أدونيس: "ضفاف"
يتأسّس شكلٌ جديدٌ للاستعمار :
الغربُ السّياسيّ، الأميركيّ - الأوروبيّ، يبتكر لجيشه جيشاً آخر: «هامشاً» حيناً، «طليعةً» حيناً. يختار أفرادَه من الشّعوب «الصّديقة». جيشٌ عابرٌ للقارات. يقيم هؤلاء الأفراد حيث هم - في قراهم، ومدنهم.
جاهزون، كلٌّ في مكانه، لسماع ساعة الصّفر! جيشٌ طَيِّعٌ، مُدرَّب، وفيٌّ.
- 2 -
ساوى الأمبراطور كاراكَلاّ في المواطنيّة بين سكّان روما وسكّان البلدان التي استعمرها. وقبله الإسكندر المقدونيّ: كان يشجّع جنوده للزّواج من نساء البلدان التي يفتحها لإنشاء علاقات وقراباتٍ جديدة بين الشّعوب.
وها هو الغرب الأميركيّ - الأوروبيّ المتمدّن يمنع الهجرة: يسجن الآخرين في أرضهم، ويجبرهم على البقاء فيها جنوداً يدافعون عنه ويحرسون مصالحه.
أهذه هي «الظّاهرة» التي يشير إليها المفكّر الفرنسيّ إدغار موران، موصولةً بالظاهرة - الأمّ التي يُطلَق عليها اسم «البربريّة الجديدة»؟
هذا ما يمكن أن نفهمه، في كتابه: «أوروبا ذاتُ الوجهيْن: الإنسانيّة، والبربريّة» (منشورات لوميو، باريس 2015).
وفي رأيه أنّ «البربريّة ليست مجرّد عنصرٍ يرافق أو يُلازِمُ الحضارة، وإنّما هي جزءٌ عضويٌّ فيها. فالحضارة تُنتِج البربريّة، خصوصاً بالغَزْو والهيمنة» (ص 12).
ويشير إلى أنّ الغربَ الأميركيّ - الأوروبيّ «يُعَوْلِمُ البربريّة، كما يُعَوْلِم لغاتِه وأسلحتَه وتقنياته».
هل يعني ما يقوله إدغار موران، هذا المفكّر المُضيء، أنّ العالم اثنان: صيّادٌ وطريدةٌ، مفتَرِسٌ وفريسة؟ وهل يعني ذلك أنّ الماضي لا يمضي، وأنّه حاضرٌ أبداً، تصديقاً لما يقوله الفيلسوف الإيطالي، بينيدتّو كروتشه: «التاريخ معاصِرٌ دائماً»؟
السّؤال الأكثر أهمّيةً اليوم، والأكثر إلحاحاً هو:
هل مجيء دونالد ترامب إلى الرّئاسة الأميركية سيكون خطوة متقدّمة في ممارسة البربرية الجديدة، أم خطوة في طريق إنهائها؟
- 3 -
زمنٌ - أنظروا إليه، كيف يحفر خنادقَه - لا بالفؤوس، بل بالعظام والرّؤوس
في الوقت نفسه، يخاف المفكّر الفرنسيّ روجيه - بول دروا من «انقراض» فرنسا، وأوروبا، بعامّة، تحت وطأة الضربات الإرهابيّة التي تقوم بها بعض التنظيمات الجهاديّة، باسم الإسلام. (مجلة لوبوان Le Point 4 آب - أغسطس، 2016).
ويتابع قائلاً: «بقدر ما يزداد عدد الضحايا، يزداد العجز والهشاشة في حضارتنا». هكذا يتزايد الخوف من رؤية هذه الحضارة سائرةً إلى الزّوال. إضافةً إلى أنّ «الفوضى والتمزّقات تملأ المخيِّلة الاجتماعيّة». (المصدر نفسه).
- 4 -
«هل يمكن أن ندرس علميّاً انهيار المجتمعات؟» سؤالٌ يطرحه المؤرّخ الأميركيّ جاريد دياموند Jared Diamond وهو أستاذ الجغرافيا في جامعة كاليفورنيا.
ويجيب أنّ هناك خمسة عوامل وراء هذا الانهيار:
1 - العامل الذّاتيّ،
2 - عامل تغيّر المناخ،
3 - عامل الجوار العدوانيّ الذي يزعزع الاستقرار،
4 - عامل التّبعيّة الاقتصاديّة،
5 - عامل الأجــوبة الخاطئة في وجه التّهديدات والفوضى التي تشكّلها العوامل الأربعة السابقة. فالقرارات التي تتخذها المجتمعات للردّ على هذه التّحدّيات هي التي تقرّر نجاتها أو موتها.
- 5 -
كيف يمكن أن يكمن مصير الإنسان في كلمة واحدة، في عبارة واحدة؟
كم هي اللغة خفيفةٌ في الرّأس، وعلى اللسان!
كم هي ثقيلةٌ في التّاريخ، وعلى الأرض!
- 6 -
للتّاريخ، هو أيضاً عثُّه الخاصّ.
هُوَذا يوزِّع بيوضه، في العالم كلّه، على أعشاش الحاضر.
بأيّة لغةٍ يمكن أن نتحدّث عن هذه البيوض وبأيّ صوت؟
- 7 -
الثورات في عالم اليوم،
سيرٌ هائمٌ ضدّ التاريخ.
إنّها صرخة آمِرةٌ: توقَّفْ أيّها الزّمن.
إنّها عالمٌ يقبع وراء العالم.
- 8 -
الأحلامُ نفسُها نسيَتْ أهدابَنا
نحن الذين نتسكّع حول الضِّفاف الشرقيّة
من البحر المتوسِّط الذي تلتهمه ضفافُه الغربيّة.
- 9 -
صرتُ أصدّق بالخبرةِ
أنّ الوطن ليس المكان الذي يقيم الإنسانُ فيه
بل المكان الذي يقيم هو في الإنسان.
- 10 -
« كونُ العدم أو الموت مستقبل الإنسان،
أمرٌ يدفعه لكي ينظر إليه بوصفه ماضياً.
ما العِلّة، إذاً، في النّظر إلى الموت على أنّه وراء الإنسان، وليس أمامه». سؤالٌ طرحه عليَّ صديقٌ مؤمنٌ في رسالةٍ أخيرة.
- 11 -
يبدو أنّ لدى الإنسان في العالم الحديث، حنيناً إلى التّبعيّة التي كانت قائمة في المجتمَعات القديمة. غير أنّه حنينٌ يتجلّى في أشكالٍ جديدة. يحبّ مثلاً أن تستخدمه الآلة، اليوم، أكثر ممّا يستخدمها. يُسَرُّ كثيراً أن يقال عنه إنّه يتابع وسائل الإعلام، بخاصّةٍ الإلكترونيّة، وأن يردّد ما تقوله هذه الوسائل من دون أيّ تمحيص أو تدقيق، يقيناً منه أنّ في متابعة هذه الوسائل دليلاً على أهمّيته وعلى حضوره السياسيّ والثّقافيّ.
تبعيّةُ لذّةٍ واستمتاع.
- 12 -
ماضياً كان «العبيد» (المُضطهَدون، الجائعون، المنبوذون) هم الذين يقومون بالثّورات. وكانوا مستقلّين تماماً.
اليوم يقوم بها، في الأغلب، المرتزقة، والقَتَلَة. وهم «تابعون» كلّيّاً.
هل تغيّر الإنسان، أم أنّ مفهوم الثورة هو الذي تغيّر؟
- 13 -
الكلمات هي أيضاً تتعثّر وتضلّ طريقها.
- 14 -
أعرف أشخاصاً لا يعرفون الشّيخوخة حتّى وهم يعيشون فيها.
يموتون نائمين كأنّهم ينتقلون من حلم إلى حلم.
- 15 -
هُوَذا يتّجه نحو السّرير الذي وُلدَ فيه، لكي ينامَ نومَه الأخير.
مات واضِعاً رأسَه على الصّفحة الأولى
من دفتر مذكّراته.
- 16 -
- ما الفقر؟
- هو المال الذي يتبدّد على الطّريق، طريقه،
قبل أن يصل إلى الفقراء.
ألهذا قلتَ مرّةً:
الجسدُ يتَّجِه دائماً
إلى اللقاء بما لا يصِل إليه أبداً؟
- 17 -
الضّوءُ يُنتِج الضّوء،
وهو نفسُه يُنتِج الظلّ.
إضافةً إلى أنّه يفرض علينا أن نطرحَ هذا السّؤال:
هل الضّوءُ يُضيء نفسَه؟ وكيف؟
- 18 -
المعرفةُ توسِّع حدودَ ما نعرفُه،
غير أنّها توسِّع كذلك حدودَ ما نجهلُه.
- 19 -
الأسود هو بين الألوان، الأكثر ولَعاً بتصوير الإنسان،
والأحمر هو الأكثر ولعاً بتصوير تاريخه.
- 20 -
الشّمسُ نفسُها لا تقدر أن تضع قدميها
في ظلمات قبرك، يا طفلَ الشّمس.
- 21 -
رَبَّيتُ أحلاماً كثيرةً
بعضُها أعلَنَ عليّ العصيانَ وتخلّى عنّي.
بعضُها لا يزال يُشاكسُني.
أكتشف الآن بينها حلماً يعلِّم الليل كيف يثمل بنجومه:
يعصرها في كأسٍ لُغويّةٍ
مازجاً إيّاها بأشياء لا يسمّيها.
- 22 -
هل للنّهار قدمان؟
ربّما. أحياناً أصدِّق ذلك،
لغايةٍ ليست في نفسي، بل «في نفس يعقوب».
أيُّ يعقوب؟
أدونيس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد