كيف نصنع الديكتاتور؟
«منذ أدائه اليمين الدستورية في 30 يونيو الماضي، لم يقم الرئيس مرسي بأي إجازات خاصة يقضيها مع أسرته... حتى أيام العطلات الرسمية، كان الرئيس مرسي يقضيها داخل القصر الجمهوري من أجل ادارة شؤون البلاد وإجراء المقابلات الرسمية مع الضيوف والمسؤولين.. أخيراً، استطاع الرئيس مرسي الحصول على إجازة 48 ساعة قضى خلالها أول وثاني أيام عيد الفطر مع أسرته بمدينة برج العرب، بعيدا عن مسؤوليات العمل الرسمية، ورغم ذلك لم يستطع الإفلات من 22 اتصالا هاتفيا مع زعماء دول عربية وغربية للتشاور حول الأوضاع الإقليمية والدولية..»،
كان هذا نص الخبر الذي تصدر الصفحة الأولى في جريدة «الاهرام» والهدف واضح.. فكل من يقرأ الخبر لا بد أن يقول لنفسه: «مسكين هذا الرئيس.. إن المهام الثقيلة التي يؤديها لا تترك له الفرصة لكي يستمتع بإجازة ولو يوماً واحداً مع أسرته».
مع أن الحقيقة أن الرئيس مرسي لم يمض في منصبه سوى أسابيع قليلة، وهي فترة لا يحتاج المرء بعدها عادة الى أية إجازة، كما أن الرئيس لا يمسك التليفون بيده ليجرى اتصالاته الدولية وانما لديه معاونون كثيرون سيطلبون له الأرقام، وما عليه بعد ذلك الا أن يتكلم قليلا، وهو مستلق في فراشه أو جالس على مقعد مريح... هذه الأخبار الكاذبة المليئة بالنفاق تتكرر الآن في اطار عملية تصنيع الديكتاتور التي تحدث للأسباب التالية:
أولاً: ماكينة الاستبداد
ورث الرئيس مرسي نظام مبارك بالكامل: أجهزة قمع على استعداد للتعذيب والاعتقال والقتل، وإعلام فاسد كاذب يعتمد على الولاء للنظام بغض النظر عن الكفاءة، وأجهزة حكومية تعودت أن تنفذ تعليمات الرئيس مهما كانت وتتغنى بحكمته. كان المتوقع من أول رئيس منتخب بعد الثورة أن يؤسس لديموقراطية حقيقية، لكنه للأسف حافظ على ماكينة الاستبداد التي ورثها عن مبارك وبدأ يوجهها لمصلحته. فبدلا من رؤساء تحرير الصحف القومية، الذين طالما نافقوا مبارك، عين مجلس الشورى (عن طريق مسابقة غامضة) رؤساء تحرير يدينون بمناصبهم الى «الاخوان المسلمين»، وبدلا من وزير اعلام برتبة لواء، يمنع نقد المجلس العسكري، جاء وزير إعلام «اخواني» ليمنع المسلسلات التي تنتقد «الاخوان».. وبدلا من تعيين محافظين موالين لمبارك تم تعيين محافظين موالين لـ«الاخوان المسلمين»، وبدلا من قانون الطوارئ الذي ارتكب مبارك في ظله جرائم بشعة ضد المصريين يتم الاعداد الآن لقانون طوارئ جديد لخدمة الرئيس مرسي. وقد عرفت من مصادر موثوقة أن كبار الضباط في جهاز أمن الدولة يتوددون الآن لقيادات «الاخوان المسلمين»، يعتذرون عن الجرائم التي ارتكبوها في حقهم أيام مبارك ويعرضون عليهم خدماتهم. إن أجهزة الأمن التي لم تتغير بعد الثورة قد تتحول في أية لحظة الى اداة قمع في يد الرئيس و«الاخوان المسلمين».
ثانياً: الضعف الانساني
مهما كان الانسان متواضعاً فإنه اذا تولى السلطة غالباً ما يكون ضعيفاً أمام النفاق، وشيئاً فشيئاً سوف يصدق كلمات المديح، ويعتبر أنه يستحقها عن جدارة. في كتابه الرائع «ماذا حدث للثورة المصرية؟» يحكي المفكر الكبير جلال أمين تجربته عندما كان أستاذا في الجامعة الأميركية، ففي الأيام التي يلقي فيها محاضراته كان الطلاب يتوافدون على مكتبه ليسألوه أو يطلبوا منه أشياء تتعلق بالدراسة، وبعد أن يقضي لهم طلباتهم، كان هؤلاء الطلاب كثيرا ما يشكرونه بطريقة زائدة أو يمدحونه بإفراط، وهنا يقول الدكتور جلال أمين:
« لاحظت أنني في مثل هذه المواقف تعتريني لبعض الوقت درجة لا يستهان بها من الإعجاب بالنفس والغرور، اذ أصدق ما قيل عني واعتبره صادقاً لمجرد أنني احب ان يكون كذلك».
هذه الدرجة العالية من مراقبة النفس ومقاومة الغرور التي يتمتع بها الدكتور جلال أمين لا تتوفر عند معظم الناس. لقد رأينا كيف ذهب الرئيس مرسي في زيارة عادية الى الصين ليبحث وسائل التعاون معها. فاذا بوسائل الاعلام تصور زيارته على أنها فتح مبين ويتبارى أساتذة العلوم السياسية في شرح الفوائد الكبرى التي ستعم على البلاد والعباد من زيارة مرسي التاريخية للصين. وقد ظهرت فجأة جمعية مجهولة تسمي نفسها منظمة السلام العالمي، وأعلنت أنها قررت منح الرئيس محمد مرسي جائزة السلام العالمي للعام 2012، ونحن نتساءل: لماذا لا تنتظر هذه المنظمة حتى نهاية العام حتى تتأكد من جدارة الرئيس مرسي بالجائزة، بل وماذا فعل الرئيس مرسي أصلا ليستحق أية جائزة، وقد فشل حتى الآن في تقديم أي حل لمشكلات مصر المعقدة المزمنة؟
ان تصنيع الديكتاتور يجري على قدم وساق، وقد بدت على الرئيس مرسي للأسف علامات الاستجابة للنفاق، فرأيناه يطلب قرضاً كبيراً من صندوق النقد الدولي بدون أن يستشير المصريين الذين سيدفعون من أموالهم قيمة القرض وفوائده، وبينما تتقاعس الشرطة عن حماية المصريين وتضطر المستشفيات الى إغلاق أبوابها خوفاً من هجمات البلطجية، لا يجد الرئيس حرجاً في أن يتجول في حراسة ثلاثة آلاف جندي وعشرات الضباط والقناصة، بل انه لم يتحرج كرئيس إسلامي وهو يرى جنود الحراسة يمنعون المصلين من دخول الجامع الذي يصلي فيه. المعنى هنا أن أمن الرئيس أهم بكثير من أمن المواطن. نفس المفهوم الذي كان سائداً أيام مبارك يعاد إنتاجه من أجل الرئيس مرسي...
ثالثاً: التنظيم السري
الرئيس مرسي منتخب من الشعب الا أنه ينتمي الى جماعة «الاخوان المسلمين»، وهي حتى الآن تنظيم سري غامض. كم يبلغ عدد «الاخوان المسلمين» وهل لديهم جناح عسكري، ومن أين يحصلون على الأموال الهائلة التي ينفقونها في الانتخابات، وهل يتلقون تمويلا خارجيا؟ كل هذه أسئلة بلا إجابة لأن «الاخوان المسلمين» يرفضون تقنين أوضاع جماعتهم، وبالتالي فإن المواطن المصري يتعامل مع رئيس منتخب لديه جزء غاطس مجهول. نحن لا نعرف الحدود بين رئاسة الجمهورية ومكتب الارشاد ولا العلاقة بين رئيس الدولة ومرشد «الاخوان»، وبالتالي يظل تنظيم «الاخوان» بمثابة ذراع سرية للرئيس مستعصية على رقابة الشعب ومحاسبة الدولة.. وقد رأينا كيف هاجمت مجموعات منظمة مدينة الإنتاج واعتدت على الإعلاميين المناهضين لـ«الاخوان» ثم سارعت قيادة «الاخوان» ورئاسة الجمهورية بإدانة الهجوم. ما دامت جماعة «الاخوان» غير شرعية وترفض رقابة الدولة، فإن الرئيس مرسي يمتلك تحت إمرته تنظيماً سرياً يستطيع في أية لحظة التدخل بشتى الطرق من أجل إبقاء الرئيس في السلطة.
رابعاً: التراث الديني
الرئيس مرسي إسلامي، ولذلك فهو يستعيد التراث الاسلامي في خطبه ومواقفه جميعاً، وهذا مفهوم. المشكلة ان علاقة الحاكم بالمواطنين في التراث الاسلامي لها مفهومان متناقضان. لقد قدم الاسلام مفهوما ديموقراطياً للسلطة تجلى في حكم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ما أن تولى أبو بكر الحكم حتى ألقى خطبة عظيمة بدأها قائلاً:
«أيها الناس قد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني».
هذه الجملة كانت بمثابة دستور ديموقراطي يعتبر الحاكم رجلا عادياً في خدمة المواطنين ومن حقهم نقده وتقويمه وخلعه من منصبه.. لكن هذا المفهوم العادل سرعان ما يختفي في التاريخ الاسلامي لينادي فقهاء كثيرون بوجوب طاعة الحاكم المسلم حتى ولو كان ظالماً وفاسداً.. هذا المفهوم الاستبدادي البعيد عن صحيح الدين يمهد لصناعة الديكتاتور ويفسر لنا لماذا رفض كثيرون من مشايخ السلفية الثورة ضد مبارك، ولماذا تعاونوا مع أجهزة الأمن، ولماذا أجاز بعض الفقهاء قتل المتظاهرين الذين يطالبون بإقالة مرسي. اذا أراد الرئيس مرسي أن يبقى في السلطة بعد انتهاء ولايته، فإن هؤلاء المشايخ سيؤيدونه غالباً لأن قراءتهم الخاطئة للاسلام لا تعترف بمبدأ تداول السلطة.
خامساً: متلازمة ستوكهولم
اندلعت الثورة وخلعت مبارك وحاكمته وألقت به في السجن لكن بعض المصريين لا زالوا يتعاطفون مع مبارك، بعض هؤلاء المتعاطفين موقفهم مفهوم لأنهم استفادوا من نظام مبارك، لكن الغريب ان هناك مصريين عانوا بشدة من ظلم مبارك وفساده لكنهم مع ذلك يدافعون عنه ويتعاطفون معه. هؤلاء في رأيي مصابون بمرض متلازمة استوكهلوم Stockholm syndrome.. ففي العام 1973 هاجم بعض اللصوص أحد البنوك في استوكهولم وأخذوا أربعة موظفين (ثلاث نساء، ورجل) رهائن لمدة ستة أيام وكانت المفارقة في أن المختطفين بعد إطلاق سراحهم تكونت بداخلهم مشاعر تعاطف وارتباط بالجناة، حتى صار رجال الشرطة بالنسبة لهم أعداء، والخاطفون هم الأصدقاء. ان متلازمة استوكهولم كما تصيب الأفراد تصيب الشعوب التي تتعرض للاستبداد لفترة طويلة. اذ يتعلق بعض الناس بالطاغية مع اعترافهم بظلمه وفساده لكن وجوده في السلطة يمنحهم إحساساً بالأمن، ويكون بالنسبة اليهم الأب الذي يحميهم من شرور العالم، فهم يتعلقون به مهما ظلمهم وقمعهم.. هذا القطاع من المصريين، الذي لا نعرف حجمه، لا يمكن أن يتعامل مع الرئيس باعتباره موظفاً عاماً فهم يشتاقون الى طاغية يحميهم ويقمعهم ويحسون بضعفهم وضآلتهم أمامه. هؤلاء المرضى بمتلازمة استوكهولم بعد أن تأكدوا من أن مبارك لن يعود بدأوا يتعلقون بالرئيس مرسي ويبررون كل أفعاله مهما كانت خاطئة ويصورونه باعتباره زعيما ملهما جاء لينقذ الأمة بحكمته وشجاعته.
في ظل هذه العوامل يتم الآن تصنيع ديكتاتور جديد لمصر. لقد أعلن الرئيس مرسي مراراً أنه يرفض الاستبداد، لكن التجربة علمتنا أن كل من حكم مصر قد بدأ متواضعاً طيباً مدافعاً عن حقوق الناس، ثم تحول شيئاً فشيئاً الى طاغية، ليرتكب أبشع الجرائم من أجل الاحتفاظ بالسلطة. إن الرئيس مرسي يتحول أمام أعيننا من رجل عادى فاز بالانتخابات بفارق ضئيل للغاية، الى زعيم الأمة الملهم والحكيم العظيم ورجل الثورة وبطل السلام، الى آخر هذه الألقاب المزيفة التي أغدقها المنافقون على كل من حكم بلادنا. ان الثورة المصرية قدمت آلاف الشهداء والمصابين من أجل الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، وهذه المبادئ لا يمكن أن تتحقق الا بعد أن نرسخ في الأذهان ان الرئيس مجرد موظف مهمته أن يخدم المواطنين ويجب أن يحاسب بشدة على أخطائه كما يجب أن يتحمل النقد، مهما كان قاسيا أو متجاوزا، لأن الغرض منه الصالح العام... مهمة الثورة الآن في رأيي أن تمنع صناعة طاغية جديد.. عندئذ سنبني الدولة الديموقراطية التي مات من أجلها الشهداء.
علاء الأسواني
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد