«المهاجران»: نشيـد للمهمشيـن
خلف مقبرة الدحداح، في حي القزازين. هنالك ملجأ، لن يتعرف عليه أصحاب الحي أنفسهم بسهولة. أدراج وسراديب. براميل زرقاء في الممرات لها رائحة شيء قديم رطب. أحرف كبيرة على الجدران تشي برائحة كتابات ممنوعة. لا نوافذ بالطبع، غرف باردة وعارية تفضي إحداها إلى الأخرى. من هنا يبدأ طقس الفرجة، قبل أن ينطق نص »المهاجران«، مسرحية الكاتب البولوني سلافومير مروجيك (١٩٣٠ـ )، بكلمة. لا يتسع المكان لأكثر من أربعين متفرجاً سيتوزعون على مهل ويجدون أنفسهم بمواجهة سريرين مفردين متقابلين و»مهاجر« ممدد على السرير يقرأ. هذا المناخ وحده يجعل المرء على حافة البكاء، هكذا وجدت نفسي؛ أعاني من ضيق في التنفس وخلل في التركيز وشرود، تراودني نفسي في الهرب بعيداً والمشي في الشوارع بلا هدف.
ثرثرة
لا يهم من أين بدأ الحوار بين المهاجريْن اللذين يقطنان في الملجأ، ولا يهم أين انتهى، إذ يبدو كأنه مجرد ثرثرة عبثية بلا هدف، ولا حكاية كبرى تلمّ المشهد. إن فترة ساعتين ونصف الساعة قضاها المتفرجون في ذلك الملجأ هي مقطع من حياة بائسين، مقطع مساو زمنياً للزمن الواقعي، وهو مملوء بكل تفاهة الحياة وثرثرتها وإيقاعها السريع مرة، والثقيل والموقّع بقطرات ماء تدلف من أنبوب في سقف الملجأ مرة أخرى. لكن الثرثرة تعكس روح شخصيتين تقفان كل على حافة، وليس بالضرورة أنهما على طرفي نقيض، فهما في النهاية تحت سقف البناية نفسه، نفسها. السقف الذي يمتلئ بأنابيب المياة المالحة والحلوة وكل ما عداها، وكل ما فوقه مِنْ وقع أقدام المحتفلين والأثرياء وأصحاب الأملاك الذين يعودون لدفء عائلاتهم كل ليلة. الأول مثقف وسياسي (أداه سامر عمران) هارب من نظام بلده، بسبب ضيق من الاستبداد وحاجة إلى حرية التعبير، والثاني مجرد مهاجر (أداه محمد آل رشي بشكل ساحر من فرط الاشتغال على بساطة الشخصية وعفويتها) من أجل المال الذي سيبني له منزلاً في بلده، ويحقق له من العزّ والجاه ما كان يفتقده، إنه مجرد شخص يحلم بالبيت والطعام والنساء، وهو لذلك يفني نفسه في البلد الغريب، يعيش على هامشه لغةً وتفاصيلَ عيش. غير أن هذا الرجل سيشكل مادة لكتاب يعدّه زميله المثقف، ناظراً إليه كما لو أنه فأر تجارب، ونموذجاً للعبد المستلب، الذي يعيش على الهامش، لكن المفارقة أن المثقف نفسه يعيش على الهامش ذاته. يضيّع »العبد« (لا أسماء للشخصيات) فكرة زميله المثقف، كتابه ومشروعه حين يخرج عن المسار المتوقع ويمزق ما جمع من المال ويرميه في وجهه، لحظة حرية مفاجئة، تصل حد محاولة الانتحار، وبذلك يدفع الرجل زميله للخروج عن فكرته، ليعلن هذا بدوره فشل كتابه وفكرته فيمزق أوراق الكتاب المخطوط. لكن هذا الخروج عن المسار لا يعني شيئاً، فكلاهما لا يزال تحت السقف، في الملجأ، يلوكان، كليهما، هذه البهيمية التي يكرران عيشها، كما لو كانا قردين في قفص. »أنا مجرد قرد في قفص«، يقول المثقف، ثم يروح يستشهد بهاملت: »يمكنني أن أسكن قشرة جوزة وأن أكون سيد الفضاءات اللانهائية«. وهو لا يتورع عن وصف نفسه وزميله بالخنزير، والقرد، وسواهما من استعارات حيوانية. لكن الأمر يتخطى كونه استعارة، حين يكتشف المثقف أن زميله اشترى نوعاً من المعلبات لرخص ثمنه، ولم يكن سوى طعام للكلاب، لكن الأمر لا يشكل مفاجأة إلى هذا الحدّ لمن وجد التلهي بقتل الذباب مشهده »الرومانسي« الوحيد في حياته. من السهل أن يجد المرء نفسه غريغوراً كافكاوياً في هذا الملجأ الرهيب فيستأنف حياته كأن شيئاً لم يكن. من السهل أن يجد المرء نفسه قردأ أو خنزيراً أو ذبابة، ويمضي في هناءة العيش، ما الفرق؟!
على حافة الضحك
غير أن كل ذلك سيكون أيضاً على حافة الضحك. أي سرّ يجعل المرء ينوس في اللحظة ذاتها بين ضحك من القلب وقدر من الأسى الشفيف يغمره؟ الضحك يأتي من الوضعية »القردية« لبشر حقيقيين أولاً، ثم من هذه المواجهة الكاريكاتيرية بين لغة المثقف ولغة ابن الشارع، من التصادم وسوء الفهم بينهما. أما الحزن فلعلّه أولاً يأتي من هذا الالتماس المتواصل للآخر، البحث عن الإنسان، والحب الخافت، الذي يفرضه قدر الاجتماع في الملجأ، الذي يجمع بين هاتين الشخصيتين. هذا ما ظل يذكّر بذلك الحوار القاسي بين »خادمتي« جان جينيه، حين تقول الأولى: »أن نحب بعضنا البعض في القرف يعني أننا لا نحب«، فتردّ الثانية: »بالعكس، هذا يعني أننا نحب أكثر من اللازم«. وما بين نظريتي الخادمتين يظل ينوس حوار المهاجرين ويتردد، بين حب وبغض، بين عنف ولحظات شفافية وحب غامر، بين أمل ويأس. العرض عموماً ليس بعيداً عن عوالم جان جينيه، عالم المنبوذين والمهمشين والمشردين. كما أنه ليس بعيداً عن عالم بيكيت، الموزع بين انتظار غودو، ونهاية اللعبة، اللعبة المحكومة أبداً، حتى في أحلى لحظاتها، في العيش تحت سقف في ملجأ سفلي.
كأن العرض، ببساطته الساحرة، نشيد حزن خافت للمهمشين والمقهورين. عرض متبنى بحيث يشعر المرء كأنه نص محلي سوري راهن. وراء العرض سامر عمران مخرجاً وممثلاً ومترجماً للنص عن البولونية، ومحمد آل رشي ممثلاً، أسامة غنم دراماتورج، ورامي فرح مخرج مساعد، ومحمد قزق للديكور.
راشد عيسى
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد