«سيرة الغجر» في طبعة سورية
«سيرة الغجر» كتاب من تأليف إيزابيل فونيسكا وترجمة الشاعر السوري عابد إسماعيل صدر حديثاً عن دار التكوين (دمشق 2006). تبدأ هذه «السيرة» بحكاية تحذيرية لأعظم شاعرات أو مغنيات الغجر إذ تسكنها حيرة الإنتماء وغياب الوطن فتسأل: «آهٍ, يا رب, أين أذهب؟ اين أجد الأساطير والأغاني التي تشبه مصيري وأقداري؟ ها زمن الغجر المرتحلين ولى منذ أمد بعيد بغير ذاكرة، وبغير كتابة! غير اني ارى قوافل الطريق الطويل تشعُّ كالماء. فالماء يرتحل لو شاء ان يغني ويتكلّم. لا ينظر الماء الى الوراء، فهو إذ يتكلَّم يفرُّ الى ابعد فأبعد!».
الشاعرة المغنية برونسلافا واجس، وشهرتها «بابوسا» وتعني «الدمية»، عاشت في بولندا، وعندما توفيت في العام 1987 لم يسمع بوفاتها احد، كأنها لم تكن يوماً ولم تولد. فالدمية بابوسا على ما قالت إيزابيل فونيسكا وحدها أرَّخت لطقوس الرقص وعازفي القيثارات الغجرية في ليتوانيا الشمالية وفي بولندا وكرواتيا وفارس والهند والأندلس وبلغاريا وتشيخيا.
بابوسا «الدمية» كبرت وترعرعت في العشرينات من القرن الماضي، حتى اكتُِشفت متلبسة بجرم تعلُّم القراءة والكتابة. وكان ان ضُربت، وأُتلِفت مكتبتها السرية التي كانت تدفن مجلداتها تحت القيثارات الغجرية!
تزوجت بابوسا في الخامسة عشرة من عازف قيثارة عجوز، هو ديونيزي واجس، وإذ لم ترزق بطفل، صار الغناء بديلاً، ومثله نظم الشعر، وتأليف الحكايات الرعوية الطويلة، والرثائيات النازفة في الفقر، والحب المستحيل، والإنسلاخ عن الجذور، والرحيل على الطريق الطويل، واللاعودة الى الوراء، والنزول في محطات اللامكان!
طويلاً غنَّت بابوسا الحنين على الطريق الطويل، وهدَّها السؤال: «إلامَ الحنين ؟ ولا أرض لي ولا وطن؟! فالغجر ليس لهم وطن يحلمون به، او يعودون إليه بعد كثير ترحال. لمَ يتوق الغجر الى ماضٍ لا وجود له؟؟ للغجر طريق طويل يجلجل كقدرٍ لعين بلا ملامح، والغجريات بأقدارهن الملعونة كمثل «أنتيغون» يبكين أشقاءهنَّ الموتى الذين ماتوا بلا طقوس، وغابوا في النسيان. طويلاً استعادت حنجرة بابوسا اغاني الراحلين، وكأنها لا اصل لها سوى الحنين. هو الحنين لا يتبدل ولا يتغير، بل يتكرر، إذ يحكي عن شعب يعيش ما وسعه العيش خارج المكان، يخفي تاريخه في علامات الطريق ويترك للريح ان تبعثر العلامات منه والطريق.
تقول بابوسا: «الغجر يكذبون كثيراً. وهم إذ يكذبون يتوهمون تسلية أنفسهم، ومراوغتها بعبث البقاء. فمعجزة البقاء جعلت الغجر يقاومون كل محاولات التذويب، والانخراط في الجماعات، والقيام بتدوين تاريخهم وما فيه من حكايات.
ومن بولندا ارتحلت بابوسا الى البانيا حيث التقت صدفة بـ «مارسيل» الذي يتحدث بالغجرية، من غير ان يكون غجرياً. كانت بابوسا تحتاج الى مارسيل كدليل في اسفارها الغرب اوروبية. فــمارسيل كان لغوياً يجيد الساموانية والهيريموانية والمورية والفرنسية، والإنكـــليزية والألمانية والإسبانية والقليل من الروسية واليابانية.
كان مارسيل يطرح نفسه كغجري، أمضى حياته وسيطاً متنقلاً بين المستوطنات الغجرية والمؤتمرات الدولية. كان مارسيل يحلم بالغجر أُمة إثنية مستقلة، ويؤلمه تبعثر الغجر في الشتات أكثر من ستمئة عام. وغالباً ما كان مارسيل يندهش من التضامن الخفي بين الغجر، وقاعدة حسن الضيافة التى ابقت الغجر فقراء، لا يتشبثون بممتلكات تتوافر اليوم، ويلاشيها الغد!
وإذ تسأل إيزابيل فونسيكا: «من اين اتى الغجر؟» تعود وتقول يمكن ان يكون وطنهم في اي مكان، فكل مكان يمكن ان يكون وطناً. فالغجر لم يحتفظوا ابداً بمدونات تخصهم ولو ان بعض الملامح الداكنة توحي بأن الهند كانت موطنهم الأصلي. وجاء في كتاب المؤرخ الفارسي حمزة الأصفهاني «تاريخ ملوك الأرض» ان للغجر اسماء كثيرة تضمر في معظمها الإهانة، ومنها: التتار, الكفار، العرب، الأغريق، الأتراك، اليهود، شعب فرعون، الآثينيون، الحمقى. اما هنريتش غريلمان في كتابه الصادر عام 1783 وعنوانه: «اطروحة عن الغجر» فيرى ان هؤلاء استمدوا اصلهم من الهراطقة اليونان.
وإذ حاول غريلمان البحث عن حلقة الأصول، اسس علماً جديداً سماه المؤرخون: «البليونتولوجيا اللغوية»، حول المنشأ المجهول لغجر اوروبا. ولكي يجعل غريلمان نظرية الأصل الغرائبي اقوى تأثيراً رسخ فكرة انماط غجرية من النسوة الغانيات وآكلات الجيف. وهكذا حفل تاريخ الغجر بالخرافات والتكهنات التي انتهت عند الكتاب المقدس. فقيل ان الغجر هم الأحفاد الملعونون لقايين: «عندما، انت، تحرث الأرض فانها لن تمنحك قوتها بل تكون طريداً ومتسكعاً في العالم» على ما جاء في «سفر التكوين» 4:12».
وأشار الغجر انفسهم بصورة مخادعة على ان التسكع في الأرض هي لعنتهم «المقدسة». غير ان المؤسف، هو ان الغجر لم يملكوا كتابا يخصهم. ويقول غجر صربيا: «ان كنيستهم بنيت من الجبن، حتى اذا جاعوا سارعوا الى اكل الكنيسة، كنيستهم».
وترى ايزابيل فونيسكا انه لم يكن للغجر ابطال، ولا اساطير عن التحرر العظيم، وعن تأسيس الأمة، وعن الأرض الموعودة. ليس لديهم رومولوس وريموس، ولا إينياس المقاتل المتجول. ليس لديهم اضرحة او صروح، ولا نشيد، ولا اطلال، ولا كتاب. فحكايتهم مثل كثير الحكايات تدعي الانتماء الى الخط التوراتي. فالغجر يروون كيف انه حكم عليهم ان يجوبوا القفار لأنهم رفضوا ايواء مريم ويوسف ابان خروجهما من مصر؛ ولأنهم «اوحوا» ليهوذا بخيانة المسيح؛ ولأنهم من نسل الكفرة الذين ذبحوا اطفال بيت لحم، ولأنهم دقوا المسامير في رجلي يوشع بن مريم ويديه.
اما الإيمان/ المحور الذي قدسه الغجر فكان الحظ او ما سموه القدر, اذ لا فرق عندهم بين الحظ والقدر. فالغجر لا يملكون خرافات او اساطير حول نشأة العالم او حول اصولهم نفسها: انهم لا يملكون حساً بماضٍ تاريخي عظيم، بل ذكريات أليمة عن حكم النازيين وإبادتهم الجماعية مع اليهود في محرقة « اوشفيتز».
السياسة العرقية النازية كما يؤكد مؤرخ الهولوكوست يهودا بوير: ان قتل الغجر كان مختلفاً عن قتل اليهود، فطالما أن الغجر ليسوا يهوداً، فلا ضرورة لإبادتهم الجماعية. غير انه مع غزو الإتحاد السوفياتي في حزيران (يونيو) من العام 1941 بدأ الإنتقال من القمع والتعذيب إلى إبادة الغجر الجماعية في بولندا وروسيا ومنطقة البلقان بحجة اتهامهم بالجاسوسية. وبلغ عدد قتلاهم 250 الفاً او ما يزيد!
وإذ تنهي إيزابيــل فونيسكا «سيرة الغجر» بهـــولوكوست العالم المعاصر، فإنها تؤكد حق المحرومين الباحثين عن مكان لهم تحت الشمس، وفــــوق الأرض! سيرة الغجر كشف حقيقي عن عذابات هذا العصر، الذي لم يفضح المؤرخون عوالمه السرية ومدوناته الشديدة الحلكة والكثيرة الوحشية.
أمينة غصن
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد