البيئة نظيفة ... أنا وحدي المستفيد!

22-01-2009

البيئة نظيفة ... أنا وحدي المستفيد!

استقبلني مساء دمشقي منعش بعد يوم عمل شاق، تركت مكتبي مسرعة لاهثة وراء ذلك الهواء البارد، عله يغسل عني الكسل، فلفتت نظري في الطرف المقابل من الشارع يافطة إعلانية تقول «البيئة نظيفة، أنا وحدي المستفيد».

أبطأت سيري وركزت نظري مجدداً على اليافطة. ما هو المقصود بـ «البيئة»؟ حثثت الخطى في اتجاه الشارع المجاور وأنا أفكر بالشجر والغابات والماء والهواء. نعم الهواء! اليوم قرأت مقالاً عن مأساة تلوث الهواء في مدينة دمشق، وكيف أنها لا تزال تحتل أولويات عمل الجهات الرسمية المختصة. وطمأنت نفسي، ووقفت مبتسمة انتظر الحافلة.

ما هي إلا دقائق حتى وصلت حافلتي محفوفة بغيمه سوداء من الدخان. تذكرت «البيئة» مجدداً، لا بد من أن رئتيّ الآن مشبعتان بذلك «الهواء» الأسود الثقيل، علماً أن وسائل النقل تساهم بأكثر من 70 في المئة من التلوث في مدينة دمشق المزدحمة والمكتظة.

تعاني العاصمة السورية نسبة تلوث تبلغ 17 ضعفاً زيادة عن النسبة المسموح بها عالمياً. وفي المنطقة الجنوبية من سورية ما زالت قرى كثيرة تشرب المياه السطحية غير المعالجة صحياً، ومصادرها على مقربة عن مكبات النفايات. والأهم من ذلك أن القوانين المعنية بالحفاظ على البيئة في سورية قاصرة، لا تتعدى بعض البنود الواردة في اللوائح الخاصة ببلديات القرى والمدن، وهي غير محمية بإجراءات جزائية كافية وكفيلة بإلزام الجميع مراعاتها.

ويؤكد مختصون أن الوقود المستخدم في وسائل النقل غير معالج بطريقة ملائمة للبيئة، كما هي الحال في الدول الرائدة في مجال البحث العلمي والتقدم التكنولوجي. ومحركات السيارات القديمة الكثيرة والتي ما زالت تعمل في بلادنا لا تحرق الوقود، في شكل تام، بل «تهدينا... وبسخاء» غاز أول أكسيد الكربون السام ليزيد من سواد الهواء سواداً.

أغلقتُ نافذة الحافلة سريعاً، في محاولة لتجنب استنشاق ذلك التلوث المخيف. نظرت عبر الزجاج إلى الأشجار المتعبة على طول الطريق، وهي تمتص كمية زائدة من ثاني أكسيد الكربون. شعرت حيالها بالتعاطف والامتنان، فالأشجار ليس لها رئات.

أيقظني صوت مكبح الحافلة الفظ من سهوة تأملي. ترجلت من قافلة الدخان الأسود، لأجد في مدخل الشارع يافطة إعلانية أخرى ترحّب بي، وتدعو المواطنين إلى حضور ندوة بعنوان: «بردى الذي يأبى أن يموت». نهر بردى أيضاً يعاني الكثير نتيجة سوء شبكات الصرف الصحي، فأحواضه تشكّل مصباً لأنابيب الصرف، وبخاصة من القرى وبعض المطاعم والمصانع الصغيرة الواقعة على ضفافه.

سرت في اتجاه منزلي المطل على أحد فروع النهر، وأنا أفكر في جارنا أبو محمود السمان الذي اعتاد أن يغسل إبريق الشاي ويرمي فضلاته في النهر، وأولاد حارتنا وهم يستعرضون مواهبهم في رمي الأوساخ في مائه الذي كان رقراقاً. الكل مسؤول عما حل بهذا النهر - التاريخ.

قبل أن أصعد درج المبنى رأيت أبو محمود السمان جالساً في دكانه. اليوم أول الشهر وعلي تسديد ديوني. «إدفع» هذا ما كتب على باب الدكان، ولطالما فضلت يافطة «أهلاً وسهلاً» بدلاً من «إدفع» هذه! هي تذكرني بوجوب دفع الدين الذي في ذمتي قبل دفع باب الدكان لفتحه. شعرت بالتلوث يخنقني... وفواتير الماء والكهرباء والهاتف، أجرة الطبيب وأجرة المنزل ودَين أبو محمود. بدأت أتحول إلى بردى آخر، أصارع بدوري الموت، أتعارك مع الحياة من أجل الحياة. نسيت كل شيء، كل شيء!

بيسان البني

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...