أرامل على البسكليت من عالم الجبر الى عالم المخيلة
لا يمكن لمخرج مثل جواد الأسدي ان يرضى عن حلوله الاخراجية المجربة، بل تراه متجدداً في معالجاته الاخراجية، وباحثاً عن مداخل تأويلية غامضة مثل الأحلام.
في عرض (أرامل على البسكليت) يحفر في عوالم »لوركا« ونسنوته ولكن بتحويل الاتجاه، وإلغاء مرجعية النص الاولي، ليكتب علامات جديدة لمدونة كتابية مغايرة، ولولا نساء الساكسفون لأمحت بالكامل فضاءات برنارد ألبا، لكنها أوصلت الخطاب الى مدى معلوم، فنحن نجد الوظيفة نفسها، في طغيان الأم وهي تخنق حرية بناتها بجدران »الجيتو« المنزلي.
وهي بدلاً من ان تكون أماً، باتت الخالة، لكنها لا تصدر عن أم طاغية وحديدية، بل عن خالة (مثلتها الفنانة كارول عبود) تلمس فيها الصرامة، وتستشعر الحرص ايضاً، لأنها امرأة أخذت مكان اختها ماري روز الممثلة، صعبة المراس، التي توفيت لتترك بعهدتها أمها، وابنتها ماريا (مثلتها الفنانة نادين جمعة) اما شخصية الجدة فقد مثلها الفنان (نضال سيجري).
في المشهد الاستهلالي تخرج هاتيك النسوة وهن يقدن دراجات هوائية، بحركات لولبية، وبملابس شفافة صممت بطريقة جذابة، متجانسة ألوانها الحارة والباردة مع فضاء الاضاءة، وفيها لمسات انثوية تواصل بث أمواجها الى المتلقي برهافة وجمال.
انطلق المخرج من اسس نظرية في خطته الاخراجية، مفتوحة في اقتراحها لخصائص العرض. فلا ترى بيتا، بل خشبة مسرح مفتوحة، مقفلة في خلفيتها حيث البوابات المنزلقة والحمام والأفق، وفي المقدمة طاولة سوداء تمتد بطولها المستعرض أمام الجمهور، وتصبح بالتالي منصة متحركة، يحركها الممثلون لتكون رأسية ـ ايضاً ـ ويلعب الجميع فوقها، مشاهدهم التي اصطبغت بالإيروتيكية الصريحة، والمباشرة. الفتاة ماريا، بجسدها الأهيف، ووجهها الموشوم بقناع زاهي الألوان، وتمتد الزخارف اللونية حتى العنق وما تحته، وكأنك ترى الى فراشة بشرية، تجتاحها حرائق روحها الميهضة، ليتناوب عليها الطبيب النفسي، ليعالج كدماتها غير المرئية، والفنان الذي يرسم جسدها الخارجي، ويذهب الى غفوته الأبدية، ليترك معها الاغصان اليابسة التي تتفتت متساقطة وكأن سيقانها الملتاعة، تذروها برياح الكبت والحرمان والقهر.
تصنع الممثلة نادين اطارا مرئيا، بأنساق متغيرة مع الممثلة كارول، اذ تتنوع اشكال العلاقة، وتتداخل لتصل الى صنع معاني جديدة تضفي على تقنية العرض ألقاً خاصاً، لا سيما بحضورالممثل نضال، الذي يعيد تشكيل اللعبة بقواعد مبتكرة من التنكر، رجل يمثل امرأة عجوزاً متصابية، وصائدة رجال أرامل!! لمسة من رقة الأداء، وأنثويتها، يتسامى فيها بموهبته التمثيلية، فيضع امام المتلقي كينونتين اثنتين، امرأة عجوز تتصابى، ورجل يحجب فحولته ويختلق انثى تسعى من أعماقه، بفضائحها الفكهة، لكنها مأساوية بأثرها، ووقعها، فالموت يترصد أمانيها، ويحوك أحابيله لاستدراجها الى مصيرها العدمي. صيغت المشاهد تارة بتعددية صوتية وتارة أخرى بانفرادية، تأخذ بزمامها الفتاتان كتب الحوار بتداخل الملفوظ الادبي مع النسق الدرامي على شكل تراكيب وايقاعات شعرية، موحية، ولم يبق على ماهيات الافكار التجريدية في النص، بل اسند لها وظائف من كلام تداولي، وأفعال فيزيائية ملموسة، لكل شخصية على حدة، وهذا بالطبع ما تقتضيه فاعلية التمسرح theatricality ليعزز من القوة البصرية والسمعية التي تشد المشهد المسرحي وعناصره بإطار واحد مشترك مع الجمهور.
وليترك لهذا الجمهور فسحة تخيلية، تقوم على فعل اختياري لتأويل سياق الموضوع الخاص بالنسوة الشقيات، واللواتي يحلمن بمعجزة الرجل الذي جف ينبوعه في أكوانهن الحسيرة، والغرش الى نثيث مطر الفحولة.
أداء متماسك
كائنات برسم الانتظار، يلذن بأجسادهن، يتمردن على السكون او ينكفئن في غرفهن خائفات من غدر الشارع، وقسوة الحياة.
كل ممثل وممثلة في هذا العرض أصاب هدف شخصيته بطريقة أدائية متماسكة، فأنت ترى امامك ممثلاً محترفاً، ماهراً، عارفاً بأسرار مهنته مبهرا في ملبسه وباروكاته وبوضعياته الجسدية، وإيماءاته ووقفاته وحركاته التكوينية، وتنغيمات صوته، وتعبيرات وجهه، كلها تندغم بجسد، شكل مادة إبداعية، تنساب منها بموسيقية، مشاعر الدور وعواطفه، وهي مقرونة بأفعال درامية مرئية ومسموعة ومحسوسة على الخشبة وإن كنت تحسبها طيفاً، او هالة من ضوء، او أفكاراً، واشراقات روح. هذه الصورة المسرحية ركبت من نفوس الممثلات ومن أجسادهن وتحركت بقوة دفع داخلية، قادها المخرج الى ما يقلقه هو شخصياً، كما يقلقنا نحن المشاهدين، هو السؤال امام الموت والتفكير بالعدم، وهو يتربص بنا، ويدركنا، في لحظة ثقيلة وقاسية. هنا تنبع روح تراجيديا هذا العرض الذي انفتح على الكوميديا، بإشراقة الممثلات وكذلك الممثل الذي برز ثقله الإبداعي ليصنع دوراً مرتجلاً، وهو يخون نصه الذكوري! وسبب آخر يعضد من منجزه الأدائي، انه ابتكر ـ ايضا ـ اطارا اسلوبيا وفنيا ولم يلتصق مثلا، بالغرائزية الصريحة في الحياة اليومية، بل اعادة صنع سياقها في فضاء فني متكامل.
اللحن والموسيقى التي وظفها رعد خلف، عمقت بدورها من الاسلوب الجمالي للمخرج الاسدي، باحتدامها، ومباغتتها للقاعة، وانتقالها من الضربات والايقاعات الصاخبة، الى اليوم الميلودي الرقيق الذي تعادل وكفة الرقة الانثوية، وزخارفها المرهفة وهي تنوء تحت ضغط القبح الاجتماعي، والتقاليد العقيمة، التي تخنق الحياة، بحثا عن فضيلة مزعومة، وشرف لا محل له في هذا السياق. حقق العرض أهدافه الاجتماعية بأسلوب جمالي، عرف به المخرج جواد الاسدي، بعيدا عن الايديولوجيات وحققت الممثلة نادين مساحة مرئية لدورها المتألق بروح متدفقة. وتكامل هذا الأداء مع الشطر الانثوي الثاني كارولين وهي من فرط عذوبتها خلقت شخصية محبوبة وخفيفة الظل رغم ما يتطلبه الدور من تسلط ثقيل الوطأة. وسبب هذا الظفر بروح العرض المشرقة، هو إجادة تداول المعنى الجمالي، بتقنيات أداء الممثل، بوصفه العنصر المركزي للعرض، حين ميز حب الجمهور لفنية الممثل ومهاراته من شجبه للدور الشرير او السلبي الذي يلعبه الممثل، ويوصل دلالاته.
طرس كتابي ابدع فيه الاسدي، بحفرياته بزوايا النص، ومداخل العرض، لعله يأتينا بجديد آخر وهو يتفرس بالايدلوجيا نفسها، ولكن لا لكي يعيد انتاجها سافرة، بل لكي يحولها من نسق يقع خارج حضارة المسرح، الى كون جمالي، يدور في مجراته الفنية بحرية واختيار مسؤول، ينتقل فيه من عالم الجبر الى عالم المخيلة المفتوحة، والفرادة الابداعية، كما فعل في عرضه الجميل هذا.
عقيل مهدي يوسف
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد