الدين والسياسة ورأس المال
تهيمن التوتّرات الدينيّة على عقول الناس في مختلف بقاع الأرض، ما يشير إلى الفشل الذريع لأهل الأديان في نشر ثقافة الانفتاح الدينيّ، وثقافة قبول الآخر، ووجوب احترام هذا الآخر في تباينه وفي فهمه ذاته وأصالته والصورة التي يودّ أن يكون عليها. هذه التوتّرات دليل على إفلاس كامل للمؤسّسات الدينيّة والقادة الدينيّين، والقائمين على التعليم الدينيّ والتوجيه والإرشاد. وكي لا نقع في التعميم غير المسؤول نقول إنّ ثمّة بعضًا من العاملين في النطاق الدينيّ يسعون بصدق إلى نزع الفتائل المؤدّية إلى تفجير الاحتقانات عبر التوعية على إبقاء الخلافات في الإطار السلميّ. لكنّ الكرام قليلّ.
تهجير في العراق، يكاد أن يؤدّي إلى جعل الوجود المسيحيّ فيه عدمًا وعصفًا مأكولاً. فلسطين الأرض التي شهدت ولادة السيّد المسيح، تكاد أن تتحوّل متحفاً يخبر عن انقراض أتباع يسوع. في لبنان ما زلنا نحيا حالاً من السلام، أهي هدنة ستدوم أم أنّها ستنتهي ذات يوم قريب؟ مصر تشهد من حين إلى آخر اشتباكات ذات طابع دينيّ، ما يسهم في تنامي التوتّرات بين أبناء الوطن الواحد. وأخيراً، مجازر في نيجيريا بالسواطير والمناجل، هدفها الإبادة، وليس أقلّ من ذلك. هكذا يصبح لزامًا طرح السؤال: لماذا أغلب التوتّرات الناشبة في عالم اليوم يشكّل الدين الوقود اللازم لإشعالها والنفخ فيها لتأجيجها؟ أليس ذلك لأنّ الدين، كما نحياه لا كما يريده الله أن يكون، أضحى في عالمنا الحاضر متخلّفًا عن مواكبة الحضارة، أو أنّه بات لا يرقى إلى مستوى إنتاج بشريّ سمته احترام حقوق الإنسان؟
يبدو في كل البلدان التي تشهد نزاعات طائفيّة أو مذهبيّة أو دينيّة أنّ هذه النزاعات قدر محتوم لا رادّ له. ذلك أنّك ترى الجميع يتحدّثون عن مواقيت بدء الصراع أو الحرب الأهليّة قبل حصولها، وكأنّ تفاديها غير ممكن. ثمّ تتكرّر الحوادث بعد عدد معلوم يحدّدونه من السنين، فإذا هامش الخطأ في هذا التحديد لا يتعدّى السنة الواحدة أو السنتين. وبدلاً من أن تعمل المؤسّسات الدينيّة على نشر ثقافة السلام الداخليّ القائم على احترام المساواة في المواطنة وفي الإنسانيّة بين عموم أبناء الوطن الواحد، تراها تسعى إلى ترسيخ ثقافة الاستعلاء الدينيّ والتعصّب والتمييز ما بين مواطن وآخر، وفق الانتماء الدينيّ. ثمّ يحدّثونك عن سماحة الأديان وقبولها بالتعدّد وحبّها للسلام والعدل... لكن مَن يصدق كلّ هذا الإنشاء؟
تعليقًا على ما جرى في نيجيريا أدان المطران ألكسندروس، راعي أبرشيّة نيجيريا الأرثوذكسيّة، "كلّ أعمال العنف باسم الله من أيّ مصدر أتت، وكلّ مَن يستعمل اسم الله من أجل غايات سياسيّة واقتصاديّة". وأضاف أنّ الخلافات القائمة في البلاد ليست خلافات دينيّة فقط، لأنّها تعود أصلاً إلى ملكيّة الأراضي وآبار النفط واستغلالها. ويقرّ المطران بأنّ "التعصّب الدينيّ كثر في العالم في السنوات الأخيرة، إلاّ أنّ الأسباب السياسيّة هي الأهمّ". ودعا في خاتمة حديثه إلى الحوار الدينيّ من أجل التصدّي لأهمّ المشكلات التي يعاني منها المجتمع النيجيريّ مثل "السيدا والمخدّرات والتربية".
توصيف الحال النيجيريّة هنا يماثل، إلى حدّ بعيد، الحالات السائدة في البلدان الأخرى، حيث يزداد الاستغلال السياسيّ للعامل الدينيّ في سبيل السيطرة على الحكم وعلى الموارد الاقتصاديّة والماليّة. فمهما كانت الأسباب التي يتوسّلها بعضهم للإقلال من مسؤوليّة الهيئات الدينيّة عن التوتّرات التي يُستعمل فيها الدين لإذكاء الصراعات، فلا بدّ من الاعتراف بأنّ تلك الهيئات قصّرت في تحويل الدين من عامل مؤجّج للصراعات إلى عامل مهدّئ لها. وهذا التقصير نابع من عدم العمل على تحديث الخطاب الدينيّ وعقلنته، بحيث ينتج أجيالاً تهتمّ بقضايا الإنسان المعاصر وتلتزم الإنسان المستضعف والمعذّب في الأرض.
ترى متى سنرى المسؤولين الدينيّين يتعاونون من أجل تحسين الظروف الإنسانيّة ومكافحة الجهل ومن أجل التنمية والقضاء على التخلّف، بدلاً من القبول باستغلال الدين من أجل مزيد من التقهقر والانحطاط؟ متى سيتمّ تحرير الدين من سطوة السياسة ورأس المال؟
الأب جورج مسّوح
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد