إيقاع الحياة في السيدة زينب

16-10-2006

إيقاع الحياة في السيدة زينب

لم يتخيل محمد يوماً أن حياته ستتبدل على هذا النحو الجذري، فالشاب العراقي الذي جاء الى دمشق مع والديه أحد الأسواق التي ينتشر فيها التجار العراقيون في دمشققبل أقل من عشر سنوات هرباً من بطش النظام العراقي السابق، أصبح لديه اليوم في السيدة زينب (7 كلم جنوب شرقي دمشق) محله الخاص، وتمتلك أسرته منزلاً يشكل ثروة في تلك المنطقة التي لا يقل ايجار الشقة فيها عن 2500 ليرة سورية في اليوم (الدولار يعادل 51 ليرة)، وهو مبلغ يعادل قيمة ايجار أفخم الشقق في أرقى أحياء دمشق كالمزة وأبو رمانة.

يجلس محمد أمام محله الصغير وسط سوق العراقيين المعروف في السيدة زينب متأملاً حركة البشر حتى ساعات متأخرة من الليل، الساحة الترابية الضخمة التي تطل عليها المحال من الجهات الأربعة كانت قبل سقوط بغداد في نيسان (أبريل) عام 2003 مزدهرة بالتجار العراقيين الذين يجلبون منتجات بلادهم الرخيصة الثمن كالجلود والتمور. اليوم اضمحلت تلك التجارة وتكاد تندثر لكن من دون أن ينعكس ذلك على أعداد العراقيين القادمين الى البلدة بغرض زيارة ضريح السيدة زينب حفيدة رسول الله (ص). ويؤكد محمد، المنزعج من الفوضى والازدحام أمام مكاتب السفريات المحيطة به، ازدياد عدد القادمين بإطراد حتى أصبح عدد القاطنين في حي العراقيين يزيد على 100 ألف نسمة.

زائر المنطقة يعتقد نفسه للوهلة الأولى في مدينة عراقية: لهجة البشر وسحناتهم والمطاعم المنتشرة لتقديم أنواع الأطعمة العراقية، فضلاً عن لباس النساء المتشح بالسواد. انها مجرد ملامح أولية للحضور العراقي الكبير في الحي، وتلك الأعداد الغفيرة من الزوار الى جانب أبناء جنسيات أخرى وبخاصة الإيرانية واللبنانية والبحرينية والباكستانية، أحدثت تحولاً اجتماعياً مهماً لدى أهالي المنطقة، فمع غياب أي نشاط زراعي أو صناعي إنتاجي مهم في البلدة التي يصل عدد سكانها الى 150 ألف نسمة بحسب رئيس البلدية عادل عنوز ونحو 300 ألف نسمة مع احتساب السكان في مخيم اللاجئين الفلسطينيين وتجمع النازحين الذين تخدمهم بلدية مفرق حجيرة، تحول كثيرون من الأهالي الى العمل في خدمة الزوار الذين يصل عددهم على مدار العام الى مليون نسمة، كما يقول عنوز. وحقق بعضهم مستويات دخل عالية جداً في تأجير الشقق أو التجارة داخل السوق الذي بات ينافس أسواق العاصمة.

وتشهد المنطقة المحيطة بالمقام ازدحاماً بشرياً كثيفاً ومتواصلاً يسببه الزوار والمصلون والحركة الكثيفة في الاسواق التي نمت وازدهرت بسرعة الى جوار المقام حتى وصلت الى تخوم المخيم لجهة الغرب، فيما تتواصل حركة البناء شرقاً بعدما امتدت لأكثر من كيلومتر من الابنية المتواصلة الى الشرق من المقام على اراض كانت حتى فترة قريبة زراعية. وتصطف الابنية الباهتة اللون جنباً الى جنب في الطرف الغربي للشارع الرئيسي الذي يشق البلدة من دمشق شمالاً الى القرى والبلدات المجاورة جنوباً... وعلى رغم المنظر البائس لتلك الابنية وغياب أي مظهر جمالي، فإنها تشكل مصدر الازدهار الاقتصادي على امتداد نحو 1.5 كيلومتر تقريباً من مدخل البلدة وحتى بناء البلدية جنوباً. ويغلب النشاط التجاري على جانب الطريق الغربي حيث الاسواق التي تفتح أبوابها طوال الليل) ومكاتب السفر وعيادات الأطباء. وتكتظ الجهة الشرقية والى القرب من المقام بالأبنية السكنية المخصصة لإيواء الضيوف مع تسجيل حركة عمران متواصلة في هذا المجال وبكل الاتجاهات.
تصل كلفة استثمار المحل في سوق «التين» المقابل للمقام الى نحو 300 ألف ليرة سورية خلال أشهر الصيف، ويزداد الرقم تبعاً لتأثيث المحل ومساحته وموقعه فيما تتراوح أجرة الشقة القريبة من المقام خلال الموسم ما بين 1500 و 2500 ليرة يومياً تبعاً للموقع والفرش، ولا يقل المبلغ كثيراً في الأشهر الاخرى إذ يندر أن تؤجر شقة بأقل من 1500 ليرة خارج أوقات الموسم كما يقول العاملون في المكاتب العقارية.

تلك الحركة المصنفة في إطار السياحة الدينية والتي تمارسها اعداد كبيرة من المتدينين الفقراء حققت طفرة لأهل البلدة الأصليين ولعدد قليل جداً من ابناء الأحياء المحيطة كالنازحين من الجولان القاطنين في الجزء الغربي الشمالي من البلدة المسماة «مفرق حجيرة» أو للفلسطينيين في مخيمهم. ولا يبعد المخيم في السيدة زينب أكثر من 400 متر عن الوسط التجاري إلا أن تلك المسافة كافية لجعل سكانه يبعدون مسافات كبيرة، بالمعنى الاقتصادي عن جيرانهم أهل البلدة الذين حققوا نجاحات مالية كبيرة جعلتهم مثار منافسة من وافدين اشتروا شققاً ومحلات.

ويضم المخيم بحسب إحصاءات تعود الى عام 1996 نحو 8 آلاف نسمة وهؤلاء ازدادوا كثيراً ليصلوا اليوم بحسب التقديرات الى نحو 12 ألف نسمة يعيشون في منازل بائسة لا تتوافر فيها أساسيات السكن الصحي والخدمات اللائقة.

ويظهر تردي الخدمات في المخيم واضحاً ومعلناً عن نفسه عبر حفرة الصرف الصحي التي تركها القائمون على مشروع إصلاح المجارير مفتوحة الى جوار محلات تبيع اللحوم والأغذية. ويقول بعض الأهالي إن الحفرة بقيت على حالها أكثر من شهر على مدخل الزقاق الضيق أصلاً بل أن بعضهم يبدي ارتياحه الى الاهتمام بمعالجة موضوع الصرف الصحي بعد سنين من المعاناة آملين أن ينتهي الامر قبل موسم الشتاء الذي بات على الأبواب، فيما يتحدث رجل مسن أنه يقضي جزءاً كبيراً من وقته خارج منزله كي لا تتلوث «جلابيته» بالنجاسة المنتشرة في الشارع ويضطر بالتالي الى الاستحمام قبل الصلاة.

معظم الاشخاص في المخيم متآلفين مع الوضع المزري، ويرى أبو ياسين (45 سنة) الموظف في إحدى الدوائر الرسمية أنه كان يرغب بترك المخيم وإنشاء منزل أوسع تدخله الشمس والهواء لكن الوضع المادي لا يسمح! ويضيف الرجل المعيل لأسرته المكونة من خمسة أشخاص أن الحل الاسهل كان البقاء مع الأهل كما فعل كثيرون مثله، فأقام شقة صغيرة لا تتجاوز الـ 70 متراً فوق منزل أهله إلا أن عدد أفراد أسرته أصبح أكبر بحيث بات المنزل لا يتسع بالفعل لهم.

المشهد في التجمع السكاني الموازي للمخيم أفضل حال نسبياً، فعلى رغم ضخامة عدد السكان في تجمع «مفرق حجيرة» للنازحين البالغ نحو 75 ألف نسمة، فإن الشوارع أكثر اتساعاً ولا توجد تلك المشاهد للصرف الصحي، وحتى مع الطابع المخالف للبناء فإنه أفضل أيضاً لجهة إتساعه وانتشار إنارة بسيطة فيه. لا شيء في التجمع على الإطلاق يدل على ترف أو ازدهار اقتصادي فباستثناء بعض السيارات الخاصة الحديثة أمام منازل قليلة يكرر الملمح العام نفسه كما في أي تجمع مخالف محيط بالعاصمة السورية. أبنية عشوائية متلاصقة وغياب لأي غطاء نباتي أو متنفس لعشرات الآلاف من السكان، وانتشار كثيف للعاطلين عن العمل في صفوفهم.

ويرى أبو سامر (48 سنة) إن قضية استفادة السكان الأصليين خصوصاً من السياحة الدينية كان صدفة بحتة، ويرى الرجل القاطن في تجمع النازحين وحقق نجاحاً تجارياً عبر تعاونه مع تجار أقمشة إيرانيين إن أحداً لم يكن يعرف بأن مقام السيدة زينب سيجذب هذه الأعداد الهائلة من السكان، ويضيف إن الجولانيين عندما نزحوا الى هنا بعد حرب حزيران ( يونيو) عام 1967 كانت المنطقة كلها مزارع وبساتين مزدهرة وكانت الأرض رخيصة الثمن جداً والأمر بقي كذلك حتى منتصف الثمانينات عندما التفت الإيرانيون الى أهمية المنطقة الدينية وبدأوا زيارتها بأعداد كبيرة جداً.

أبو سامر الذي حقق نجاحاً اقتصادياً معقولاً يشكل نموذجاً لعدد من أصدقائه وجيرانه في «مفرق حجيرة». إلا أن هؤلاء لا يشكلون قاعدة يمكن تعميمها في ظل اعتماد الآلاف على وظائفهم وأعمالهم في مؤسسات الدولة أو ورشات البناء والمصانع الخاصة بعد دوامهم الرسمي. ويرى المدرس حسين أنه لم يلق من السكن في السيدة زينب سوى الازدحام والتلوث والاكتظاظ البشري ليلاً ونهاراً وصيفاً وشتاء. ويضيف الشاب الذي يضطر للتدريس في أحد المعاهد الخاصة من أجل تحسين وضعه المعيشي أن أحداً لم يستفد من قدوم الزوار سوى القريبين من المقام وأصحاب المنازل ضمن الأسواق.

تلك الأوضاع البائسة لم تمنع كثيراً العائلات البعيدة عن المركز التجاري للسيدة زينب من محاولة دخول المنطقة التجارية، فيذكر أبو ياسين أنه تمكن في العام الماضي من الاستئثار بعائلة عراقية فقيرة أرادت استئجار منزل بسيط فكان أن حزمت أسرته أمتعتها وخرجت الى السطح لتقضي نحو شهر هناك واستأجرت العائلة العراقية المنزل مع فرشه المتواضع بنحو 20 ألف ليرة في الشهر. وآخرون من المخيم ومفرق حجيرة دخلوا التجارة من بابها الضيق عبر «بسطات» صغيرة تؤجرها البلدية لهم على الأرصفة أو افتراش الشوارع المحيطة بالمدارس محققين ربحاً معقولاً، كما يقول أحمد خصوصاً في أوقات الصيف حيث يأتي الزوار الخليجيين وهم «الادسم» بحسب وصفه.

إيقاع الحياة يدق سريعاً في السيدة زينب وكل واحد يضبط الوقت بحسب مخططه ومشاريعه، العراقي محمد ينظر الى تطوير عمله عبر الدخول الى مجال تأجير الشقق المفروشة الأكثر جدوى، وأبو سامر يفكر بشراء منزل للعائلة خارج السيدة زينب ليبعد أولاده عن أجوائها التي أضحت لا تطاق مع بقاء مشروعه التجاري فيها طبعاً، وفي الطرف المقابل يجري أبو ياسين معاملة قرض لشراء قطعة أرض صغيرة في منطقة مخالفات أخرى وإنما بعيدة عن السيدة زينب أملاً بأن يستطيع بناء منزل جديد، فيما يحذر احمد من آثار الفقر على الاجيال الصاعدة التي تغادر المدارس باكراً.

محمد الخضر

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...