الصين تتضخّم عسكريّاً: قدرات لخدمة التنمية يخشاها الغرب
«نلاحظ بهدوء؛ نؤمن بموقفنا؛ نتعامل مع الشؤون بحذر؛ نخفي قدراتنا، نستغل وقتنا؛ نكون جيدين في البقاء بعيداً عن الأضواء، ولا نطالب بالقيادة أبداً».
مبادئ حددها الزعيم السابق دنغ شياو بينغ لسياسة الصين الخارجية والأمنية، عاكسة الاعتقاد الصيني بأن أي سياسة خارجية أو داخلية، عسكرية أو دبلوماسية، محورها الأساس يجب أن يكون تأمين المصلحة الوطنية لتعزيز التنمية المحلية.
وهذه المبادئ تطبّقها الصين اليوم جنباً إلى جنب مع الإيديولوجية الخاصة التي صاغها الرئيس الحالي هو جينتاو، والقائمة على «عالم متناغم يرسي التنوّع والمساواة» في العلاقات الدولية.
ومن هذا المنطلق، عملت الصين بسرية تامة على تطوير قدراتها العسكرية، محوّلة خطابات زعمائها وأفكارهم إلى أفعال لتتناسب مع قوتها الاقتصادية الآخذة بالتعاظم، ولا سيما أن الصين تعتقد أن القرن الحادي والعشرين، وتحديداً العقدين الأوّلين منه، يمثّلان «20 عاماً من الفرص، بمعنى أن الظروف الإقليمية والدولية عموماً ستكون سلمية، وتفضي إلى صعود الصين وتصدّرها إقليمياً وعالمياً».
وعلى مدى السنوات الماضية، واصل الجيش الصيني تحوله الشامل من جيش كبير مصمّم لحروب الاستنزاف الطويلة على أراضيه، إلى جيش «معلوماتي» قادر على الفوز في قتال قصير الأجل ضد خصوم يتمتعون بتكنولوجيات عالية.
ومن الملاحظ أن نطاق تحول الصين العسكرية ووتيرته قد ازدادا في السنوات الأخيرة بفضل اقتناء الأسلحة المتطورة، سواء المحلية أو الأجنبية، ومواصلة اتّباع معدلات مرتفعة للاستثمار في دفاعها الداخلي وصناعات العلوم والتكنولوجيا، إضافة إلى الإصلاحات التنظيمية والعقائدية البعيدة المدى للقوات المسلحة، فضلاً عن إدخال تقنيات عسكرية متطورة، بما في ذلك القدرات النووية وتكنولوجيا الفضاء.
وكجزء من جهودها الطويلة الأجل والشاملة للتحديث العسكري، تابعت الصين الاستثمار في الصواريخ النووية العابرة للقارات وتقنيات تدمير الأقمار الصناعية. وطوّرت أعداداً كبيرة من الصواريخ البالستية القصيرة المدى التي قدّر عددها بحدود ألف ومئة وخمسين صاروخاً عام 2008، مع سعيها إلى امتلاك مئة صاروخ جديد كل عام.
هذا إضافة إلى صواريخ كروز متوسطة المدى من طراز «دى اتش ـــــ10» و«يي جي63»، إضافة إلى غواصات هجومية جديدة مجهّزة بأسلحة متطورة من طراز «أس أس أن 27 بي» و«أس أس أن 22».
وعزّزت الصين أيضاً أنظمة الحرب الإلكترونية وقدرات الهجمات الإلكترونية. كذلك عزّزت أجواءها بأحدث المقاتلات العسكرية الروسية من طراز «سوخوي 27» و«سوخوي 30»، إلى جانب الطائرات المصنّعة محلياً من طراز «جاي 10».
وتتميّز الصين بتركيزها على شراء التكنولوجيات التي تدخل في الصناعة العسكرية أكثر من تركيزها على شراء المعدات، ما يسمح لها بتطوير هذه التكنولوجيات وإنتاج معداتها لمصلحتها مع إمكانية تصديرها إلى بعض الدول. وهو ما يمثّل هواجس كبيرة، لا للولايات المتحدة فقط بل لروسيا أيضاً، وفقاً لما أكده نائب مدير الهيئة الفدرالية الروسية للتعاون العسكري التقني، فياتشيسلاف دزيركالن. وتماشياً مع الرغبة الصينية في بناء الجيش المعلوماتي وكسب النصر في الحرب المعلوماتية، اتخذت الصين منذ عام 2003، قراراً بإعادة خفض أفراد الجيش بمقدار 200 ألف جندي قبل عام 2005، ليصبح عدد أفراد الجيش الإجمالي 2.3 مليون. وبالتزامن مع هذا الخفض، أطلقت الصين، إدراكاً منها لنقاط ضعفها، برنامجاً استراتيجياً لتدريب الأفراد يتضمن مرحلتين، تتنهي المرحلة الأولى العام الحالي على أن تمتد المرحلة الثانية حتى 2020.
ويركز البرنامج على التأهيل الوظيفي في الأكاديميات العسكرية بهدف «امتلاك صف من ضباط القيادة الذين يستوعبون فن قيادة الحرب المعلوماتية وبناء الجيش المعلوماتي»، وتعزيز القدرة على وضع خطط خاصة ببناء الجيش وتحديث وتطوير الأسلحة والتجهيزات العالية التطور والتغلّب على المشاكل التكنولوجية الرئيسية.
وفي السياق، ركّز الجيش أيضاً في السنوات القليلة الماضية على رفع قدرة العمليات المشتركة لمختلف القوات والأسلحة على مختلف المستويات، من دون أن يغفل تطوير مؤسسات الخدمات اللوجستية من مستودعات ومستشفيات وأشغال هندسية خلفية.
وهذا التطوير للقدرات كان لا بد من اقترانه بعقيدة تضمن كيفية توجيهه واستخدامه عندما تستدعي الحاجة، فكان مبدأ «الدفاع النشط» محرّكها الأساس، منذ احتلال أفغانستان والعراق، والقائم على «أخذ زمام المبادرة، والقضاء على الأعداء».
ولأن الحرب من وجهة نظر أكاديمية العلوم العسكرية ليست مجرد صراع عسكري، بل أيضاً مبارزة شاملة على جبهات السياسة والاقتصاد والدبلوماسية والقانون، تمّ منذ العام 2003 تبنّي مفهوم الحروب الثلاث التي تهدف إلى التأثير على الأبعاد النفسية للنشاط العسكري، وتتضمن حرباً نفسية، وتسعى إلى تقويض قدرة العدو على القيام بعمليات قتالية من خلال العمليات النفسية عبر ردع معنويات العدو العسكرية وصدمها وإضعافها، في مقابل دعم السكان المدنيين.
كذلك تشمل حرب الإعلام، وتهدف إلى التأثير على الرأي العام الدولي والداخلي لحشد الدعم الشعبي والدولي لجهود الصين في العمليات العسكرية، وثني العدو عن اتّباع سياسات ينظر إليها على أنها معاكسة لمصالح الصين.
وأخيراً الحرب القانونية عبر استخدام القوانين الدولية والمحلية للحصول على الدعم الدولي وإدارة التداعيات السياسية المحتملة للأعمال العسكرية الصينية.
ووراء التطور المتنامي للقدرات العسكرية الصينية مصالح أمنية تشمل مروحة واسعة من التهديدات التي عززها النمو المتسارع في الصين، الذي ترافق مع تحولات اجتماعية رفعت من عوامل عدم اليقين داخل المجتمع.
وإن كان «الكتاب الأبيض» الذي أصدرته الصين في عام 2008 يعكس مخاوف بكين من «القوات الانفصالية التي تعمل لاستقلال تايوان وتركستان الشرقية والتيبيت»، مع ما تمثّله من تهديد لوحدة الصين وأمنها، فإن الهاجس الأكبر للصين يتمثل في الصدمات الاقتصادية، إذ إن أي نكسات أو حتى تباطؤ متواضع في النمو سيؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة والتضخم، وتقلّص الطلب على العمالة والتصنيع، ما سينجم عنه اضطرابات كبيرة ويفرض عليها إعادة النظر في أولويات تخصيص الموارد، بما في ذلك تلك العسكرية.
كذلك تخشى الصين من حصول زيادات غير متوقعة في الطلب على الموارد، الذي ينعكس عليها ارتفاعاً في الأسعار، أو حتى محدودية الوصول إلى الموارد.
وستواجه كذلك الصين ضغوطاً ديموغرافية، تخشى الصين أن تخلق لها معوقات تؤثر في قدرة الصين على تحقيق معدل نمو عال. وتتوقع الصين أن ينتقل بين عام 2000 و2030 ما يزيد على 400 مليون شخص من الريف إلى المناطق الحضرية. وسيواجه قادة الصين تحديات في مجالات خلق فرص العمل وتلبية احتياجات البنية التحتية والإسكان. كذلك تعاني الصين من مشكلة الشيخوخة، وتشير التقديرات إلى أن عدد كبار السن سيرتفع إلى 290 مليون بحلول عام 2025. وفي موازاة ذلك، تدرك الصين أنها تواجه أكثر من أي وقت مضى ضغوطاً سياسية محلية. وبات على قادة الحزب الشيوعي مواجهة المطالب الشعبية من أجل تحسين استجابة الحكومة. ولذلك أطلقت القيادة السياسة برنامجاً لإصلاح الموظفين يرمي إلى تحسين تواصل الزعماء المركزيين مع الشكاوى والمظالم المقدمة من الكوادر المحلية، والعمال في المناطق الحضرية والريفية، بهدف نزع فتيل «التناقضات الداخلية بين الشعب».
وللغاية نفسها، أطلقت الصين في عام 2008 حملة تمتد لخمس سنوات لمكافحة الفساد. وعلى الأثر أُقيل عشرات المسؤولين من مناصبهم، بعدما أظهرت الأرقام أن حجم الاختلاس وتبذير المال العام بين 1996 و 2005 بلغ 170 مليار دولار، فيما أشارت تقديرات البحوث الأكاديمية إلى أن التكاليف المباشرة للفساد في عام 2003 بلغت 86 مليار دولار، أي ما يعادل ثلاثة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي موازاة التهديدات الداخلية، تجد الصين نفسها في مواجهة تحديات إقليمية، وخصوصاً أن الصين محاطة بعدد من النقاط الساخنة، من تايوان وكوريا الشمالية، وجزر سبراتلي المتنازع عليها بين الصين من جهة وفييتنام والفيليبين وبروناي وإندونيسيا من جهة ثانية، وجزر الباراسيل، التي تطالب بها إلى جانب الصين فييتنام وتايوان. وتتوجس الصين من الأوضاع المضطربة في كل من أفغانستان وباكستان اللتين تجاورانها. ويأمل قادة الصين تجنّب عدم الاستقرار في المنطقة لضمان وجود بيئة مواتية للتنمية الاقتصادية. واقع عملت الصين على إبقائه ضمن «سياسة الجوار الطيب»، من خلال لجوئها إلى حل عدد من الخلافات الحدودية مع جيرانها، في ظل عدم استعدادها للتنازل عن أمن الطاقة الخاص بها.
ويبدو أن الصين باتت تولي أيضاً أهمية متزايدة للأضرار الناجمة عن التهديدات الأمنية غير التقليدية، مثل الإرهاب والكوارث الطبيعية وانعدام الأمن الاقتصادي، وأمن المعلومات والمناخ، وخصوصاً أن التنمية الاقتصادية في الصين نتج منها تكلفة بيئية كبيرة.
ويشعر زعماء الصين بالقلق من أن هذه المشاكل البيئية قد تقوّض شرعية النظام من خلال تهديد التنمية الاقتصادية والصحة العامة والاستقرار الاجتماعي، وصورتها الدولية.
وأعلنت الصين حدوث 51 ألف احتجاج في عام 2005 مرتبطة بالتلوّث، أي بمعدل نحو ألف تظاهرة أسبوعياً.
وتأكيد الصين للطابع «الدفاعي المحض» لعمليات تحديث قواتها لم يمنعها من توظيف هذه القدرات العسكرية في الساحة الدولية. توظيف استجد من خلال الاضطلاع بمسؤوليات دولية في مجالات مثل حفظ السلام والمساعدات الإنسانية والإغاثة من الكوارث، ومكافحة القرصنة، وخصوصاً أن الصين باتت عاجزة عن عزل تأثيرات الأحداث الخارجية على وضعها الداخلي، والعكس صحيح.
وتشير هذه التوجهات إلى أن أساليب بكين لتأكيد مصالحها وحمايتها تزداد تنوّعاً، وأن بكين على استعداد لاستخدام مجموعة متنوّعة من المقاربات التعاونية والقسرية لتحقيق أهدافها، المتمثّلة بالدرجة الأولى في ضمان الحصول على الموارد الضرورية لمواصلة تقدمها ونموّها. ومثّل النمو الاقتصادي على مدى السنوات العشر الأخيرة فرصة ذهبية للصين استغلتها في تخصيص المزيد من الموارد للتركيز على بناء جيشها وتجهيزه وتدريبه من دون التأثير على الاقتصاد. وتشير الأرقام إلى تضاعف الميزانية العسكرية الصينية من 27.9 مليار دولار في عام 2000 إلى 60.1 مليار دولار في عام 2008 وصولاً إلى 69 مليار دولار في العام الماضي، لتمثّل ما نسبته 13 في المئة من الميزانية العامة للبلاد، فيما سجّلت ميزانية الدفاع للمرة الأولى في 2010 أقل ارتفاع منذ عشر سنوات بلغ 7.3 في المئة. وحددت الميزانية العسكرية للبلاد بقرابة 78 مليار دولار، في محاولة من السلطات للتركيز على النمو الاقتصادي، على الرغم من تلميح العديد من الخبراء إلى أن المبلغ الفعلي المخصص للموازنة العسكرية الصينية ربما يكون أكثر بضعفين أو ثلاثة من الرقم المعلن. وهذا التطور في القدرات العسكرية الصينية يعدّ عامل قلق متزايد للولايات المتحدة، وخصوصاً بعدما خرج بعض قادة هذا الجيش للمطالبة بمعاقبة واشنطن على خلفية التوتر الذي ظهر بسبب صفقة بيع الأسلحة لتايوان، وما تلاه من خلافات بشأن مجموعة من القضايا ذات الاهتمام المشترك.
وحمل تقرير المراجعة الدفاعية، الصادر عن وزارة الدفاع الأميركية بداية العام الحالي، إدراكاً متزايداً من قبل الولايات المتحدة لخطر صعود الصين، على اعتبار أنها، إلى جانب الهند، «تستمر في صياغة نظام دولي بات على الولايات المتحدة ـــــ وإن كانت الفاعل الأقوى فيه ـــــ أن تتعامل على نحو متزايد مع حلفاء شركاء رئيسيين للمحافظة على الاستقرار والسلام». ولفت تقرير وزارة الدفاع الأميركية إلى أن «غياب الشفافية، وطبيعة تطوير الجيش الصيني، وعمليات اتخاذ القرار، فضلاً عن محدودية مشاركة الصين في عمليات خارجية، تثير أسئلة مشروعة في شأن سلوك الصين ونيّاتها المستقبلية على المدى الطويل، في آسيا وخارجها».
تهديدات كان مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية، دنيس بلير، واضحاً عندما رأى أن التقنية الإلكترونية التي تسعى بكين إلى استيعابها ذات طابع عدواني.
بدوره، لخّص وزير الدفاع الأميركي، روبرت غيتس، خطر القدرات العسكرية الصينية على بلاده بالتأكيد أن حاملات طائرات بلاده وقواعدها الجوية في المحيط الهادئ تواجه تحديات جديدة تفرضها عمليات التحديث الصينية.
الاحتياط والميليشيا
إن كان عديد الجيش الصيني يتخطّى مليوني جندي، فإن عناصر الاحتياط الذين تقدّر أعدادهم بخمسمئة ألف، إلى جانب ما يعرف بلجان المقاومة الشعبية، يمثّلون عنصراً رئيسياً في استراتيجية الدفاع الصينية.
ويمثّل الاحتياط في زمن السلم عاملاً محافظاً على الاستقرار الاجتماعي. وفي زمن الحرب، يمكن نقل وحداته إلى الخدمة الفعلية. ويسعى الجيش إلى أن تصبح قوات الاحتياط أكثر مهنية من خلال تعزيز التوظيف والتدريب، والبنية التحتية.
وإلى جانب الاحتياط، تمتلك الصين ميليشيا يطلق عليها اسم لجان المقاومة الشعبية، وتضم جميع الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35، وهم لا يخدمون حالياً في الجيش من الناحية الفنية، ويقودها مجلس الدولة واللجنة العسكرية المركزية بصورة موحّدة، وتمتلك فروع طوارئ وفروع مشاة وفروع تكنولوجيا متخصصة مماثلة لما في جيش التحرير الشعبي. وقدّر الكتاب الأبيض بشأن الدفاع الوطني لعام 2004 قوام هذه اللجان بعشرة ملايين، فيما تحدث الكتاب الأبيض لعام 2008 عن خطط لخفض عددها إلى 8 ملايين في إطار خطة خمسية بدأت في عام 2006 وتنتهي أواخر عام 2011.
جمانة فرحات
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد