الأدب في الجامعات السورية.. تذوي الموهبة... تتفتح النمطيّة!
مؤتمرات وندوات عدّة تعقد سنوياً لدراسة واقع اللغة العربية في الجامعات وسبل النهوض بها وتحصينها أمام ما تتعرض له من غزو ثقافي وإعلامي يهدد كيانها ومستقبلها كما يزعم كثير من الدارسين الذين أدمنوا لعن الظلام وجلد الذات فحسب! مع أن لغتنا اليوم ــ على الرغم من كل ما يقال ــ تتجه بفضل ثورة الاتصالات والإعلام المرئي نحو تقارب لهجاتها، وتوحدها، وإثراء معجمها اللفظي والتعبيري والمصطلحي. فالخطر لا يتهدّد بنية اللغة ونظامها النحوي والصرفي بل حاضنها الأدبي: الشعري والنثري بأجناسه المتعدّدة، ومدى مجاراته لروح العصر، وقدرته على التجاوز والإبداع، وأساليب مقاربته ودراسته الفنيّة والنقدية، وقدرته على المثاقفة والحوار مع الآخر، ففي ذلك تكمن جذوة روحها وتألقها أو تراجعها وتخلفها.
من هنا تكتسب هذه الالتفاتة لمشكلات دراسة الأدب العربي في الجامعات أهميتها الاستثنائية في إثارة الحوار حولها بهدف معرفة مواضع الخلل والعطب اللذين يتسللان إلى جسد اللغة في أوسع ميدان تعليمي وثقافي يتواصل بها ويعبر عن هواجسه ونوازعه الوجدانية والفكرية من خلالها بمستوييها: التداولي والمعياري، وبوصفها أداة وصورة للفكر في آن معاً.
هنا تمكن الإشارة إلى ثلاث مشكلات رئيسة تواجه تدريس الأدب العربي في الجامعات السورية، تتعلق أولاها بمضمون المنهج الدراسي ومفرداته، والثانية تتعلق بآلية التدريس الجامعي، والثالثة ترتبط بالأهداف المتوخاة من دراسة الأدب العربي ومخرجاته.
لا تختلف الجامعات السورية في أشكال وأساليب تدريسها للأدب العربي عن الجامعات في البلدان العربية الأخرى من حيث الجوهر، وإن اختلفت عنها ببعض التفاصيل الصغيرة في هذا الجانب أو ذاك. فإذا كانت مناهج دراسة الأدب العربي تتوزع ما بين المنهج الفني التقليدي الذي يركّز على أغراض وفنون الشعر من مديح وهجاء وغزل وفخر ورثاء، وبعضها الآخر يأخذ بالمنهج النفسي الذي يرى في الإبداع انعكاساً لسيكولوجية المبدع، أو المنهج الاجتماعي الذي يربط بين نتاج الأديب ومجتمعه بوصفه انعكاساً له، فيدرس النصوص الأدبية عبر علاقتها بالقضايا الاجتماعية من فقر واستبداد وتخلف، فإن الجامعات السورية تركّز في تدريسها للأدب العربي على المنهج التاريخي من خلال تقسيمه إلى عصور تبدأ بالعصر الجاهلي في السنة الدراسية الأولى، مروراً بعصر صدر الإسلام، فالأموي في السنة الثانية، ثم العباسي، فالمملوكي في السنة الثالثة، وصولاً إلى العصر الحديث في السنة الرابعة. وهذا التقسيم العام تقسيم سياسي كما هو ملاحظ، يحمل طابع وأسماء الدول التي تتالت على سدة الحكم، وهو بذلك يقوم على اختيار واصطفاء نصوص لشعراء وكتاب مشهورين ممن عاصروا تلك الدول وحكامها، وجاروها أو مالأوها، ويقصي إلى حدٍّ كبير عددا من المبدعين المقليّن أو المغمورين الذين عارضوها أو لم يكونوا على هوى حكامها وساستها، سواء أكانوا من الخوارج أو المعتزلة أو المتصوفة أو سواهم!
ولعل التقسيم السياسي لعصور الأدب بات من مخلفات الماضي، وآن الأوان لنظرة جديدة في هذا التقسيم تقوم على رصد الاتجاهات الفنية، وتنبع من النصوص ذاتها وما تحيل عليه من قيم جمالية وفكرية وتجارب عاطفية وشعورية، فالفني لا يُفسّر بالسياسي أو الاجتماعي، إنما يستدل على السياسي والاجتماعي من خلال الفنيّ.
المشكلة الأبرز في هذا التقسيم تكمن في الاختيارات المتعلقة بالعصر الحديث نثراً وشعراً، فهناك تباين كبير في التركيز على جنس أدبي دون الآخر. ففي الوقت الذي يحتل فيه الشعر حيزاً كبيراً في المرحلة الجامعية الأولى وفي الدراسات العليا، فإن الاهتمام بالنصوص القصصية أو الروائية أو المسرحية يتراجع نسبياً. وغالباً ما تكون النصوص المختارة للدراسة من الشعر العمودي الذي يندرج تحت مسمى الكلاسيكية الجديدة، أو من شعر التفعيلة الذي يكاد ينحصر بالسيّاب، ونزار قباني، وصلاح عبد الصبور، في الوقت الذي تُهمل فيه تماماً تجربة قصيدة النثر وروادها بما في ذلك شعر الماغوط، وأنسي الحاج، وأدونيس، ويوسف الخال، على سبيل المثال لا الحصر!
وتترافق دراسة النقد الأدبي مع دراسة الأدب من خلال محورَين رئيسَين: الأول ينصبُّ على النقد القديم وارتباط نشأته وأحكامه الذوقية بالشعر، والثاني ينصب على النقد الجديد ممثلاً بالعقاد والمازني ونعيمة. وهنا يمكن تسجيل ملاحظتَين: الأولى: غياب النقد التطبيقي للنصوص الشعرية والنثرية إلا في حدود ضيقة. والثانية: غياب مناهج النقد الأدبي الحديث من بنيوية وأسلوبية وتفكيكية وجمالية إلا عبر اجتهادات فردية لبعض الأساتذة في هذه الجامعة أو تلك؛ مع أن مادتي الأدب المقارن والآداب الأوروبية تشكّلان رافداً مهماً في ثقافة الطالب واطلاعه على آداب الشعوب الأُخرى وصقل ذائقته؛ إلا أنه يمر بهما مروراً سريعا ومكثّفا في السنة الثالثة فقط! وبدلاً من دراسته لتاريخ الأدب العربي الذي يوسّع معرفته بهذا الأدب وتطوره وفنونه، فإنه يدرس تاريخ العرب السياسي والاجتماعي في العصر الجاهلي، وفي الإسلام!
آلية التدريس
دراسة الأدب العربي لا تتوقف على توفر منهج دراسي مهما كان غنيّا بمفرداته، فلا بد لهذا المنهج من آلية تدريس تقوم على الحوار والمشاركة والاستنتاج لا الإصغاء والقبول والتسليم. وبحكم سياسات التعليم الجامعي والعالي القائمة على اشتراط معدّل عام للقبول في الدراسات العليا بعيداً عن الرغبة الأصلية أو الموهبة؛ فإن أعداداً كبيرة من حملة الماجستير والدكتوراه يتعاملون مع التدريس بوصفه وظيفة لا غير، ما يحدّ من إمكانية تفاعلهم الخلاق مع الطلبة عبر الحوار وإثارة الأسئلة والبحث عن إجابات للقضايا الإشكالية المطروحة التي تنميّ الموهبة وتصقلها.
الأمر نفسه ينطبق على الطلاب الذين يدخلون هذا القسم أيضاً مرغمين بسبب معدّلهم من دون رغبة حقيقية به. يضاف إلى ذلك الأعداد الهائلة من الطلاب الذين تغص بهم المدرجات، ولا تتيح لكل من الأستاذ والطالب إمكانية الحوار وتبادل الآراء سواء في ما يخص دروس الأدب داخل القاعة؛ أو حتى في ما يتعلق بمناقشة حلقات البحث التي يكلف بها ولا تُعطى حقها من الوقت للمراجعة والتدقيق والحكم النقدي الموضوعي، لتبدو أقانيم التلقين والحفظ والتنميط التي تقتل الموهبة والإبداع سيدة الموقف!
إن دراسة الأدب العربي في الجامعات السورية تتطلب تخصيص مادة مفتوحة تشمل الشعر الحديث والرواية والقصة والنقد لتشكل زاداً معرفياً وجمالياً للطالب، ونافذة يطل منها على المشهد الأدبي، ويُناقَش فيها نهاية كل عام، لأن ما يدرسه من مواد لا علاقة لها بالأدب العربي الحديث وفنونه واتجاهاته إلا في الحدّ الأدنى. وقد كشفت اللقاءات والمسابقات المتلفزة جهلاً مطبقاً لدى أعداد كبيرة من متخرجي الأدب العربي بأسماء شعراء وكتّاب بلدهم المعاصرين!
غموض الهدف
تكشف القراءة المتأنية لمنهج دراسة الأدب العربي ومفرداته في الجامعات السورية عن غموض وتخبط واضحَين في تحديد الهدف من دراسة هذا الأدب! فهل يدرس الطالب ويكتب حلقات البحث ويشارك في «ورش الكتابة» لينمي ويصقل موهبته الأدبية؟ أم ليتخرّج معلماً للغة العربية في المدارس الثانوية؟ أم ليشحذ ذائقته ويكوّن عدة معرفية ونقدية ويصبح ناقداً للأدب أو لجنس منه كالرواية أو الشعر؟ أم ليجوّد صوته ويصبح مؤذّناً في أحد مساجد الله؟ أم ليتدرب على ترتيب حلقات بحوثه العجلى ويحجز مقعدا في أي وظيفة إدارية؟
ربما كانت كل الاحتمالات السابقة قائمة في أذهان الذين أدرجوا المواد الدراسية المطلوبة؛ والتي يتفاوت مقررها ومستواها وأسلوب تدريسها بين أستاذ وآخر بحسب الهدف الذي يرسمه كل منهم مسبقا للطالب الذي يدرّسه ويشرف عليه! وإلا ما معنى أن يدرس هذا الطالب المسكين كل عصور الأدب ولا يعرف شيئاً عن أدب عصره الحاضر، وأدباء بلده، حتى المشهورين منهم! وما معنى أن يُلزَم بمادة أصول التدريس وهو ليس طالباً في كلية التربية؟ وما معنى أن يدرس تاريخ العرب السياسي ولا يعرف شيئا عن تاريخ الأدب الذي يدرسه وصلته وتأثيره في آداب الشعوب المجاورة؟ وما معنى أن يدرس الصورة الفنية في القرآن الكريم ولا يحفظ إلا ما فيه من ترهيب ووعيد؟
ربما لم يكن واقع تدريس الأدب العربي في الجامعات العربية أفضل مما هو في سورية، ولكن عندما أسست جامعة دمشق للمرة الأولى في العام 1927، وكان فيها قسم لتدريس الأدب، لم يكن لدى بعض تلك الدول مدرسة واحدة على الأقل!
نذير جعفر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد