الفينومينولوجيا الخالصة
المحاضرة الافتتاحية في فرايبورج ١٩١٧م
- إدموند هسرل - ىترجمة: عادل مصطفى
سيداتي، سادتي، زملائي الأجلاء، أصدقائي الأعزاء
(١) إن الحقبة التي قُدِّرَ لنا أن نعيش فيها، لَتَعُجُّ بالأحداث المذهلة في شتى مجالات الحياة الروحية للجنس البشري، فما من شيء أنشأته جهود الأجيال السابقة في كل حقل من حقول الثقافة، وتعهدته إلى أن صار نسقًا كليًّا مؤتلفًا، وما من أسلوب راسخ تأسس واستتب بوصفه منهجًا أو معيارًا، إلا اعتراه التغير في هذه الآونة وطفق يبحث عن أشكال جديدة يتسنى بها للعقل، الذي لم يهدأ له جنب، أن ينمو بحرية أكبر: في الحياة السياسية والاقتصادية، في التقنية، في الفنون الجميلة، وليس بأقلها على الإطلاق في العلوم، وحتى العلوم الطبيعية الرياضية التي كانت قديمًا نموذجًا للكمال النظري، قد غيرت أسلوبها تغييرًا كليًّا خلال بضعة عقود من إعادة البناء.
(٢) ولا تشذ الفلسفة في شيء عن هذه الصورة، ففي مجال الفلسفة كانت الفلسفات التي استنفدت طاقاتها في الفترة التي أعقبت الإطاحة بالفلسفة الهيجلية هي فلسفات النهضة بالدرجة الأساس، لقد كانت هذه الفلسفات بمثابة إعادة إنتاج لفلسفات الماضي، وكانت مناهجها وشطر من محتواها الجوهري تعود إلى مفكري الماضي العظام.
(٣) لقد عادت الحاجة تلح إلى فلسفة جديدة تمامًا، فلسفة لا تعيد إنتاج النهضة، بل تعيد استجلاء المشكلة الفلسفية بشكل جذري مسلطةً الضوء من جديد على معانيها وأفكارها الرئيسية؛ لكي تنفذ بذلك إلى الأرضية الأولى التي يجب أن تُصاغ على أساسها المشكلات إن كان لها أن تعثر على حل علمي أصيل.
(٤) ها هو علم أساسي جديد ينشأ داخل مجال الفلسفة، إنه «الفينومينولوجيا الخالصة (البحتة)»، إنه علم ذو نمط جديد تمامًا ومجال عريض لا نهاية له، ولا يقل صرامةً منهجيةً عن أيٍّ من العلوم الحديثة. على هذه الفينومينولوجيا الخالصة تتأسس جميع أفرع الفلسفة، ومن خلال نموها تستمد هذه الأفرع قوتها، عن هذه الفينومينولوجيا الخالصة أريد أن أتحدث: عن منهجها وموضوعها الذي تعجز المذاهب الطبيعية عن رؤيته وإدراك كنهه.
(٥) تدعي الفينومينولوجيا الخالصة أنها هي العلم الخاص بالظواهر المحضة، وهذا التصور عن «الظاهرة»، والذي نشأ تحت أسماء عديدة منذ القرن الثامن عشر دون أن يُسلط عليه الضوء، هو ما ينبغي أن نعرض له قبل أي شيء آخر.
(٦) سنعرض أولًا للارتباط الضروري بين «الموضوع» Object و«الصدق» Truth، والمعرفة، مستخدمين هذه الكلمات بأوسع معانيها، فكل موضوع تناظره منظومة مغلقة من «الحقائق» التي تصدق عليه، وله من جهة أخرى منظومة مثالية من العمليات التي يمكن بفضلها أن يُقدم الموضوع والحقائق إلى أي ذات عارفة.إذا أنعمنا النظر في هذه العمليات فسنجد في المستوى المعرفي الأدنى أنها عمليات تجربة أو خبرة، أو بمعنى أعم، عمليات حدس (عيان/معاينة) تقوم بإدراك الشيء في نسخته الأصلية.
(٧) من الواضح أن شيئًا شبيهًا بذلك يحدث في كل أنواع الحدوس وفي جميع العمليات الأخرى التي تقصد موضوعًا ما حتى لو كانت مجرد إعادة تمثيل (مثل تذكر معاينات صورية، ومثل عمليات تأمل موضوع رمزي)، أي حتى لو كانت لا تدرك الشيء بوصفه حاضرًا أمامها بشخصه بل تعيه بوصفه متذكرًا أو مُعادًا تمثيله بالصورة أو بطريق الإشارات الرمزية وما إليها، أو حتى عندما يكون الحكم على واقعية الشيء المدرك أمرًا غير محدد لسبب أو لآخر.
ومن ثم فحتى الحدوس (العيانات) الخيالية هي معاينة موضوعات، ولها كل ما للظواهر الأخرى من خصائص مع إضافة خاصية تمييز «موضوعها» كشيء غير متحقق.
ولكي يمكن للمعرفة النظرية العليا أن تبدأ على الإطلاق فلا بد من أن تسبقها معاينة للموضوعات التي تنتمي لمجالها، فلا بد مثلًا من أن نخبر الموضوعات الطبيعية أولًا حتى يمكننا القيام بأي تنظير عنها، و«أن نخبر» معناه أن نعاين شيئًا ما في وعينا وأن نحكم بأنه واقعي حقيقي، أي الوعي بالموضوع الأصلي بوصفه حاضرًا بشخصه، وبتعبير آخر يمكننا القول بأن «الموضوعات» أو «الأشياء» قمينة بأن تكون لا شيء على الإطلاق بالنسبة للذات العارفة ما لم «تظهر» لهذه الذات، أي ما لم تحز هذه الذات على «ظاهرة» لهذه الأشياء، ومن هنا فإن كلمة «ظاهرة» Phenomenon في هذه الحالة تشير إلى محتوًى معين يقطن داخل الوعي الذي يعاينه ويكون أساسًا للحكم بواقعيته.
(٨) ولا يختلف الأمر عن ذلك إذا انتقلنا إلى عملية متابعة موضوع ما في سلسلة من العيانات التي تُشيِّد معًا وحدة مؤلفة من وعي واحد مستمر بموضوع واحد بعينه، إن الطريقة التي يُقدَّم بها الموضوع داخل كل حدس من حدوس هذا الوعي المستمر قد تختلف باستمرار؛ فتتغير العيانات مع كل لفتة وكل تحول ومع تغير زاوية النظر من اليمين إلى اليسار ومن الأعلى إلى الأسفل ويظل مظهر الشيء يتحدد مع كل نقلة من إدراك حسي إلى آخر بلا انقطاع، ورغم ذلك فإن وعينا، «وبسبب من مسلك هذه الإدراكات الحسية المتعاقبة وطريقة تتابع صورها ومسار تغيرها»، يظل معاينًا لنفس الموضوع كموضوع واحد بعينه لا ككثرةٍ متغيرة من الموضوعات، وبتعبير آخر يمكننا القول بأنه في باطن هذا الوعي وفي صميمه ثمة ظاهرةٌ واحدة مفردة تتخلل جميع التمثلات الظاهرية العديدة.
(٩) ويمتد هذا المفهوم أكثر فأكثر حين ننعم النظر في الوظائف المعرفية الأعلى: في الأنشطة والترابطات المتعددة للإدراك النظري التصوري التركيبي الإشاري، فكل عملية مفردة من أي من هذه الأصناف هي في صميمها عملية وعي بالموضوع الخاص بها، غير أن الموضوع هنا هو عملية تفكير من نوع معين، ومن ثم يُدرك هذا الموضوع كطرف في رابطة، كمتعلق في علاقة، إلخ، من جهة أخرى تتحد العمليات المعرفية المفردة في الوعي الواحد الذي يشكل داخله موضوعيةً تأليفيةً واحدة أو حالةً حمليةً واحدة مثلًا أو سياقًا نظريًّا واحدًا، إننا هنا بإزاء موضوع كالذي نعبر عنه في جمل من قبيل: «الموضوع متعلق بهذه الطريقة أو تلك …» «إنه كلٌّ مكون من هذه الأجزاء أو تلك»، «العلاقة ب تلزم عن العلاقة أ» … إلخ.
(١٠) هذا الوعي الخاص بمثل هذه التكوينات التأليفية يحدث خلال هذه الأفعال المتعددة والتي تتحد لتكون وحدات عليا من الوعي، ويحدث بواسطة ظواهر تتشكل داخليًّا (محايثة) وتعمل في الوقت نفسه كأساس لمختلف عمليات الحكم: مثل الصدق اليقيني، الاحتمال، الإمكان … إلخ.
(١١) يمتد مفهوم «الظاهرة» أكثر لينسحب على الأحوال المتغيرة (الوضوح والغموض، الجلاء والخفاء …) لكون المرء على وعي بشيء ما، والتي يمكن فيها أن تُقَدَّم للوعي علاقة أو صلة واحدة بعينها، أو تُعطَى له نفس الحالة أو نفس الترابط المنطقي، وهكذا.
(١٢) وصفوة القول: أن المفهوم الأول والأكثر بداءة للظاهرة يشير إلى النطاق المحدود من تلك الوقائع المعطاة للحس، والذي من خلاله تظهر الطبيعة وتتبدى في عملية الإدراك.
(١٣) ثم امتد المفهوم تلقائيًّا ليشمل كل صنف من الأشياء التي يقصدها الحس أو يموضعها، ثم امتد ليشمل أيضًا نطاق تلك الموضوعات التركيبية التي تُعطي للوعي خلال تراكيب إشارية وترابطية، وبذلك يكون المفهوم قد شمل جميع الأحوال التي تُقدَّم فيها الأشياء إلى الوعي، وقد رأينا في النهاية أنه يشمل كل مجال الوعي وكل الطرائق التي يتم بها الوعي بشيء ما وكل المكونات التي تندرج تحت هذه الطرائق، وما دمنا نقول إن مفهوم الظاهرة يشمل جميع الطرق التي يكون بها المرء على وعي بشيءٍ ما فإن ذلك يعني أنه يشمل أيضًا كل صنف من أصناف المشاعر والرغبة والإرادة وما ينطوي عليه من نزوع أو سلوك.
(١٤) وبميسورنا أن نفهم هذا التوسع في المفهوم إذا ما تذكرنا أن هناك فئات هائلة من الموضوعات — شاملة جميع الموضوعات الثقافية وجميع القيم والفضائل والأعمال — لا يمكننا أن نَخْبُرها ونفهمها وندركها موضوعيًّا بما هي كذلك ما لم نشرك الوعي العاطفي والإرادي، ليس هناك موضوع من فئة «الأعمال الفنية» مثلًا يمكن أن يُمَوْضَع لأي كائنٍ خِلْوٍ من الحساسية الاستطيقية (الجمالية)، أو كائنٍ متصفٍ بالعمى الاستطيقي إن صح التعبير.
(١٥) حصلنا من خلال هذا العرض لمفهوم «الظاهرة» على تصورٍ مبدئي لعلم ظاهريات عام، أي علم الظواهر الموضوعية بجميع أنواعها، أو علم بكل نوع من الموضوعات، على أن يُؤخذ مصطلح «موضوع» فقط بمعنى أيما شيء لديه تلك التحديدات التي يقدم بها نفسه للوعي، وهو يقدم نفسه خلال تلك الأحوال المتغيرة التي يتبدى فيها؛ ومن ثم تكون مهمة الفينومينولوجيا هي أن تبحث في كيف يتراءى شيءٌ مدرك أو متذكر أو متخيل بالشكل الذي يتراءى به، أو كيف يبدو بفضل ما يضفيه الحس أو تضفيه تلك الخصائص الباطنة للمدرك أو المتذكر أو المتخيل نفسه، ومن الواضح أن على الفينومينولوجيا أن تبحث بنفس الطريقة كيف يبدو ما يُجمع أو كيف يتراءى في عملية جمعه، وكيف يبدو ما يُفرق إذ يفرق، وكيف يبدو ما يُنتج إذ ينتج، وبالمثل في كل فعل من أفعال التفكير كيف يحوز هذا الفكر «ظاهريًّا» على ما يفكر فيه، كيف يبدو العمل الفني في عملية التذوق الفني على ما يبدو عليه، كيف يبدو الشيء المشكَّل، في عملية التشكيل، على ما يبدو عليه، إلخ، ما تريده الفينومينولوجيا في جميع هذه البحوث هو أن تبرهن على كل ما تراه متضمنًا في النظرية بافتراض الصواب الكلي للنظرية، غير أنها إذ تفعل ذلك سيكون عليها أن تشير في بحوثها إلى الطبيعة الداخلية للإدراك نفسه، للتذكر (أو أي طريقة أخرى للتمثيل) نفسه، للتفكير والتقييم والإرادة والفعل، مع أخذ هذه الأفعال كما تتبدى في التأمل الحدسي الباطني، وبتعبير ديكارتي يمكننا القول بأن البحث سيكون مُنصبًّا على «الكوجيتو» Cogito (الأنا أفكر) بحد ذاته بالإضافة إلى «المُفَكَّر به بوصفه مُفَكَّرًا به» Cogitatum Qua Ccogitatum، وكما أن الاثنين مرتبطان ارتباطًا لا انفصام له في الوجود، فمن المتعقل أن يكونا مرتبطين في البحث أيضًا.
(١٦) إذا كانت هذه هي الموضوعات الرئيسية للفينومينولوجيا، فمن الممكن أيضًا أن نطلق عليها «علم الوعي» Science of Consciousness، على أن نأخذ الوعي هنا بمعناه الخالص، الوعي «بما هو كذلك».
(١٧) ولكي نحدد هذا العلم بشكل أكثر دقة، فسوف نُدخل تمييزًا بسيطًا بين «الظواهر» Phenomena والموضوعات Objects بالمعنى العريض للكلمة، فبلغة المنطق الشائعة يُعد أي «موضوع» Subject، بغض النظر عن صدق محمولاته، هو «موضوع» Object، بهذا المعنى إذن تُعد كل ظاهرة هي أيضًا موضوع، بهذا المفهوم الأعرض للموضوع وبهذا المفهوم للموضوع الفردي على وجه الخصوص، تقف الموضوعات من جهة والظواهر من جهة أخرى على طرفي نقيض، إن الموضوعات، جميع الموضوعات الطبيعية مثلًا، هي موضوعات غريبة عن الوعي، فالوعي يموضعها حقًّا ويضعها كحقائق واقعة، إلا أن من عجائب الوعي الذي يخبرها ويعيها أنه يضفي على ظواهره الخاصة حسًّا بأنها مظاهر لموضوعات غريبة عنه ويعرف هذه الموضوعات الخارجية خلال عمليات تلم بهذا الحس وتطلع عليه، هذه الموضوعات التي ليست عمليات واعية ولا مكونات محايثة لعمليات واعية سنسميها لذلك «موضوعات» Objects بالمعنى العريض للكلمة.
(١٨) يفضي بنا هذا إلى علمين منفصلين بينهما تفاوت كأشد ما يكون التفاوت: الفينومينولوجيا من جهة، أي علم كما هو في ذاته، والعلوم «الموضوعية» بعامة من جهة أخرى.
(١٩) إن الموضوعات الخاصة بهذين العلمين المتقابلين (وهي موضوعات بينها ارتباط واضح) يناظرها نوعان مختلفان جوهريًّا من الخبرة ومن الحدس بصفة عامة: الخبرة المحايثة (المباطنة) Immanent والخبرة الموضوعية (وتُسمى أيضًا الخبرة الخارجية أو الخبرة «المفارقة») Transcendent، تتألف الخبرة المحايثة من مجرد الرؤية التي تحدث في التأمل والتي يتم بها فهم الوعي وذلك الذي يعيه الوعي، مثال ذلك أن حبًّا أو رغبة ما أقوم بها الآن تدخل إلى خبرتي عن طريق مجرد نظرة استعادة، وبواسطة هذه النظرة تُقدم لي هذه الرغبة بشكل مطلق، وبمقدرونا أن ندرك ما يعنيه تعبير «بشكل مطلق» من خلال المقارنة: فليس بمقدورنا أن نخبر أي شيء خارجي إلا بقدر ما يقدم نفسه له حسيًّا من خلال هذه الإشارة أو تلك، أما الحب فليس له تمثيلات متغيرة وليس له منظورات أو إطلالات متبدلة؛ فأنظر إليه مثلًا من فوق أو من تحت أو من قريب أو من بعيد، إنه ليس شيئًا غريبًا بأية حال عن الوعي بحيث يقدم نفسه إلى الوعي خلال وساطة ظواهر مختلفة عن الحب نفسه، ﻓ«أن أحب» هو في الصميم «أن أعي».
(٢٠) يشتبك هذا مع حقيقة أن ما هو مُعطى للتأمل المحايث هو شيء لا شك في وجوده ولا يمكن أن يرقى إليه الشك، في حين أن ما نخبره من خلال التجربة الخارجية فإنه يقبل دائمًا احتمال أن يتكشف، في سياق الخبرات التالية، أنه موضوع مُتَوَهَّم.
(٢١) على أن الخبرتين المحايثة والمفارقة هما رغم ذلك مرتبطان بشكلٍ وثيق: فبوسعنا الانتقال من الواحدة إلى الأخرى بمجرد نقلة في الموقف أو تغيير في الاتجاه.
(٢٢) أما في الموقف الطبيعي Natural Attitude فنحن نَخْبُر (بين أشياء أخرى) عمليات في الطبيعة، نحن نلتفت إليها، نلاحظها، نصفها، نُدرجها تحت مفاهيم أو تصورات، وفيما نحن نقوم بذلك تحدث في وعينا الاختباري والنظري عملياتٌ شعوريةٌ متعددة الشكل ذات مكوناتٍ محايثةٍ متغيرةٍ على الدوام، فالأشياء التي ندركها تقدم نفسها عبر جوانب في تجدد مستمر، أشكالها مظللة بطرق محددة حسب المنظور، ويجري تأويل معطيات الحواس المختلفة بطرق محددة، كألوان مثلًا للأشكال المدركة أو كحرارة منبعثة منها، وتُعزى الكيفيات الحسية التي يتم تأويلها إلى أحوال واقعية، إلخ، تقدم كلٌّ من هذه الحواس معطياتها الإدراكية ويتم كل ذلك في الوعي بفضل سلسلة محددة من العمليات الواعية المتجددة، غير أن الشخص في الموقف الطبيعي لا يدري بشيء من ذلك، فهو ينفذ أفعال الخبرة والإسناد والتجميع ولكنه فيما يقوم بذلك لا ينظر (إلى الداخل) تجاه هذه الأفعال بل ينظر (إلى الخارج) تجاه الموضوعات التي يشملها بوعيه.
(٢٣) بمقدور المرء من جهة أخرى أن يحول بؤرة انتباهه الطبيعية إلى بؤرةٍ تأملية (انعكاسية) فينومينولوجية، فيجعل وعيه الحالي المتدفق، وبالتالي يجعل الظواهر المتعددة الأشكال بلا نهاية، مَحَطَّ ملاحظاته وأوصافه واستقصاءاته النظرية، تلك الاستقصاءات التي نسميها باختصار «فينومينولوجية».
(٢٤) إلا أنه عند هذه النقطة تبرز أسئلة يمكن في الموقف الراهن أن نسميها الأسئلة الأشد حسمًا: أليس هذا الذي وصفناه لتونا بأنه تأمل محايث، هو هو الخبرة السيكولوجية الداخلية؟ ألا يكون علم النفس هو المكان الصحيح لدراسة الوعي بجميع ظواهره؟ ومهما يكن من تعاميه عن جميع المشكلات الجذرية المتعلقة بالأوضاع التي تجري في الوعي المحايث، أليس من الواضح أن مثل هذه البحوث ينبغي أن تنتمي إلى علم النفس بل أن تكون أساسية فيه؟
ذلك العلم الجديد الشديد الخصوبة، سوف يتغلب على كل عنادٍ وكل بلادة، وسوف ينمو نموًّا هائلًا، كما فعل حساب اللامتناهي الذي كان غريبًا على أهل عصره، وكما فعل علم الفيزياء الدقيق، في مواجهة الفلسفة الطبيعية الرائعة الغموض لعصر النهضة، منذ ظهور جاليليو.
(٢٥) ولكي نبدأ فإننا نطرح هذه القضية: الفينومينولوجيا الخالصة هي علم الوعي الخالص (الشعور المحض)، وهذا يعني أن الفينومينولوجيا الخالصة تعتمد على التأمل الخالص وحده، والتأمل الخالص يستبعد، بوصفه تأملًا خالصًا، كل نوع من الخبرة الخارجية، ومن ثم فهو يحظر إدخال أي موضوعات غريبة على الوعي، أما علم النفس فهو علم «الطبيعة» النفسية، وهو من ثم علم الوعي بوصفه «طبيعة» أو بوصفه حدثًا واقعيًّا يجري في العالم المكاني الزماني، ينصب علم النفس على عملية الخبرة النفسية، وهي عملية إدراك ذاتي تصل التأمل المحايث (المباطن/الجواني/الداخلي) بالخبرة الخارجية، البرانية، كما أنه في الخبرة السيكولوجية يكون الحدث النفسي معطى بوصفه حدثًا داخل لُحمة الطبيعة، يتميز علم النفس بأنه، بوصفه علمًا طبيعيًّا بالحياة النفسية، يعتبر عمليات الوعي عمليات واعيةً لكائنٍ حي، أي أنه ينظر إليها كملحقاتٍ سببيةٍ حقيقية لأجسامٍ حية، وعلى عالم السيكولوجيا أن يلجأ إلى التأمل لكي يضع يده على العمليات الواعية المعطاة خبرويًّا، غير أن هذا التأمل لا يظل ملتزمًا بالتأمل الخالص؛ لأنه ما دام منتميًا فعليًّا للجسم الحي المعني فهو موصول بتجربة الأشياء الخارجية، ومن ثم فإن الوعي بالخبرة السيكولوجية لا يعود وعيًا خالصًا، فحين نؤوله موضوعيًّا بهذه الطريقة يصبح الوعي نفسه شيئًا مفارقًا (برانيًّا)، يصبح حدثًا في العالم المكاني الذي يبدو، بفضل الوعي، شيئًا مفارقًا.
(٢٦) الحقيقة الجوهرية هي أن هناك صنفًا من الحدس (العيان) هو — بعكس الخبرة السيكولوجية — يبقى داخل التأمل الخالص: فالتأمل الخالص يستبعد كل ما هو معطى في الموقف الطبيعي، ويستبعد من ثم كل ما هو «طبيعة».
(٢٧) نتجه إذن إلى الوعي كما هو في صميمه وبمكوناته الداخلية الخاصة، ولا نُدخل في بحثنا أي شيء يتجاوز الوعي.
(٢٨) لن نُدخل في بحثنا إلا ما هو معطى للتأمل الخالص، بكل دقائقه الجوهرية المحايثة تمامًا كما هي معطاة للتأمل الخالص.
(٢٩) منذ زمن بعيد اقترب ديكارت من اكتشاف المجال الفينومينولوجي المحض، وذلك في تأمله الشهير والأساسي (والذي لم يؤتِ ثمارًا تُذكر رغم ذلك) الذي أفضى إلى عبارته المأثورة «أنا أفكر، أنا موجود.» وبمقدورنا أن نتوصل إلى ما يُسمى «الرد الفينومينولوجي» Phenomenological reduction بتحوير منهج ديكارت، وذلك باقتفائه بدقةٍ واستبصارٍ بنتائجه، مع إغفال كل ما كان يهدف إليه ديكارت من هذا المنهج.
الرد الفينومينولوجي هو المنهج الكفيل بتنقية المجال الفينومينولوجي للوعي تنقيةً تامة من كل تطفلٍ من جانب الوقائع الموضوعية وإبقائه خالصًا منها، تأمل ما يلي: الطبيعة (العالم الموضوعي المكاني الزماني) مُعطاة لنا بصفة دائمة، فهي في الموقف الطبيعي تشكل مجال بحثنا في العلوم الطبيعية ومجال أغراضنا العلمية، ومع ذلك فليس هناك ما يمنعنا من أن نوقف — إن صح التعبير — أي اعتقاد في واقعيتها، رغم أن هذا الاعتقاد دائم الحدوث طوال الوقت في عملياتنا الذهنية. فليس هناك اعتقادٌ على أية حال ولا اقتناعٌ، مهما بلغ من وضوح، يستبعد بطبيعته إمكانية تحييدها بشكلٍ ما أو تجريدها من سطوتها، يمكننا أن ندرك ذلك حين نتأمل أي حالة نقوم فيها بتمحيص رأي من آرائنا، لنرد على الاعتراضات الموجهة إليه مثلًا أو لنعيد البرهنة عليه على أساس جديد، في هذه الحالة قد نكون في الحقيقة على يقين تام من هذا الاعتقاد ولا تساورنا فيه أي شكوك، غير أننا طوال مسار البحث نقوم بتغيير مسلكنا تجاه هذا الاعتقاد، وبدون أدنى تخلٍّ عن هذا الاعتقاد فنحن نتوقف عن الأخذ به وننكر على أنفسنا قبول ما ينص ببساطة على أنه حقيقة، وفيما البحث ماضٍ في سبيله فإن هذه الحقيقة تظل موضع بحث، موضع نظر، تظل معلقة.
(٣٠) في حالتنا هذه، حالة التأمل الفينومينولوجي الخالص، ليست غايتنا هي بحث أو اختبار اعتقادنا في وقائع غريبة عن الوعي، غير أن بإمكاننا القيام بتحييد ذلك الوعي بالواقع الذي يجعلنا نرى الطبيعة موجودة ومعطاة لنا، وبإمكاننا أن نفعل ذلك وفق مشيئتنا تمامًا، إن غايتنا الوحيدة هي بلوغ ميدان الوعي الخالص وإبقائه خالصًا، وفي سبيل هذه الغاية فنحن نتعهد بعدم قبول اعتقادات تتعلق بالخبرة الموضوعية، ونتعهد أيضًا بالامتناع عن استخدام أي استنتاج مستمد من الخبرة الموضوعية.
(٣١) سنتوقف — إذن — عن الحكم على وجود الطبيعة المادية، ووجود كل ما هو جسم، بما فيه وجود جسمي، أي جسم الذات المدركة.
(٣٢) يترتب على ذلك أننا سنتوقف — أيضًا — عن الحكم على كل خبرة سيكولوجية، فما دمنا قد امتنعنا تمامًا عن اعتبار الطبيعة والأشياء الجسمية كحقائق معطاة، فإن افتراض أي عملية شعورية من أي نوع كشيء له صلة جسمية أو كحدث يحدث في الطبيعة هو افتراض يزول من تلقاء نفسه.
(٣٣) «ماذا يتبقى لنا؟»
ما الذي يبقى بعد أن يتم هذا الاستبعاد المنهجي لكل الوقائع الموضوعية؟ الجواب واضح، فبعد أن أقصينا كل واقعٍ اختباري وحيدناه وضربنا عنه صفحًا، فما يزال لدينا، وبدون أدنى شك، كل ظواهر الخبرة، ويصدق هذا أيضًا على العالم الموضوعي برمته، لقد امتنعنا عن الحكم على وجود العالم الموضوعي، كما لو أننا قد «وضعناه بين قوسين»، فالذي يبقى لنا هو جميع ظواهر العالم، تلك الظواهر التي تُدرَك بالتأمل كما هي في ذاتها على نحو مطلق، ذلك أن كل مكونات الوعي هذه تظل في صميمها كما هي، وإنما من مكونات الوعي هذه يتم تشييد العالم.
(٣٤) حين يكون اهتمامنا مُنصبًّا على المحتوى الظاهري للأشياء، فلن يضيرها البتة أن نعلق الحكم على وجودها الموضوعي، ولن ينال التأمل أي تأثيرٍ حين ينصب على رؤية الظواهر كما تُوجد وكما تتمثل في الوعي، بل عندها فقط في حقيقة الأمر يصبح التأمل نقيًّا وخالصًا، وحتى الاعتقاد نفسه في الأشياء الموضوعية، وهو ما يميز الخبرة الساذجة والفكر الإمبيريقية، لن يضيع علينا، بل سيقى لنا كما هو في صميمه ووفقًا للمعنى الكامن فيه، سنحلل خواصه المحايثة (المباطنة)، ونتعقب ترابطاته الممكنة، وبخاصة ما يتعلق بالأسس، وندرس بالتأمل المحض مراحل تكوُّن الاستبصار، ما يبقى من المعنى المقصود خلال هذه المراحل، وما يضفيه اكتمال الحدس على هذا المعنى، وما تضفيه ما تُسمى البنية من تغيير وإثراء، وأيما تَقَدُّم يُحرَز بواسطة ما يُسمى في هذا المقام «بلوغ الحقيقة الموضوعية من خلال الاستبصار».
باتباع هذه الطريقة من الرد الفينومينولوجي (التوقف عن الاعتقاد في الأشياء الخارجية)، يمكن لأي نوع من الوعي النظري أو القيمي أو العملي أن يصبح موضوعًا للبحث، ويمكن لجميع الحقائق الموضوعية التي ينطوي عليها أن تُستكشف، وسوف ينظر البحث إلى هذه الحقائق الموضوعية باعتبارها، ببساطة، متلازمات Correlates للوعي، وسوف يكون التساؤل مقصورًا على الظواهر (ما هي؟ وكيف هي؟) التي يمكن استخلاصها من العمليات الشعورية والترابطات المعنية، بهذه الطريقة يصبح كل شيء موضوعًا للبحث الفينومينولوجي: الأشياء في الطبيعة، الأشخاص، الجماعات، الأشكال الاجتماعية، التكوينات الاجتماعية، التكوينات الشعرية والتشكيلية، وكل صنف من الأعمال الثقافية، ستخضع جميعًا للبحث الفينومينولوجي، لا بوصفها حقائق موضوعية كما تُعامل في العلوم الموضوعية المقابلة، بل بالنظر إلى الوعي الذي يشيِّد (من خلال توسُّط عددٍ مذهلٍ من بنيات الوعي) هذه الحقائق الموضوعية للذات الواعية.
الوعي وما يعيه.
ها هو ما يتبقى — إذن — كمجالٍ للتأمل الخالص فور قيامنا بعملية الرد الفينومينولوجي: التنوع اللانهائي لطرائق الوعي من جهة، وما لا نهاية له من المتلازمات القصدية من جهة أخرى، إن ما يعصمنا من تجاوز هذا المجال هو الدليل الإرشادي الذي، بفضل منهج الرد الفينومينولوجي، يحصله كل اعتقاد موضوعي بمجرد بزوغه في الوعي، يهيب بنا هذا الدليل: ألا نشارك في هذا الاعتقاد، وألا ننزلق إلى الموقف العلمي الموضوعي، وأن نتمسك بالظاهرة الخالصة، ومن الجلي أن الدليل شامل من حيث المجال الذي نتوقف فيه عن قبول العلوم الموضوعية نفسها وعلم النفس واحدٌ منها، وأن الدليل يستبدل بجميع العلوم ظواهر العلم، وهي في هذا الوضع الجديد تُعد من بين الموضوعات الكبرى للفينومينولوجيا.
(٣٥) ورغم ذلك، فما أن ندعي صدق أن قضية عن الأشياء الموضوعية، أي قضية على الإطلاق بما فيها الوقائع التي لا تقبل الشك، حتى نكون قد غادرنا أرض الفينومينولوجيا الخالصة؛ لأننا عندئذٍ نكون قد وقفنا على أرضٍ موضوعيةٍ ما ونمارس السيكولوجيا أو أي علم موضوعي آخر بدلًا من الفينومينولوجيا.
(٣٦) والحق أن التوقف التام عن الحكم على الطبيعة يتعارض مع أرسخ عاداتنا الخبروية والفكرية وأعمقها جذورًا، إلا أن هذا السبب هو بالتحديد ما يدعونا إلى توخي اليقظة الكاملة والوعي الذاتي التام أثناء القيام بالرد الفينومينولوجي، إذا كان لنا أن نستكشف الوعي بطريقة منهجية في دخيلته المحضة.
(٣٧) ولكن تظل تحفظاتٌ أخرى تراود الذهن؛ فهل الفينومينولوجيا الخالصة ممكنة حقًّا كعلم؟ وإن صح ذلك فكيف؟ فما إن يصبح تعليق الحكم نافذ المفعول حتى نكون بإزاء الوعي المحض، غير أن ما نجده في الوعي المحض هو تيارٌ مضطربٌ من الظواهر العابرة التي لا تتكرر أبدًا مهما بلغت درجة اليقين الذي تُقدَّم به في الشعور المحض، إن الخبرة بحد ذاتها ليست علمًا، وما دامت الذات المتأملة والعارفة لا تملك بحق غير تيار الظواهر الخاص بها، وما دامت كل ذات عارفة أخرى — جسمها وبالتالي وعيها أيضًا — تقع تحت طائلة الاستبعاد، فكيف يمكن قيام أي علم تجريبي بعد ذلك؟ فالعلم لا يمكن أن يكون «أناوحديًّا» Solipsistic، بل يجب أن يكون صوابًا بالنسبة لكل ذاتٍ مجرِّبة.
(٣٨) إننا لنكون في موقف عصيب حقًّا لو أن العلم التجريبي كان هو الصنف الوحيد من العلم، هكذا تُفضي بنا إجابة السؤال الذي طرحناه إلى المشكلات الفلسفية الأشد عمقًا التي لم تجد حلًّا لها حتى الآن، ومهما يكن من أمر فإن الفينومينولوجيا الخالصة لم تنشأ لكي تكون علمًا إمبيريقيًّا، وإن ما تسميه خلوصًا فيها ليس هو خلوص التأمل فحسب، بل هو في الوقت نفسه ذلك الصنف من الخلوص الذي يختلف كل الاختلاف عما نصادف في أسماء العلوم الأخرى؛ إذ تُسمى علومًا خالصةً أو بحتة.
(٣٩) كثيرًا ما نتحدث، بطريقة عامة ومفهومة، عن الرياضيات الخالصة أو البحتة، والحساب البحت، والهندسة البحتة، وعلم الحركة البحت … إلخ، ونحن نضع هذه العلوم، بوصفها علومًا قبلية a priori (سابقة على التجربة)، في طرف مقابل للعلوم القائمة على التجربة والاستقراء كالعلوم الطبيعية، والعلوم الخالصة (البحتة) بهذا المعنى، أي العلوم القبلية، هي علوم خالصة من أي تقرير أو حكم Assertion عن الواقع التجريبي، فهي تزعم أنها معنية بالممكن عقليًّا وبقوانينه الخالصة وليس بالوقائع الكائنة والحقائق الموجودة، أما العلوم التجريبية فهي على العكس من ذلك علوم بالواقع الفعلي القائم والمعطى كما هو من خلال التجربة.
(٤٠) وكما يَصْدِف التحليل الخالص عن تناول الأشياء الواقعية ومقاديرها الفعلية لكي يبحث في القوانين الضرورية المتعلقة بماهية أي مقدارٍ ممكن، وكما تَصْدِف الهندسة البحتة عن الأشكال الملاحَظة في التجربة الفعلية لكي تبحث في الأشكال الممكنة وتحولاتها، والمشكلة بحريةٍ في الخيال الهندسي المحض، ولكي تؤسس قوانينها الضرورية؛ كذلك تسعى الفينومينولوجيا الخالصة إلى دراسة عالم الوعي الخالص وظواهره لا بوصفه واقعًا فعليًّا بل بوصفه ممكناتٍ محضةً ذات قوانين محضة، والحق أن المرء حين يألف التأمل الخالص لا يسعه إلا الأخذ بأن الممكنات أيضًا خاضعة لقوانين عقلية في عالم الوعي المحض، مثال ذلك أن الظواهر المحضة لموضوع مكاني ممكن والتي يقدم بها نفسه إلى الوعي لديها نسقها المحدد القبلي من التكوينات الضرورية، والذي يفرض نفسه على كل وعي مدرِك إذا كان له القدرة على حدس الواقع المكاني … من ذلك يتبين أن تعبير «قبلي» A Priori ليس قناعًا نغطي به شطحًا أيديولوجيًّا معينًا بل هو ذو دلالة لا تختلف عن دلالة «الخلوص» في التحليل الرياضي الخالص أو في الهندسة الخالصة.
(٤١) من الواضح أنني لا أستطيع هنا أن أقدم أكثر من هذا الأنالوجي المفيد: فبدون ممارسةٍ حقيقيةٍ وعملٍ مضنٍ لا يمكن لأحدٍ أن يحصل على فكرةٍ كاملة عينية عما تكونه الرياضيات البحتة أو عن غزارة الاستبصارات التي تقدمها الرياضيات البحتة، كذلك يلزم المرء نفس الصنف من العمل الذكي الذي لا يغني عنه أي توصيف عام إذا شاء أن يفهم علم الفينومينولوجيا على الحقيقة، أما عن أهمية العمل فهو ظاهرٌ للعين يدل عليه الموقع الفريد الذي تحتله الفينومينولوجيا بالنسبة للفلسفة من جهة وعلم النفس من جهة أخرى، إن الأهمية القصوى للفينومينولوجيا الخالصة في تأسيس السيكولوجيا على أرض صلبة هي شيء واضح منذ البداية، فإذا كان كل شعورٍ خاضعًا لقوانين ضرورية بنفس الطريقة التي يخضع بها الواقع المكاني لقوانين الرياضيات، فإن هذه القوانين الضرورية ستكون بالغة الأهمية في دراسة حقائق الحياة الشعورية للكائنات البشرية وللحيوانات العجماء.
(٤٢) أما عن أهمية الفينومينولوجيا الخالصة بالنسبة للفلسفة فيكفي أن نشير إلى أن جميع المشكلات النظرية الخالصة، تلك المشكلات التي يشملها ما يسمى «نقد العقل»، العقل النظري والعقل العملي وملكة الحكم، هي مشكلات متعلقة تمامًا بالترابط الضروري القائم بين الموضوعات النظرية والعملية والقيمية من جهة والوعي الذي تحايثه وتتأسس في باطنه من جهة أخرى، وبميسورنا أن نبرهن على أن المشكلات النظرية الخالصة لا يمكن أن تُصاغ بصرامةٍ علمية ثم تُحل في ترابطها المنهجي إلا على صعيد الوعي الخالص فينومينولوجيًّا وداخل إطار فينومينولوجيا خالصة.
فإن كان لنقد العقل ولجميع المشكلات الخاصة به أن توضع على طريق العلم الدقيق، فإنما يكون ذلك بنوعٍ من البحث يعتمد حدسيًّا على ما هو معطى فينومينولوجيًّا، وليس على تفكيرٍ من النوع الذي يؤلف مفاهيم قيمية، وهي لعبة يلعبها ببناءاتٍ مُنْبَتَّة تمامًا عن الحدس.
(٤٣) إن الفلاسفة، كما يبدو الأمر في هذه الأيام، مولعون غاية الولع بتقديم النقد من فوق بدلًا من دراسة الأشياء وفهمها من الداخل، وكثيرًا ما يقفون من الفينومينولوجيا نفس الموقف الذي وقفه باركلي Berkeley (الذي لا ننكر عبقريته كفيلسوفٍ وعالم نفس) منذ قرنين من الزمان تجاه «حساب اللامتناهي» Infinite Calculus الذي كان علمًا ناشئًا آنذاك، لقد ظن باركلي أنه استطاع أن يثبت، بنقده المنطقي الحاد والسطحي رغم ذلك، أن هذا النوع من التحليل الرياضي هو شطحٌ لا أساس له على الإطلاق، ولعبٌ فارغ بتجريداتٍ جوفاء، وليس هناك أدنى شك في أن علم الفينومينولوجيا
إضافة تعليق جديد