أنسي الحاج: أجـــــــــــزاء
■ تلك الروح
لكلّ شعب روح يجسّدها زعيم. الشعب الهندي روحه السلام، جسّدها غاندي. الشعب الروسي الفقير ظلّ ناقماً على دولته حتّى استعار لينين تراكم النقمة وفجّره في الثورة الشيوعيّة. تعطُّش الجرمان إلى الصعود قطفه هتلر. العرب أمسوا على ذلّ هزيمتهم العسكريّة أمام إسرائيل، فجاء عبد الناصر ينتقم لهم سحابة لحظة من التاريخ. روح المقاومة الفرنسيّة ضدّ المحتل النازي ألهبت كبرياء المتمرّدين وظلّت تتوالى كموناً وظهوراً حتّى صَمّم ديغول وقادها إلى النصر. ما هي روح اللبنانيين؟
■ ■ ■
■ الصامت الأكبر
الرعب من الجبل (أو من برج إيفل مطفأ في الليل، أو من الأهرام معتمة وبلا صحبة، أو الحيطان الشاهقة في شوارع لندن الخالية) الرعب من الجبل عندما تُفاجأ بأنّك وحدك أمامه، أمامه بدءاً من الغروب، هو الرعب من احتمالاته ... قد يتحرّك، ينطق، يُفلت كائناً من جوفه. وقد يواصل تفرّسه فيك حتّى يبتعلك.
مَن أنتَ أيّها المتحرّك أمام الجماد من أصغره إلى أضخمه؟
ليس الجماد جامداً إلّا لمَن لا يراه.
■ ■ ■
■ شعرٌ، عري
يربكني حَرَجٌ شديد لدى مطالعة الشعر.
المقال، النقد، القصّة، أرْيَح. نائية تتيح التنفُّس بلا ضغط. هامشها فسيح. الشعر خانق ولو حَرَّر. يريدك ما قد تعافه أنانيتك، يريدك كاهناً لاعترافه، وسيطاً لحاجته، حائطاً لدموعه، مرآةً لخلاعته، مسؤولاً عن عذاباته.
أتوجَّسُ دائماً أمام الشعر. لا يقيم تلك الكلفة الدافئة، الباردة، الضامنة للاسترخاء. وإذا أقام تلك الكلفة فأكبر الظنّ أنّه سيقيمها حتّى الانغلاق.
شعرٌ واحد لا يُغيّم على الصدر كالكابوس ولا يُدبّق ولا يُنقِص قارئه هو الشعر الصاعق. أبياتٌ للجاهليّين والمتنبّي. بودلير. هوغو. رمبو. سطورٌ خلّابة لبول إيلوار، لبروتون، لأراغون. كلّ بودلير. صَعْق انفجار البديهة، صعق تياراتِ أضواءٍ كانت هائمة شاردة في الزمن بانتظار مَن يلقي يده عليها. صَعْق ثلاث أربع كلمات ما كانت لتلتقي، ما كانت شمسها لتشرق لولا الليل الذي تَطَوَّع لأن يكون قربانها.
لا يُقرأ بلذّة إلّا الشعر الصاعق، كما لا يغمر الحواس إلّا عريُ جسدٍ يُعمي.
■ ■ ■
■ أمّ كلثوم
بين أوركسترا لولا تدفّق الألحان من آلاتها لظننتها مومياءات، وجمهورٌ صاخب التجاوب يتصنّع انفعالات دهمائيّة جوهرُها الغبار ولا أثر فيها لشفافيّة، وقفتْ أمّ كلثوم تغنّي وتختلج وتأسر شيئاً غير مرئيّ وآذاناً مجهولة لرؤوسٍ مُتخيَّلة لا علاقة بينها وبين هؤلاء الزاعقين إلّا في أوهام المطربة.
أمام تختٍ شرقيّ محترف أوتوماتيكيّاً يعزف وهو شبه نائم لحناً ساحراً كما يشنق الجلّاد البارد محكوماً بريئاً، وجمهور متوحّش يصيح ويمزّق ثيابه تمزيقاً مستعاراً بدل أن يكتفي بتمزّق القلب، ما أفظع وحشة الفنّان. تلك لحظة فريدة يلتقطها المُشاهد من حفلة مسجَّلة.
أشفقتُ على مطربة دوّخت الملايين. كنت ولا أزال غير محبّ لصوتها ولا لما يرمز إليه تراثها، ولي كتابات عدائيّة في هذا الصدد كادت تتسبّب بقتلي على يد أحد زملائي في «النهار».
أشفقتُ على «كوكب الشرق» وأحببتُها تلك اللحظة حبّ الشاهد العاجز على غربة العَظَمة.
■ ■ ■
■ تساؤل
ينشغل العقائدي بفكرة هي لسواه. ينسكن بغريب.
مُدارٌ من حيث لا يُرى المدير، بل يبدو هذا كأنّه نسيجُ الذات، وما هو من الذات إلّا كما هو الزَّبَد من الموج.
الفرق بين الريح المسيّرة للموج والعقيدة، أنّ العقيدة أسْرٌ والريح إطلاق.
تساؤلٌ لتخفيف الحكم:
هل للإنسان خيارٌ حرّ (حرّ فعلاً) بين الانسكان والانطلاق؟ أم يولد إمّا وعاءً لهذا وإمّا قناعاً لذاك؟
■ ■ ■
■ خطأ
محكومٌ بالإعدام أُفرج عنه بعد سبعة أعوام سجناً لأنّه تبيّن للقاضي أنّه بريء.
محكومون كثر في السجون وفي القبور لا يتبيّن للقضاة أنّهم أبرياء.
طبيعي.
وأبرياء أكثر، قلّما يكتشف قضاء أو صحافة أو جيران أنّهم مذنبون ...
الخطأ بحقّ البريء يُدوّي لأنّ الكلّ يعتبر نفسه بريئاً ومظلوماً أو مرشّحاً للانظلام.
الخطأ الذي نكتشف أنّه كان يُرينا الكاذب صادقاً والفاسد طاهراً والجلّاد ضحيّة، خطأ لا يُدوّي، لأنّ الكلّ يرغب لو تَمكّن من خداع محيطه، ولأنّ لا أحد يحبّ الاعتراف بأنّه خُدِع، ولأنّنا نرسف في أغلال الشعور بالنقص أمام خادعينا.
■ ■ ■
■ عيون غائمة
الآلهة تكنولوجيا الأزمنة المجهولة. إنّها العدوّ الذي نحتاج إليه لنقاوم، والصديق الذي نحتاج إليه لنلقي السلاح.
الآلهة مُرْتَسَمٌ لتوقنا إلى التوازن وإلى الاختلال وإلى ما نحلم بأن يكون مختبئاً خَلْفَهما، هنالك حيث يكون في انتظارنا أحد حين لا يعود أحد في انتظارنا.
الآلهة مقذوفاتُ الخيال في أطهر طفولاته، والأساطير حكاياتهم كما هو الحطب وقود النار.
الروح، روحنا المسكينة العظيمة، تُنجب أطيافها، والأطياف عيون الحبّ الغائمة.
■ ■ ■
■... أنبلُ من الآلهة
غنّى أورفيوس على قيثاره في الجحيم حتّى رقّ قلب الجحيم فأعيدت له زوجته أوريديس: «أسال غناؤه دموع الحديد على خدّي بلوتون وأعطت الجحيم ما ترجّاه الحبّ».
وما إن خالف الأوامر الجهنميّة والتفت شوقاً إلى الوراء لينظر إلى حبيبته وهما متوجّهان إلى الخلاص، حتّى أعيدت أوريديس إلى الموت.
لم يشفع الصوت للنظر.
البشر أنبل من الآلهة: الصوت يشفع عندهم لجميع الحواس، وقد عبدوه وسمّوه الله، مكتفين بهديره عبر الغمام أو الأحلام أو العوسجة الملتهبة.
عابــــــرات
الأصعبُ هو توافر الأوّل.
الأوّل هو الأهمّ.
الثاني سرّاق.
الثالث مقلّد.
الرابع كريه.
... ومن أوّل وجديد.
■ ■ ■
السعادة قلبها حجر مزدانٌ عند الفجر بالندى ... الندى الذي نحسبه مَحبَّة.
■ ■ ■
في السينما تتولّى الطبيعة (بحر، جبل، طيور، إلخ) الانتقال بالكئيب إلى جوّ ألطفْ.
ولكن ... أين هي الطبيعة؟
■ ■ ■
إذا عبثتَ بذكرياتك جازفتَ بمَن، في ذكرياته، ربّما يضعك في مرتبةٍ رفيعة.
■ ■ ■
... الصلاةُ من أجل خصم كي لا يُنتَقَم منه، حتّى لو كان عارفاً ما يفعل.
■ ■ ■
إن كانت لكَ الحكمة ولم يكن لك الحبّ، فأنت قويّ يعرف قوّته ولا يعرف ضعفه.
■ ■ ■
قل وداعاً لكلّ جمالٍ عَرَفْتَه، ربّما إذا صادفك في المستقبل لن تذكر أنّك عرفته، فتكتشفه من جديد ...
أنسي الحاج
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد