أورهان باموك: الأدب جوهر العالم الأخلاقي
في مقابلة أجرتها معه مجلة «درشبيغل» الالمانية بعد تسلمه جائزة نوبل لهذا العام وبعد مجيئه الى المانيا، يتحدث الروائي التركي أورهان باموك عن دربه للوصول الى نيل نوبل، وعن خطر القوميين المتعصبين الأتراك، وعن مدينته اسطنبول، وعن إقامته في الولايات الأميركية المتحدة. في ما يلي، ترجمة المقابلة:
سيد باموك، في هذا الأسبوع ستأتي الى ألمانيا من أجل التعويض عن رحلة القراءة التي ألغيتها في شباط الماضي. لماذا ألغيت آنذاك كل مواعيدك؟
∎ كان اغتيال صديقي هرانت دينك صدمة كبيرة أصابتني. لقد أحبط هذا الاغتيال وبشكل عميق العديد من الأدباء والمثقفين. الأمر الذي أيقظ الخوف من أننا رجعنا الى فترة السبعينيات من تاريخ تركيا، والتي قتل فيها الكثير من الناس تحت وطأة الاغتيال السياسي. نتيجة لذلك، سافرت الى الولايات المتحدة لأربح مسافة تبعدني عن هذا الحدث التراجيدي.
رحيلك المفاجئ فسره الكثيرون بأنه هروب..
∎ لقد تعرضت لتهديدات. وكنت أثناء جولتي القرائية محط أسئلة كثيرة تسألني عن التهديدات بقتلي. وبذلك حصلت على اهتمام كبير لا أستحقه.
الأدباء الانتقاديون في تركيا أصبحوا يخافون على حياتهم. الى أي درجة تشعر بالتهديد؟
∎ نتيجة لنصائح أصدقائي ولنصائح النظام التركي، استخدمت حارسا أمنيا. من المزعج أن أُجبر على حياة كهذه.
هل كان إنتاجك الأدبي مزدهرا في الولايات المتحدة؟
∎ كانت إقاماتي المتكررة في الولايات المتحدة مثمرة منذ البداية. فهناك كتبت في الثمانينيات «الكتاب الأسود»، الذي حقق نجاحي الدولي الأول. هناك أصبحت جامعة كولومبيا النيويوركية، التي أجريت الآن عقد تدريس فيها، وطنا ثقافيا ثانيا لي، حيث أشعر بالراحة والانشراح. وايضا الآن أصبحت قادرا هناك على الكتابة بشكل جيد وإنهاء كتابي الجديد «متحف البراءة». إنه عمل محترم اشتغلت عليه مدة عشر سنوات. انه عمل يتناول التاريخ الذي تدور أحداثه في اسطنبول بين عام 1975 واليوم، معالجا مشكلة العاطفة الهوسية والسؤال الكبير: ما هو الحب حقا؟
خلال رحلتك القرائية، كنت تعرض فصولا من كتابك «اسطنبول» الذي هو صورة شخصية ـ بورتريه ـ لعاصمتك، والذي جرى تقييمه بشكل جيد لدى تسلمك جائزة نوبل.
∎ في هذا الكتاب أحكي عن طفولتي، وعن فترة ما بعد الكآبة العثمانية، حيث كانت تركيا، ثقافيا واقتصاديا، ما تزال بعيدة جدا عن أوروبا. في تلك الفترة، لم تكن اسطنبول قريبة من الحداثة التي كانت دائما تصبو اليها، ولكنها كانت واقفة فوق أنقاض الفخامة العثمانية المفقودة اليوم. كان المزاج السائد سابقا مزاجا كئيبا منقبضا، مزاج الحزن والعزلة، ليس فقط لدى الأفراد، بل لدى اسطنبول بأسرها. كان نوعا من استقالة جماعية تعانيها المدينة.
هل كتبت من خلال «اسطنبول» عن مشاعرك الحياتية الذاتية؟
∎عندما وصفت اسطنبول كنت أكتب عن نفسي ايضا. أثناء شبابي سيطرت المشهدية النفسية الداخلية الكئيبة على حياتي وجعلتني أسيرها كليا. يمكن أن يكون لتلك الكآبة علاقة بتاريخ عائلتي الذي هو تاريخ انهيار وتدهور مثلما هو الأمر مع توماس مان في روايته «بودن بروكس». عندما أبصرت النور، كنا نملك منزلا كبيرا في اسطنبول، ولكننا سرعان ما فقدنا أثاثه. بهذا المعنى يتداخل التاريخ الشخصي مع الحزن على فقدان الامتيازات العثمانية وثرواتها.
ينتهي كتابك «اسطنبول» بعام .1972 اليوم تعتبر اسطنبول المدينة الأحدث في العالم الاسلامي، هل هذه هي اسطنبول التي كنت تحلم بها، المنفتحة على العالم، والغربية؟
∎ اسطنبول الغربية التي يشاهدها الزوار، لا تشكل أكثر من عشرة بالمئة من المدينة وسكانها. صحيح ان اسطنبول تحولت الى مركز ثقافي وسياحي ومالي جذاب، ولكن هناك ايضا ملايين من ملامح الحزن، في هذا البحر الكبير من الهجرة والفقر والبؤس والغضب والصراعات. فمشاكل تركيا السياسية والاتنية تجتمع في اسطنبول. ولكن لحسن الحظ، لم تعد تحسم هذه الصراعات في هذه المدينة بشكل وحشي.
هذا ما تقوله، مع انه توجب عليك الوقوف في المحكمة بسبب ما كتبته عن مجازر الاتراك بحق الأرمن عام 1915؟
∎ ما زلنا نكافح من أجل الحصول على حرية الرأي الكاملة. ولكن ذلك لا يقارن بتركيا طفولتي، حيث لم يكن يسمح للمرء إلا بالهمس حول بعض القضايا. في تلك الفترة كان الأرمن والـــيونانيون يجـــبرون على إطاعة الاعلان القائل: «تكلم بالتركية أيها المواطن». أما اليوم فيمكن التكلم بانفتاح حول كل الأمور.
هل تشعــــر، مثلما يشعر بطـــلك «كا» في رواية «ثلج»، أنك ضحية من ضحايا السياســـة؟
∎ بالتأكيد هناك تشابهات بين «كا» وشخصيتي. ولكن «كا» نسخة بائسة عني. لقد جرب «كا» حظه بوصفه شاعرا، وكان مقموعا ومعلقا في بلاد الاغتراب في ألمانيا. أما أنا فحصلت على نجاح أكثر منه، فلا أحد يلاحقني في المنفى، وحتى القوميون المتعصبون لم ينجحوا في النيل مني، رغم كل الصعوبات التي أواجهها. ولكن في محاولات «كا» فهم الناس، في متطلباتهم الأخلاقية، وفي مخاوفهم وأمانيهم، وفي سذاجته وأيضا في عنفوان كبريائه، يبدو «كا» حينئذ قريبا جدا مني.
منذ محاكمتك بسبب موقفك من المسألة الأرمنية تجنبت الخوض في الكتابة السياسية. بينما في الماضي كنت تؤكد على أهمية الدور السياسي للكاتب.
∎ إنها مسألة فيها نظر: التحدث في السياسة وإغلاق الفم عندما يصبح الوضع مثيرا للغضب بسبب تطور سياسي ما. ولكن أنا أؤكد: يجب إزالة الرقابة. يجب على المرء أن يتحدث في كل المسائل. في السنتين الماضيتين كان هناك الكثير من السياسة في حياتي. وأنا أؤمن كثيرا بمسؤولية الكاتب الأخلاقية. ولكن أولا، على الكاتب أن يطيع الواجب الذي يفرض عليه كتابة كتب جيدة.
صفوان حيدر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد