11-11-2017
«عقود الثلاثة أشهر»: غنائم للأغنياء وطوابير انتظار وذلّ للفقراء
باتت عقود التوظيف المؤقتة التي تم إقرارها لتأمين فرص عمل للشباب العاطل من العمل، وتدوير هذه الفرص بين أكبر عدد منهم، غنائم لدى أصحاب القرار في المؤسسات الحكومية؛ لهم الحق في توزيعها على أقاربهم ومعارفهم، مستبعدين الفئة الأكثر احتياجاً إليها من الشباب المستعدين للعمل فعلاً، لا المراهنين على «التفييش»
رغم أن مصاريف ملابسها ومكياجها وجلساتها في المقاهي تعادل أضعاف الراتب الشهري الذي ستحصل عليه، إلا أن داليا، التي تنتظر تخرّجها من كلية الهندسة الزراعية، لم تتعفّف عن عقد العمل المؤقت الذي أمّنه صديق والدها في إحدى المؤسسات الحكومية. ولم تستفسر كثيراً عن طبيعة العمل، لأنه مجرد كلام على ورق. هي واحدة من آلاف يسعون إلى تأمين أحد «عقود الثلاثة أشهر» بكل الوسائل المتاحة.
فهي، ورغم كونها حلاً مؤقتاً للبطالة، تعتبر حلماً للكثيرين ممن فقدوا الأمل في الحصول على عمل بمردود ثابت، خاصة بعد أن تسبّبت الحرب في خسارة المئات لوظائفهم ومصادر أرزاقهم. ورغم أن الموافقة عليها لم تعد مقتصرة على توقيع المحافظ، بل تتطلب موافقة الوزارة المختصة، إلا أن هذا الإجراء لم يغيّر من حقيقة أنها حبيسة الدوائر المحيطة بالمديرين وأعضاء مجلس الشعب والمجالس المحلية.
«الخوف على أولادنا من الجوع والمرض مرافقنا كل أيام السنة، ما بس تلت شهور، بس منركض على العقد المؤقت بلكي بنعيش كم يوم بأمان»، تقول سالمية (35 عاماً) المعيلة لطفلين بعد خطف زوجها منذ سنتين وإيقاف راتبه. وتشرح أنها لا تذكر عدد الأيام التي أمضتها واقفة على أبواب المديرين علّها تستطيع الدخول إلى مكتب أحدهم، ويوافق على منحها عقد عمل مؤقت. وتشرح سالمية كيف أن إحدى المستخدمات «المعتّرات» مثلها، حين لاحظت تردّدها اليومي على مكتب المدير من دون أن تحظى بفرصة لمقابلته، همست لها بأن معظم المنتظرين في المكتب هم من معارف المدير، الذي تصله يومياً توصيات بأسماء، وتبعا لذلك فإن حظوظها في الحصول على العقد معدومة، ما دامت لم تأت بتوصية من أحد المتنفذين. ولعل أكثر العقود وضوحاً في كونها «تنفيعة»، هي عقود عمال الحدائق والنظافة، التي يذهب بعضها لمصلحة نساء وفتيات لا يتوقع منهن بحال من الأحوال العمل بموجبها. وأحد أشهر تلك العقود كان عقداً يجدد كلما انتهى، لمصلحة صحافي معروف، لم يترفّع عن الحصول على راتب شهري بوصفه عامل تنظيفات.
كان المشهد الذي شهدته شوارع اللاذقية مؤخراً، لفتيات لا تتجاوز أعمارهن الثامنة عشرة ونساء في الثلاثينات يرتدين ملابس العمال الزرقاء ويكنسن الشوارع، مشهداً صادماً للبعض. وقد أثار ردود فعل ساخطة من كثيرين، ممن لا يجدون ضيراً في أن توقّع نسائهم أو بناتهم عقود «عمال تنظيف»، لكنهم يرون أن عملهن وفق تلك العقود «خدش لكرامتهن»، و«إهانة للمرأة السورية وإذلال لها». يقول أبو علي (صاحب بقالية): «ما نسوان سوريا يلي بيشتغلوا بالزبالة، في مية شغلة تانية يشتغلوا فيها بدل ما نشوف أعراضنا بالشوارع، ويا حيف على كل رجال قبل زوجتو أو بنتو تكنس الشوارع».
هذه العقود التي تعمل النسوة بموجبها، وتعتبر سابقة في تاريخ المحافظة، لا علاقة لها ببلدية اللاذقية التي تلقّت الهجوم من الرافضين للفكرة، بل هي تتبع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) الذي أطلق مشروع «النظافة ثقافة»، واستقطب العديد من النساء اللواتي جذبهنّ الراتب «الجيد نسبياً» (40 ألف ليرة سورية ــ نحو 80 دولاراً). أما الجميلات، اللواتي كنّ يوقّعن بأصابعهن المطلية الأظافر على العقود المؤقتة، فقد حُرمن هذه المرة من حصتهن، فهذه العقود لا تنفع فيها «الواسطات»، ولا مجال فيها «للتفييش» بوجود قوائم الحضور اليومية. ولذلك، أفسحن في المجال أمام النساء المستعدات للعمل فعلاً، واللواتي هن في النهاية صاحبات الحاجة الحقيقية.
أرامل، مطلقات، ومعيلات لأسرهن نتيجة إصابة أزواجهن أو مرضهم، علاوة على مهجرات لا يجدن ضيراً في الاعتراف بأن أزواجهن يقاتلون مع المسلحين، ولا يعرفن إن كانوا أمواتاً أو أحياءً. كل النساء السابقات استقطبهن المشروع من دون تمييز.
لكنهن كن مضطرات إلى مواجهة تنمّر الناس وإساءاتهم. تقول أم أحمد (35 عاماً): «صاروا يرموا أكياس الزبالة وينفلشوا على الأرض ليزيد الشغل علينا. وأحياناً بعد ما نكون خلصنا شغل يرموا وسخ من جديد لنرجع ننضّف، عدا عن الكلام الجارح، وكأن عم نعمل غلط أو حرام». وتتابع القول: «شو الفرق بين إني نضّف بالبيوت أو نضّف بالشارع؟ بالعكس، يمكن بالشارع أمان أكتر، لأن قدام الناس». وهي فكرة تؤيّدها سناء وليد (موظفة)، التي تقول إنها فوجئت بداية بهذا المشهد غير المعتاد، لكنها سرعان ما نظرت باحترام إلى تلك النساء، اللواتي تصفهن بالشجاعات والشريفات.
وتشير إلى أنهن «اخترن لقمة العيش الشريفة رغم الضغط الذي تعرّضن له من الناس، وتشجيعهن واحترامهن قد يحميان الكثيرات من صاحبات الحاجة من الاستغلال والانحراف». إحدى العاملات تتحدث بفخر عن أنها أخيراً استبدلت سقف بيتها، والذي كان من التوتياء، بسقف من الإسمنت. ولعل كلمة سقف هنا تصلح لتكون تعبيراً مجازياً عن الإنجاز الذي حققه هذا المشروع
المصدر: ريمه راعي- الأخبار
إضافة تعليق جديد