التراجع المسيحي في الشرق: مشهد تاريخي
ثمة كارثة حضارية وإنسانية وسياسية وتاريخية تحوم في سماء المشرق العربي؛ وتتمثل هذه الكارثة في أن أرض المسيحية الأولى، أي سوريا التاريخية، وبلد المسيح، أي فلسطين، ستصبح خلال نحو خمسين عاماً، في ما لو استمرت حالة الإفناء على ما هي عليه، بلا مسيحيين إلا من بعض المجموعات البشرية المتناثرة هنا وهناك، أو بعض الرهبان في أديرتهم كشهود على التاريخ الزاهي لهذه الأرض المقدسة.
ففي بيت لحم التي ولد المسيح فيها، أو في الناصرة التي ولدت مريم أمُّ المسيح فيها، أو في القدس التي شهدت درب آلامه، يكاد المسيحيون يندثرون. وفي سوريا، بلد المسيحية الأولى والكنائس الأولى والرهبانيات الأولى والمكان الذي نزلت البشارة على بولس الرسول، تتفاقم هجرة المسيحيين بشكل مأساوي، فيتمّ تدمير أحيائهم وتهديم كنائسهم وأديرتهم ومدنهم التاريخية مثل معلولا وصيدنايا وبراد وصدد، واختطاف مطارينهم وفرض الحجاب على نسائهم وإرغام البعض على اعتناق الإسلام بالقوة، الأمر الذي يجعل الفرار إلى خارج سوريا أمراً إجبارياً. وفي العراق يكاد المسيحيون يصبحون، مثل الصابئة، كائنات متحفية؛ فقد هاجر منه نحو 600 ألف مسيحي خلال عشر سنوات فقط، أي ما بين سنة 2003 وسنة 2013.
إن تهجير المسيحيين من بلاد المسيحيين في المشرق العربي هو إفناء لعناصر التنوع والتحضر في هذه المنطقة، وسير حثيث نحو التصحر الفكري والديني والاجتماعي، ولا سيما أن هذه البلاد الممتدة من العراق إلى ساحل الشام، أو من بلاد ما بين النهرين (ميزوبوتاميا) إلى سوريا التاريخية كانت قد شهدت ظهور المسيحية فيها وانتشارها. ففي انطاكيا المحتلة دُعي أصحاب يسوع، أول مرة، بـِ«المسيحيين». وفي دمشق تحوَّل شاؤول الطرسوسي إلى بولس. وفي هذه البلاد ظهر تتيانوس وجستنيانوس وبارديصان ويوحنا ذهبي الفم ونسطوريوس وغيرهم، وهم مؤسسو العهد الذهبي للمسيحية. وفي شمال حلب، علاوة على دمشق وحوران وفلسطين، امتداداً نحو ماردين وانطاكيا، انتشرت المسيحية بقوة، وأمست الدين القومي لسكان سوريا التاريخية بشقيها الآرامي الشرقي (أشوريا) والآرامي الغربي السرياني (سوريا). لذلك اندفع سكان هذه البلاد إلى اعتناق المسيحية لأنهم بذلك كانوا يعتنقون ديناً يعرفونه، ويعرفون رموزه ويتعرفون فيه على أنفسهم. فالمسيحية هي وارثة ديانات الأسرار المقدسة وعقائد الخصب القديمة، وهي التي قدمت أهم ذخيرة روحية عرفتها البشرية، أي عقيدة الخلاص القائمة على فكرة الموت والانبعاث في سيرورة لا تنتهي.
الاتجاه التنازلي
حتى الفتح التركي لبلاد الشام ومصر والعراق في سنتي 1516 ـ 1517 كان عدد المسيحيين في هذه الديار نحو ستة عشر مليون نسمة (العراق تسعة ملايين، الشام أربعة ملايين، مصر مليونان ونصف المليون). وفي مؤشرات سنة 2010، وهي مؤشرات تقريبية، فإن عدد المسيحيين في هذه البقعة لم يتجاوز الاثني عشر مليوناً (سوريا مليونان، العراق مليون، مصر ثمانية ملايين، فلسطين والأردن 360 ألفاً، لبنان مليون وثلاثمئة ألف). فلو خضع المسيحيون في هذه البلاد لقانون التكاثر الطبيعي لكانوا اليوم نحو 100 مليون على الأقل. ومن عوامل هذا التناقص تحوُّل كثيرين من المسيحيين إلى الإسلام جراء الاضطهاد والإرغام والتفاعل العقيدي المتراكم، فضلاً عن الهجرة المتمادية إلى الغرب منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر فصاعداً.
إن اضطهاد المسيحيين، في طوره الأخير، بدأ أولاً في الدولة التركية التي جعلت القسطنطينية مدينة إسلامية اسمها اسطنبول بعدما ظلت طوال تاريخها عاصمة المسيحية. ثم طُبِّقت سياسة التتريك التي أدت إلى نزوح آلاف الأشوريين من تركيا نحو العراق، وآلاف السريان الذين توجهوا إلى سوريا. ومارس الأتراك في تلك الحقبة، بالتعاون مع بعض المجموعات الكردية، عمليات قتل ممنهجة ضد المسيحيين راح ضحيتها كثيرون منهم العلامة الكلداني المعروف أدي شير الذي قُتل في سنة 1915، والمطران مار بنيامين شمعون الذي اغتيل في سنة 1918. واشتهرت في ميدان التقتيل ما سُمي «الفرق الحميدية» التي نكلت بالأرمن على وجه الخصوص، علاوة على السريان والأشوريين. ولا أجازف في القول إن بداية هجرة المسيحيين وقعت على أيدي الأتراك.
المذابح التركية: أساس التهجير
منذ النصف الأول من القرن التاسع، وإبان الصراع مع الفرس، تحالف الأتراك مع بعض القبائل الكردية، ومنحوهم في سنة 1842 إمارة في قلب جزيرة إبن عمر السريانية هي إمارة بوتان. وفي هذا السياق شن الأكراد هجمات شرسة ضد المسيحيين واليزيديين بقيادة أميرهم بدرخان الذي أباد آلاف السريان النساطرة واليزيديين في إقليمي طورعبدين وهكاري. وتعرضت مناطق المسيحيين إلى انزياح قبائل كردية وتركمانية إليها بالتدريج. وفي سنة 1895 تعرض المسيحيون لمذابح شتى في ديار بكر والرها وماردين ونصيبين وميافارقين وطورعبدين وويران شهر، واستؤصل الأشوريون تقريباً من طور عبدين وماردين وديار بكر وآمد وسعرت وهكاري (في تركيا) ومن أورميا (في إيران). والمعروف أن مسيحيي منطقة ماردين كانوا يعدون نحو 200 ألف سرياني في أواخر القرن التاسع عشر، لم يبقَ منهم اليوم إلا نحو ثلاثة آلاف. وكان هناك 700 راهب في طورعبدين وحدها، فلم يبق منهم إلا اثنان. ومدينة ماردين السريانية استولت عليها تركيا وسلمتها إلى الجماعات الكردية وطردت سكانها العرب والسريان، فنزحوا إلى سوريا وأقاموا في بلدة عامودا وغيرها. والمعروف أن تركيا كانت تضم في القرن التاسع عشر ملايين عدة من المسيحيين، لم يبقَ منهم في أواخر القرن العشرين إلا نحو 150 ألف مسيحي. ولا ننسى، في هذا المجال، إبادة الأرمن، وبالتحديد في مجازر 24/4/1915 التي أدت إلى نزوحهم نحو حلب ودير الزور والعراق.
العراق
أما في العراق فإن الكلدان والسريان والأشوريين الذين يعتبرون في منزلة الشعب الواحد، فقد أدت المجازر المتمادية بحقهم مثل مجزرة سميل التي وقعت في 7/8/1933 والتي قتل فيها نحو ثلاثة آلاف أشوري، إلى هجرة معظم الأشوريين إلى سوريا، ومنها إلى لبنان فالسويد وكندا واستراليا، وكذلك مجزرة صوريا في سنة 1969.
لم يبقَ من مسيحيي سهل نينوى في العراق إلا القليل بعد الاعتداءات المتكررة عليهم التي تقوم بها جماعات إسلامية سلفية ومجموعات كردية منفلتة أو منظمة. وقد جرت «عمليات تطهير» لأحياء الدورة والمهدي والبيعة في بغداد من المسيحيين، ومن بين 150 ألف كلداني وأشوري كانوا يسكنون في شمال العراق في سنة 1991، لم يبقَ منهم اليوم إلا عشرون ألفاً على أبعد تقدير. وحتى العام 1978 كان عدد المسيحيين في العراق قرابة المليون ونصف المليون، ولم يبقَ منهم بعد الاحتلال في سنة 2003 إلا 600 ألف شخص يقطن معظمهم في سهل الموصل. وفي تلك الحقبة قتل أكثر من ألف مسيحي واختطف نحو 200 بينهم 40 امرأة، ودمرت ستون كنيسة في الموصل وبغداد ومناطق أخرى ليُضاف ذلك كله إلى فقدان مدائنهم التاريخية مثل أربيل (الآلهة الأربعة) وزاخو ودهوك وكركوك والموصل؛ فهذه مدن مسيحية في الأساس جرى تكريدها وأسلمتها بالتدريج.
سوريا
اسم سوريا سرياني، وحتى اليوم ما برح معظم أسماء الأماكن في سوريا (وفي لبنان بالطبع) سريانياً، ومازالت معلولا وصيدنايا وجبعدين وبخعا تتكلم السريانية الآرامية مع أن كثيراً من سكان هذه البلدات الأربع مسلمون. وفي بداية القرن العشرين كان المسيحيون في سوريا يقاربون 20% من عدد السكان. وفي سنة 1956 صاروا نحو 15%. وفي بداية القرن الحادي والعشرين أصبحوا ما بين 8 و10%، وها هي أعدادهم تتجه إلى الهبوط المتسارع جراء الحرب المستعرة في سوريا، وجراء جرائم الجماعات السلفية المتمادية. ففي الرقة، على سبيل المثال، كان هناك نحو 600 عائلة مسيحية قبل سنة 2012، وقد تناقص عددهم إلى 50 عائلة بعد سيطرة المعارضة، وربما تخلو هذه المدينة منهم في ما بعد. وكان المسيحيون يشكلون 30% من سكان الحسكة و65% من وادي النصارى و25% من سكان حلب، غير أن هذه الأرقام ستقبع في طي السجلات إذا استمرت الأحوال على ما هي عليه من قتل همجي. وكان السريان السوريون قد بدأوا يهاجرون من سوريا بعد مجزرة عامودا في 9/8/1937 التي فرغت من سكانها السريان جراء تلك المجزرة التي نفذها سعيد آغا الكردي. وفي سنة 1941 تعرض سريان المالكية لهجوم شنيع. ومع انه فشل، إلا أن القلق والاضطراب والهجرات الكردية من تركيا أدت إلى ان تصبح المالكية والدرباسية وعامودا كردية تماماً، على غرار المدينة التاريخية نصيبين (أوديسا) التي غادرها سكانها المسيحيون بعد ضمها إلى تركيا، وعبروا الحدود إلى سوريا وسكنوا القامشلي التي لا تبعد إلا بضعة أمتار عن نصيبين. وهكذا صارت نصيبين كردية، وتحولت القامشلي إلى مدينة سريانية ـ مسيحية. لكن الأمور ما لبثت أن تبدلت مع الهجرة الكردية في سنة 1926 فصاعداً غداة فشل سعيد علي النقشبندي في تمرده على السلطات التركية آنذاك.
التشبث بالأرض
على الرغم من جميع ما تقدم، فإن المسيحيين العرب في المشرق العربي وفي مصر تشبثوا بأوطانهم ولم يهاجروا منها إلا في أحوال الشدة، أو لأسباب اقتصادية، أو جراء الميل إلى المغامرة وارتياد الآفاق والتطلع إلى أوضاع أفضل. وقد صبروا على الاضطهاد التركي، وناضلوا في سبيل الحرية والمساواة والعدالة، وأبدعوا في فضاء العالم العربي أدباً وشعراً وفكراً وثقافة مازالت تلقح جميع القاطنين في هذه البلاد الموبوءة بالقتل والدم والدهماء والتكفير.
صقر أبو فخر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد