أدونيس: سوق الظلام، سوق الضوء

05-03-2009

أدونيس: سوق الظلام، سوق الضوء

(زيارة الى عُمان)

- 1 –

سابقاً، سُمّيت «سوق الظلام»،

لاحقاً، غلَب عليها اسم «سوق مطرح».

لماذا، لا تُسمّى، الآن، «سوق الضوء»؟

خصوصاً أنّ للشمس فيها كُرْسيّاً عالياً:

بعضُ قوائمه في المرفأ، تُحيط بها تقاليد البحر،

وبعضها في حركة العمل تحيط بها تقاليدُ النهار والليل.

سوقٌ – حقلٌ للتاريخ:

تتعايشُ المذاهب، القيمُ، الصناعات.

وتتعانقُ أنحاءُ الأرض.

يُمكن أن تُعطى لهذه السوق أسماءُ أخرى كثيرة «لا شرقيةٌ ولا غربية»: سوق المعنى. سوق الصور. سوق الحكمة. سوق الصداقات.

لا تَنْسَ، إذاً، أن تَسْتَحْضِرَ في هذه التسميات ما يقوله أبو حيّان التوحيدي:

«الصديقُ آخرُ هو أنت».

تَهيّأْ، إذاً، لكي تُتقِن أسلوب المَوْج، ولكي تغطّ ريشة الكتابة في رحيق الفضاء.

- 2 –

الفضاء الذي تيسّر لي أن أتحرك فيه، ناحِلٌ وضيّقٌ، قياساً الى فضاء عُمان.

فضاءٌ – سديمُ انفعالات وحواس. لا نقتربُ فيه الى الحقيقة إلا بشكلٍ مائل. أعني على نحوٍ غير مباشر: نتَلمَّس، نتأكد بقدْر ما نُمارسُ اللغة المجازية. المجازُ هنا طريقٌ ملكيةٌ لمعرفة الحقيقة.

فضاءٌ – أعمالٌ فنيةٌ لا تكتمل: لا يكمن معناها في المادة التي تُكَوّنها، بل في حركية التكوّن.

ما تكون الألوان، إذاً؟ وما «الشيء» الذي يُرسَم في الشيء؟ أيجيء من «الدوافع»، أم يجيء من «الغابات»؟ أهو سفرٌ، أم وصول؟

(استطراداً، أيتها الرسامة الجميلة: هل المسألة في الفن أن ينتج الفنان ما يراه، باعثاً فينا الشعور بأن العالم يتجمّع حولنا، وأننا نجاوره؟ أم أن المسألة، على العكس، هي أن يُنتج باعثاً فينا الشعور بأن العالم يتولّد، ويتحرك، ويتغير حولنا وفينا؟).

- 3 –

شجرةٌ في الشارع (أهي سِدرةٌ أم غافةٌ؟)،

تَسهر على ظلها، تكاد أن تبكي من الوحدة.

- 4 –

جبالٌ سودٌ: شهيقُ الفضاء وزفيره.

وفي كل مُفتَرق أسمع صلاة الصحراء.

- 5 –

أمشي: خُطواتي أسئلةٌ يَلتهم بعضُها بعضاً.

- 6 –

المساء يَضَعُ عُكازه على العتبة.

تهيّأْ لكي ترى كيف يثأر العمر للماء من الشمس،

تهيّأ لكي ترى كيف يغار النهار من الليل.

- 7 –

قلتُ في حديث خاص لصديق عُماني يُعنى بالسياسة:

- هناك التباسٌ هائلٌ في سوق اللغة السياسية العربية. ألا تعتقد، في ضوء هذا الالتباس، أن العرب، اليوم – سياسياً على الأقل، في حاجة كيانية الى مُستقبل ليس له ماضٍ؟

فُوجئ. لكنه قال:

- لا بُد من أن نبتكر لغة سياسية تقوم على توازن المجتمع، لكي نعرف كيف نُسيطر على هذه اللغة الشائعة التي تقوم على توازن المصالح، وكيف نوجهها، لكي نتخطاها ونتخلّص منها.

- لغة تكون لها أجنحة، ويكون لها فضاء.

- دون ذلك، سيظل كل بلد عربي يعيش ويفكّر كأنه مُجرّد وظيفة في سوق التاريخ.

- أو مجرد وظيفة في ديوان السماء.

- هل تحدثت مرة مع متدين أصولي؟

- نعم. ليس في عُمان، بل في بلدٍ عربي آخر. وكان النقاش يدور حول علاقة الإسلام بالفن والأدب. أذكر أنني سألته: هل تدرك المأزق الديني الذي يكمن، مثلاً، في عبارة «فَنّ إسلامي»؟

فقال مستغرباً: مأزق؟ ما هو؟

قلتُ: إنها عبارة تضطرك، مبدئياً ومنطقياً، وانسجاماً مع مقتضياتها، الى استخدام عبارات أخرى، مثل: «رقص إسلامي»، و «غناء إسلامي»، و «موسيقى إسلامية»، وإلى استخدام عباراتٍ مماثلة في ميادين العلوم، مثل: «فيزياء إسلامية» و «كيمياء إسلامية»، و «علم تشريح إسلامي»... الخ.

هل هذا ممكن؟ وكيف نحدّد آنذاك الخصوصية الإسلامية في هذه الفنون وهذه العلوم؟

فجأة، رأيته يضطرب، وينهض غاضباً، ويغادر الجلسة.

- 8 –

فندق تشيدي: عندما دخلته، شعرتُ أن في اللغة العربية أكثر من كلمة، إذا لُفِظَت قُرب نخلة تحوّلت النخلة الى يمامة أو الى موجة.

وشعرت أن الأفق حوله يَخيط جِلبابه بإبَر النخيل.

صَمْتٌ هو نفسه صوتُ اللغة.

والجَسَدُ، ذكراً وأُنثى، مأخوذٌ بالخروج من شبكة اليقين.

- 9 -

- سأُخبر المتنبي في وقتٍ آخر أنني اهتديتُ به، وضربتُ موعداً باسمه مع مليكة سبأ.

قولوا، إذاً، للقمر ألاّ يخرج هذه الليلة من بيته.

وقولوا لكل شيخةٍ أن تمزج صلواتها الصباحية بفُتات خبز طيّب، وأن تنثرها طعاماً لطيور الصباح، طيور الدوري، خصوصاً.

- 10 –

سَبقتني وردة المادة، هذا الصباح، وخرجت قبلي لابسة أشعة الغيب.

- 11 –

لطيور النوارس، هنا، أجنحةٌ تبدو كأنها شِبَاكٌ لاصطياد الهواء.

- 12 –

على كَتِفَيْ سِدْرة يتموّجُ منديل الليل. في جِذع نخلةٍ يُبْحِر مركبُ الوقت.

يَحارُ الأفق نفسه في تذوّقِ طعم المكان.

- 13 –

امرأةٌ تَسير وحدها في قاعة الفندق، كأنها تريد أن ترقص. خُذْها بين ذراعيكَ. أيها الليل.

- 14 –

أياميَ الخمسة في عُمان تؤكد لي، هي كذلك، أن الشِعر هو الضوء الوحيد لقياس المسافة بين الإنسان والحقيقة.

- 15 –

أين تَذهبين، أيتها السعادةُ المسافرة؟

تنبَّأْ عَنّي، أيها الفجر.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...