للعلاقات الثنائية. ولا تستبعد مصادر سورية مشاركة الرئيس بشار الأسد في قمة باريس المتوسطية، وهو ما يؤكده حضور معاون وزير الخارجية السوري عبدالفتاح عمورة في اجتماع كبار الموظفين المتوسطيين في سلوفينيا التي ترأس الاتحاد الأوروبي إلى آخر الشهر. كذلك يُرجح أن تشارك سورية في الاجتماع المقبل لكبار الموظفين المقرر ليومي 3 و4 تموز (يوليو) المقبل في باريس.
في المقابل أبدت بلدان عربية أخرى، خصوصاً مصر وتونس والمغرب، حماسة للمشروع، وهي لا ترى في وجود إسرائيل عقبة أمام الانخراط فيه. وأكد ساركوزي أن العواصم الثلاث أشعرته بكونها لا تعترض على عضوية الدولة العبرية في الاتحاد المنوي إنشاؤه.
وأجريت محاولة أولى للسيطرة على الخلافات والتقريب بين رؤيتي الفريقين في الاجتماع غير الرسمي الذي عقده في الجزائر يومي 5 و6 الجاري وزراء خارجية 13 دولة متوسطية وخصصوا الجانب الأكبر منه لمناقشة مشروع الاتحاد من أجل المتوسط.
وكان يُفترض أن تصوغ القمة العربية المصغرة رؤية مشتركة للتعاطي مع المبادرة الفرنسية – الأوروبية، غير أن إيجاد مربع مشترك كان عملية عسيرة، خصوصاً في حضور متحفظين (الجزائر وسورية وليبيا) ومؤيدين (المغرب وتونس). ويمكن القول إن باريس استخدمت وسائل الإغراء التقليدية لدق اسفين بين العرب، فوعدت مصر بالمشاركة في رئاسة الاتحاد بعد قمة باريس (إلى جانب ساركوزي) ووعدت تونس باستضافة مقر الأمانة العامة للاتحاد والمغرب بتسمية أحد خبرائه على رأس الأمانة.
- غير أن تماسك الموقف الأوروبي لا يعني أن الخلافات لا تخترقه، وإنما يدل على قدرته على امتصاصها والوصول إلى صيغ عملية لحلها. وأبلغ مثال على ذلك تباعد الرؤى في شأن التعاطي مع إرث مسار برشلونة، خصوصاً بين برلين وباريس. فعلى خلاف الرؤية الفرنسية التي تسعى الى قلب مائدة برشلونة بوصفها تجربة فاشلة، يتمسك الأعضاء الآخرون في الاتحاد الأوروبي بذلك الإرث، و»يصرون على الاكتفاء بتطوير وسائل العمل وإدماج بعض الاقتراحات (الفرنسية) فيه، وليس أكثر». وتجلى ذلك في وثيقة داخلية وزعتها المفوضية الأوروبية على الدول الأعضاء استعداداً لبلورة مسودة المشروع النهائي لـ «الاتحاد من أجل المتوسط» التي ستُعرض على بلدان الضفتين الجنوبية والشرقية في القمة التي تستضيفها باريس يوم 13 يوليو (تموز) المقبل.
وشددت الوثيقة على أن الغاية من «الاتحاد» هي تعزيز أهداف مسار برشلونة والحفاظ على الاجتماعات الدورية لكبار الموظفين واجتماعات لجنة «اليوروميد»، مع التفكير في تشكيل فريق من مندوبي البلدان الأورومتوسطية العاملين في بروكسيل، يمكن توسيعه ليشمل المنضمين الجدد للمبادرة.
ومعلوم أن المجلس الأوروبي أقر في اجتماعه يومي 13 و14 آذار (مارس) الماضي في بروكسيل مبدأ إقامة اتحاد من أجل المتوسط، غير أنه طلب من المفوضية أن تقدم «مقترحات ملموسة لتحديد الصيغ العملية لما سيُطلق عليه اسم «مسار برشلونة: الاتحاد من أجل المتوسط». وطبقاً لما جاء في الوثيقة الداخلية سيتم التصديق على الصيغة المقترحة في قمة باريس بعدما أتيحت فرص لمناقشتها مع البلدان المتوسطية المعنية. ومن تلك الفرص الاجتماع الذي ضم الموظفين السامين في «اليوروميد» يوم 8 نيسان (أبريل) الماضي، ثم اللقاء الذي جمع رئيس المفوضية الأوروبية مانويل باروزو مع سفراء البلدان المتوسطية الشريكة للاتحاد يوم 14 من الشهر نفسه، واجتماع ثان للموظفين السامين عقدوه في بروكسيل يوم 15 أيار (مايو) الجاري، وثالث في سلوفينيا الثلثاء الماضي، إضافة الى إرسال موفدين من الاتحاد إلى البلدان المتوسطية لاستمزاج آرائها في شأن الاقتراحات المعروضة.
وبحسب الوثيقة ينبغي أن يشمل «الاتحاد من أجل المتوسط» جميع البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (27 بلداً) والأعضاء والمراقبين في مسار برشلونة الأورومتوسطي الذي انطلق عام 1995، وهم (كما جاء في الوثيقة) موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر والأردن والسلطة الفلسطينية وإسرائيل ولبنان وسورية وتركيا وألبانيا، إضافة الى البلدان الأخرى المطلة على المتوسط وهي، طبقاً للوثيقة أيضاً، كرواتيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود وموناكو. وسيُكمل الاتحاد الجديد الأطر الثنائية القائمة مع تلك البلدان بما فيها مفاوضات الانضمام (تركيا) أو سياسة الجوار الأوروبية (المغرب وتونس ...).
ويعتقد الاتحاد الأوروبي أن الإطار الجديد سيُعطي دفعة قوية للعلاقات بثلاثة أشكال، أولها تحسين مستوى الحوار السياسي بين الاتحاد وشركائه المتوسطيين، وثانيها «إعادة توزيع المسؤولية عن علاقاتنا الجماعية في شكل متوازن»، وثالثها إطلاق برامج ومشاريع إقليمية مفيدة للمواطن على نحو يجعل العلاقات بين الشمال والجنوب واضحة أكثر بالنسبة إليه. وفي الباب الأول تؤكد الوثيقة أن أعضاء الاتحاد الأوروبي أجمعوا على إقرار قمة لرؤساء الدول والحكومات تُعقد مرة كل سنتين، على أن تُقر القمة الأولى في باريس إنشاء «الاتحاد من أجل المتوسط» رسمياً في بيان اختتامي «إضافة، ربما الى قائمة مختصرة بالمشاريع المزمع إقامتها» كما قالت الوثيقة. ويتم اعتماد هاتين الوثيقتين بالتوافق. وتسير القمم اللاحقة طبقاً للسيناريو نفسه (إعلان سياسي وقائمة بالمشاريع الملموسة) فيما يعقد وزراء خارجية اجتماعات بين قمتين لتقويم النتائج والإعداد للقمة اللاحقة. وفي هذا السياق تم الاتفاق بالنسبة الى الباب الثاني (توزيع المسؤوليات بالتوازن) على تقاسم الرئاسة الدورية بين بلد شمالي وآخر جنوبي. لكن الوثيقة تشير إلى أن الاتحاد الأوروبي وحده توصل إلى صيغة لحل الاختلافات التي قد تنشأ بسبب تداول الرئاسة. وتتمثل الصيغة في ربطها بالرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي طبقاً للآليات المؤسسة للاتحاد. وهكذا تتسلم فرنسا رئاسة الجانب الأوروبي في القمة الأولى وتُسلمها بدورها لمن يتولى الرئاسة في القمة المقبلة.
وطُرحت هنا مسألة شائكة تتعلق بمن يتولى التمثيل الخارجي للاتحاد الأوروبي لتفادي الاحتكاكات المحتملة بين السياسة الجماعية والسياسة الوطنية لكل بلد على حدة. وأكدت الوثيقة أنه تم التوصل إلى آلية منسجمة مع معاهدة لشبونة (التي قامت مقام الدستور الأوروبي) يكون التمثيل الخارجي بموجبها من مشمولات رئيس المجلس الأوروبي (الرئيس الدوري) ورئيس المفوضية في مستوى رؤساء الدول والحكومات، ومن مشمولات الممثل الأعلى/ نائب رئيس المفوضية في مستوى وزراء الخارجية. وهذا يعني أن سيناريو تسمية وزير خارجية للاتحاد الأوروبي ليس محل اتفاق الآن وهو، في كل الأحوال، مازال بعيداً بالنسبة الى موعد القمة المقبلة في باريس.
وبالنسبة الى بلدان الضفة الجنوبية فالأمر أصعب لأن التباعد كبير بين تلك الدول. لكن الأوروبيين اتفقوا على أمرين جوهريين أولهما ضرورة اختيار بلد جنوبي يكون مشاركاً في الرئاسة مدة سنتين ويحظى بدعم بلدان الضفة الجنوبية. وعليه أن يستضيف القمة الموالية على نحو يجعل القمم مداورة بين الضفتين. غير أن الوثيقة الأوروبية اشترطت على من يتولى الرئاسة من الجنوب (أي مصر) أن يتعهد بدعوة جميع الدول المشاركة في المسار إلى اجتماعات القمة والاجتماعات الوزارية. وهذا تحذير غير مُبطن مُوجه إلى الدول العربية التي قد تتردد في دعوة إسرائيل إلى الاجتماعات خوفاً من ردود الأفعال في الداخل.
ولعل أهم ما في الوثيقة أنها كانت واضحة، بل قاطعة، في مسألة تمويل المشاريع الإقليمية إذ أنها رفضت رصد اعتمادات لتلك المشاريع مُسبقاً، وشددت على ضرورة جمع التمويل من مصادر إضافية والاتجاه إلى القطاع الخاص لحضه على المساهمة في التمويل، وهو مؤشر جلي إلى امتناع أوروبا عن تمويل المسار الجديد، اتعاظاً من تجارب مسار برشلونة التي اعتبرتها الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي سلبية. ومع ذلك ذكرت بأن الاتحاد الأوروبي رصد 50 مليون يورو للبلدان المتوسطية الشريكة خلال الفترة من 2007 إلى 2010. واختتمت الوثيقة في هذا المضمار بالتأكيد على أن المانح الأكبر سيتولى التصرف في الأموال في حال مشاركة الاتحاد الأوروبي مانحين آخرين في الإنفاق على المشاريع الإقليمية المتوسطية.
ويبدو أن الخلاف على من يستضيف الأمانة الدائمة، خصوصاً بين تونس والمغرب، استقطب وقتاً من الاجتماع الذي خصصه وزراء الخارجية العرب للمشروع المتوسطي في القاهرة الشهر الماضي. ولم يخرج الاجتماع برؤية موحدة على خلاف الأوروبيين الذين تجاوزوا التباعد بين بون وباريس بوثيقة جامعة. وتحاشى الوزراء العرب بت مسألة عضوية الدولة العبرية في الاتحاد الجديد. والأرجح أن المشاورات العربية في شأن هذه المسائل ستتكثف في الفترة المقبلة، لكن من الصعب أن ترسو سفينة العرب التي تتقاذفها أمواج «المتوسط» على مرساة آمنة قبل قمة باريس.
رشيد خشانة
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد