التطرف الديني والاحتلال الأمريكي وسؤال المعالجة
يلفت القرآن الكريم إلى خطر انقسامات التدين وينهى عن جبروت التعصب والطغيان في الدين وعلى مدار أكثر الآيات يحذر القرآن من إثارة استغلال العواطف الدينية لأغراض لاتمت الى جوهر الروح الدينية بصلة حتى قيل إن أعظم آية في كتاب الله سبحانه وتعالى هي آية الاستقامة فلا إيمان لمؤمن من غير الاستقامة على خط اتصال العقيدة الدينية بكامل منظومة الأخلاق فيها.
كذلك ربما نحصي جميع التجاوزات عن الاستقامة في الدين وعن الوسطية في التدين، فنسمي تلك التجاوزات بالتطرف الديني لتبرز من خلاله أسوأ حالات الانفصال بين قول المؤمن وفعله. وهنا ربما نختصر الحلول لمشكلات هذا التطرف وتحدياته بتصويبه على جادة الاستقامة في الدين وعلى نهج الوسطية في التدين.
غير أن السؤال أين هو هذا التطرف الذي لانراه إلا في نتائجه وأشباحه لاسيما أن أخطر الخطر ألا يقتصر سوء فهم النصوص الدينية في التطرف الديني فيتعدى بتجاوزاته تجريح الآخرين في معتقداتهم وتكفيرهم تكفيراً يستبيح سفك دمائهم لمجرد اختلافهم عنه فيما يرى ويعتقد أنه الدين الصحيح.
وإذا كان التطرف مستنداً على فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن إجماع فقهاء المسلمين لايجيز استخدام العنف الذي يستتبع الضرر والإضرار والمفسدة التي تصيب الناس أفراداً ومجتمعات ولايختلف فقيهان على معنى الضرر والمفسدة فلا تقتصر على الآمر والناهي بل تشمل كل ضرر وكل مفسدة تقع على الغير بمعزل عن هويته الدينية والسياسية. ويأتي تحريم تطرف العنف في كل ما يستلزم الإضرار السياسي الذي يشوه سمعة المسلمين، وفي كل مايثير الفتن باسم الدين وفي كل مايخل باستقرار النظام العام للحياة ويكفي في تحريم ذلك مجرد الاحتمال في تأثير فعله على شيء من المفاسد بملاحظة أن قاعدة لاضرر ولاضرار حاكمة على أدلة جميع الأحكام الأولية بما فيها أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعندي أن الأمر بالمعروف يجب أن يتم بالمعروف بمقتضى الأدب القرآني في الدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. كذلك فلا يجوز النهي عن المنكر بالمنكر أو باستخدام منكر مثله. ويبدو لي أن اختلافات بعض الفقه الإسلامي حول مشروعية العنف المسلح وعدم مشروعيته قد تناقض على نفسه لأمور:
أحدهما ـ صدام النصوص فيما بينها وانتشار الأحاديث الموضوعة وافتقارنا الى منهج موحد في علوم الحديث والرواية.
وثانيها ـ اختلاط المنهج الموضوعي عند بعض الفقهاء بين فقه الجهاد وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وثالثها ـ اختلال التوازن عند بعض الفقهاء في ربط فقه الشريعة بالأخلاق.
وعلى هذه الإضاءة فإن التطرف الديني يندرج وفق المصطلحات القرآنية بأبواب اللغو والتأثيم والهمز والعدوان وسواها من كبائر مانهى الله عنه في كتابه الكريم، ومن أخطر الخطر على جوهر الدين وقيمه أن يستشري انغلاق التطرف وعصبياته على منظمة أو حركة تؤمن بوجوب فرض إيمانها المغلق على الآخرين بقوة القهر والسلاح فيما شهدناه منذ مطلع الإسلام الأول بنزوع ـ الخوارج ـ إلى تأجيج بؤر الجهالات الإسلامية بمثل هذا التطرف المتعصب لدينه الذي لايكاد يعرف عنه شيئاً. وعندي أن دراسة التطرف الديني لايجدر بها في الراهن المعاصر أن تبحث كظاهرة أخطأت سواء السبيل عن طريقة فهم الدين ووعي التدين وإنما يجب أن تدرس في واقع مشاريع الاحتلال الجديد لبلادنا العربية والإسلامية كظاهرة يغذيها الاحتلال ويتغذى منها بتضليل يرى في التطرف الديني والإرهاب الديني ذريعة لشرعنة أطماع الاحتلال نفسه في مخططات مايسميه بالحروب الاستباقية أو الحروب العادلة ولعل في ذلك مايفسر لنا وتيرة التقارب والتباعد بين الإدارة الأمريكية وحركات التطرف الديني بشتى قوالبها واتجاهاتها فهي قريبة من البيت الأبيض في واضحة النهار إبان قلقلات الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي وهي قريبة منه من وراء ستار ابتغاء توظيفها عن بعد لتغيير وجه الشرق الأوسط الجديد فيما تسميه جرأة الاحتلال الأمريكي ـ بالفوضى البناءة ـ التي تشطح في كل جهات العروبة والإسلام بتلك الأوساخ الشائهة من صناع الفتن الدينية على أرضنا المباركة. وبذلك نتبين أبعاد التطرف الديني في بؤرتين إحداهما: بؤرة الجهل بالدين وهي مشكلة تربوية اجتماعية يجب أن نتصدى لها في إطار الأبحاث والدراسات لمعالجتها معالجة علمية من داخل مؤسساتنا الدينية ومرجعياتها بعيداً عن منطق مواجهة التطرف بالتطرف.
وثانيهما: بؤرة استغلال الأجنبي المحتل لشبكات التطرف الديني المارق عن إجماع جميع المذاهب الإسلامية دون استثناء وهي مشكلة أمنية يجب أن تدرس وتضبط من داخل المؤسسات الأمنية بعيداً عن ردات الفعل التي تفاقم المشكلة وتسد عليها منافذ المعالجة لاسيما مع خلط بعض الأنظمة العربية والإسلامية لمشكلة التطرف وإشكالات التدين فلئن كان التطرف نمطاً سلبياً من أنماط التدين فلا يسوغ للنظام العربي أن يواجه خطر التطرف وكأن الدين هو المسؤول الأول عن بروز هذا الخطر.
وهاهنا تأتي أهمية القانون الذي يقاضي استخدام العنف الديني والعنف السياسي في حسم أي خلاف ديني أو سياسي..
وكأنني ألفت من وراء ذلك الى ضرورة معالجة أسباب التطرف كله دينياً كان أم علمانياً ولكي لاتلتبس وقائع التطرف بين عوامله الداخلية سياسياً ودينياً واقتصادياً وبين عوامله الخارجية الواضحة فيما يضمره الاحتلال من إشعال الفتن الدينية على أرض منابت الأديان التوحيدية يجب أن يضطلع الجميع دولة ومجتمعاً ومؤسسات دينية بمهمات التعاون على توفير أفضل الضمانات التي تحمي اجتماع التعددية الدينية من كل مايهدد سلام العيش المشترك لندرك من موقع المسؤولية المشتركة بأن سلام وحدتنا الوطنية هو الشرط الموضوعي لإنجاز إرادة المقاومة الدفاقة بكل ما في هويتنا الدينية من كنوز الوحدة والتوحيد وعليها نمضي إلى طريق النهوض والتقدم ولقد كتبنا كثيراً عن عوامل التطرف الديني وأسبابه غير أننا لم نكتب بعد سطراً واحداً في نقد الذات عن عوامل فشلنا وإخفاقنا في رد التطرف الى صوابه. وأخشى ماأخشاه أن تكون عوامل هذا الفشل وهذا الإخفاق قصوراً ذاتياً في العقل العربي المقيد بأغلال مانراه ومالانراه من أشباح التطرف وكأننا لانرى من مشكلة التطرف إلا أشباحها وماأشبه أغلال هذا العقل بتلك الصورة التي عرضها معاصر من أئمة الفكر الفلسفي عن مشهد الكهف المشهور في التشبيه الذي قدمه أفلاطون ليصور به أولئك الذين يديرون ظهورهم الى الحقائق قانعين بأن يروا ظلالها معكوسة على جدار الكهف الذي سجنوا أنفسهم فيه فهو كهف مفتوح على الطريق العام وأما ساكنوه فقد قيدوا أنفسهم بجلسة تجعل ظهورهم الى ناحية الطريق الخارجي ووجوههم نحو الجدار الخلفي من الكهف فيمر الناس وتمر العربات وتقع الأحداث في الطريق العام وتلقي بظلالها خلال فتحة الكهف لتسقط على الجدار الخلفي فلا يرى ساكنوه من تلك الحقائق إلا ظلالها وأشباحها ومع غياب المراكز البحثية بل ومع انغلاق مراكزنا البحثية عن بعضها البعض شاعت بيننا مشكلات التطرف الديني شيوعاً يراه البعض من مشكلات المرجعيات الدينية ويراه آخرون من مشكلات الدولة ورجالها الأمنية وفي خضم هذه الازدواجية أراني أدعو إلى مناقشة واقع التطرف الديني بجميع أشكاله وأبعاده في إطاره الديني وإطاره الأمني لنقف من وراء ذلك على المعايير الضابطة لحدود التطرف ومعناه فلا تنبهم علينا هذه الظاهرة بين منكر لها أو مبرر لأخطائها القاتلة، وإذاً لابد أن تجيء من ذمة المعالجة لظاهرة التطرف الديني بمنظور يحمي فكر المقاومة وفقه المقاومة وثقافة المقاومة من كل شائبة تصادر حقنا في الدفاع عن الأرض والوطن والكرامة وتلك هي بعض مخططات الاحتلال الرامية الى تزوير هذا الحق المقدس في فلسطين ولبنان والعراق، الأمر الذي يفسر تهرب الإدارة الأمريكية من تعريف مصطلح الإرهاب والإرهابيين.
فما الذي يجعل دولة عظمى بحجم الولايات المتحدة الأمريكية عاجزة عن تعريف مصطلح الإرهاب..؟
بل ما الذي يجعلها تحاصر إرهاب ردات الفعل دون أن تتقدم خطوة واحدة في بحوثها عن إرهاب الفعل واستفزازيته ليصل بها الأمر إلى تزوير القوانين الدولية ذات الصلة باستخدام العنف المسلح ومسوغاته لتحرم شعوب العالم من خلال منهجها الماضي بازدواجية المعايير الى حرمانها من أبسط معايير حقوق الدفاع عن الأرض والشرف والكرامة؟ وما من شك في أن صمت العالم عن فظاظة هذه المغالطات الأمريكية في مصطلح معنى الإرهاب سيهدد الحضارة الإنسانية بأخطر وأبشع برنامج إمبراطوري لتزييف منظومة القيم الأخلاقية، لينتهي تصاعد هذا التشويه لا إلى انحطام مرجعية العدالة في ميزان القانون الدولي فحسب بل إلى تحطيم مرجعية العقل البشري نفسه. من هنا كان العامل الأخلاقي ولايزال عائقاً أمام تحديد الفواصل الموضوعية لقضية الإرهاب والإرهاب المضاد، وبذلك فإن انخراط بعض الأنظمة العربية في مهمات ـ مكافحة الإرهاب ـ قبل انقشاع الرؤية لوعي مفهوماته النسبية من شأنه تفجير مشكلات جديدة داخل النسيج الاجتماعي لتلك الأنظمة المخدوعة والمذعورة من إرهاب الدولة الأمريكية. والسؤال: إذا كانت موسوعة علم العلاقات الدولية تعرف الإرهاب في أي نشاطات تقوم بها الدولة أو غير الدولة ويتم فيها استخدام العنف بقصد تحقيق أهداف سياسية محدودة فما معنى أن يعمد بعض العرب من استثناء الدولة الأمريكية كراعية كبرى لإرهاب الاحتلال في فلسطين والعراق ؟!! فلم نلتفت إلى أن الرئيس الأمريكي جورج بوش في توقيعه على مكافحة الإرهاب قد أسند في نهجه لمدلول الإرهاب على اختزال تعريفه الوارد في معاهدة السادس عشر من نوفمبر عام 1937 وهي المعاهدة الدولية التي قفزت بتعريف الإرهاب على جميع القواميس الفرنسية والإنكليزية والإسبانية لتحصر مفهومه بسبب بعض الملابسات السياسية والتاريخية بأنه العمل الإجرامي الموجه ضد الدولة، وذلك لمواجهة ظاهرة الاغتيالات السياسية التي كانت سائدة عشية الحرب العالمية.
وعلى هذا الاختزال ستظهر أصابع الفيتو الأمريكي ضد أي قرار يدين إرهاب الدولة الصهيونية في فلسطين، وبالرغم من اعتراف الأمم المتحدة بمشروعية حركات المقاومة المناهضة للاحتلال إلا أن مايسمى ـ بالمجتمع الدولي ـ وبحكم نزعاته الاستعمارية يعمد دائما الى تحريف وتأويل وتزوير القرارات الصادرة عن مجلس الامن لأغراضه السياسية المفضوحة. فهل نعي ضرورة نقد المعيارية لجميع المواقف والانشطة المستترة تحت غطاء ما يسمى ـ بالشرعية الدولية ـ التي اشتركت مع العدوان الاسرائيلي في واضحة تموز لتدمير لبنان كأبشع ما يكون استخدام القوة والعنف والتدمير؟!!
ومن المفارقات الساخرة ان تعريف الارهاب بحسب وكالة الاستخبارات الاميركية المركزية يتسع ليشمل مجرد التفكير في ـ اضعاف النظام الدولي ـ وفي مضامين هذا التعريف وجوب إضفاء الشرعية على كل عمل عسكري اميركي ومباركته بما في ذلك تسويغ المبررات القانونية لاحتلال اي دولة تحت شعار قانون مكافحة الارهاب. وإذا كان التعريف الغربي لملفوظة الارهاب لغة هو التهديد باستخدام القلق الناجم عن العنف غير الاعتيادي كمآرب سياسية، فإن الادارة الاميركية هي ادارة ايديولوجية تستخدم التهديد والتخويف والترويع لاثارة الرعب ضد كل دولة او امة او ثقافة او دين لاتستجيب لمطامع هذه العولمة الاميركية، وبذلك فإن لغم التعريف الاميركي لظاهرة الارهاب ومكافحته في حال انفجاره سيقضي على كامل القواعد القانوينة الدولية وإلغاء ثوابتها بدءا من إلغاء مبدأ عدم استخدام القوة في العلاقات الدولية مرورا بإلغاء مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وصولا الى إلغاء مبدأ المساواة في السيادة بين الدول.. فهل انتبه العالم الى أن القوة الاميركية في اللحظة التي بلورت اخطر تعريف ديكتاتوري للارهاب قد اعلنت موت الامم المتحدة ونهاية عصر القانون الدولي بصريح خطاب الرئيس الاميركي يوم إعلان الغضب على العالم كله بقوله:«ينبغي الآن على كل امة في اي مكان ان تتخذ قرارا هو : إما ان تكون معنا او تكون مع الارهاب» وماكان للرئيس الاميركي ان ينجح في تضليل العالم لولا بعض حركات التطرف الاسلامي التي أفرغت مضمون المقاومة،من معناها. وغداً سيكشف التاريخ عن وثائقه فاضحا صلة العنف الاسلامي بأجهزة الدوائر الاميركية نفسها.
وبوسع الباحث في ملفات البوسنة وكوسوفو والشيشان وافغانستان والعراق ان يربط بين خيوط السياسة الاميركية وشبكات التطرف الاسلامي لاختلاق بؤرة
الصراع المفتوحة ضد العروبة والإسلام، لينكشف القناع عن نمط جديد من الحرب يجعل من العدوان السافر على الحكومات والشعوب حروبا عادلة تستهدف تطهير الشرق الأوسط من ظاهرة الارهاب. ويا للمفارقة باستخدام الارهاب نفسه فيماشهدناه من تحريض الخارجية الاميركية على الفتن الطائفية ودعم قوى المعارضة والانشقاق والتدخل السافر في الشؤون الداخلية للدولة المستهدفة تحت شعار ـ الفوضى الخلاقة ـ ويلاحظ من مضمون هذه الفوضى اعتماد الادارة الاميركية على أدوات الارهاب السياسي المستند على إدانة العالم الاسلامي بأحكام مسبقة قائمة على الخلط في المفاهيم والافكار والمصطلحات لفرض سيطرتها الكاملة على شعوبنا ودولنا وحركاتنا النهضوية والثقافية. وكأن ما يجري على ارضنا بمنزلة تنفيذ لبيان جمعية المثقفين الاميركيين الذين ربطوا الارهاب بالسلام واطلقوا عليه /الاسلام فوبيا/ ولم يكن هذا البيان إلا صدى لدراسات يهوديت ميلو وكرايمرودانيال بايس وباري روبين وصامويل هنتغنتون وفرنسيس فوكوياما المبشربحتمية سيادة الحضارة الاميركية من منظور فلسفي يرى في إنسان الغرب ارقى سلالة بشرية عرفها التاريخ الانساني، ولذلك فهو خاتم البشرية كلهاوعلى قاعدة هذه الرؤية لن يتم تعريف ـ الارهاب ـ إلا وفق مفهوم احادي الجانب يميل بناحيث تميل المصالح الاميركية بدءا من مشروع كسينجر للشرق الاوسط مرورا بمشروع شيمون بيريز عن هذا الشرق وصولا الى أحلام وزيرة الخارجية الاميركية عن مخاض ولادة الشرق الاوسط الجديد إبان العدوان الفاجر على لبنان.. وكم كان رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتيرمحمد بليغا في تمزيق اقنعة الادارة الاميركية بقوله:«إذا كنت صديقا للولايات المتحدة فستكون بخير أما إذا كنت معاديا فسوف يفعلون بك مثلما فعلوا في بنما والعراق».
حسين شحادة
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد