ليت للرومان عيناً لترى
حتى العام 1948 كانت بعض معالم الطريق الرومانية المرصوفة الممتدة بين صور عند الساحل، وبانياس? في طرف الجولان الشمالي الغربي، ما تزال ظاهرة للعيان ضمن مسافة تزيد قليلاً عن الكيلومتر الواحد، ابتداء من مفرق ربّ ثلاثين داخل حارة المحطة المستحدثة في العديسة، وانتهاء بطريق الطيبة القنطرة المعبّدة عند موقع المحيسبات، الذي تردد ذكره كثيراً في وسائل الاعلام المحلية والعالمية اثناء الحرب الاخيرة بين المقاومة الإسلامية والكيان الصهيوني.
على مدى ألفي سنة من الزمن تقريباً ظلت هذه الطريق تشكل شرياناً حيوياً للقوافل التجارية والمكارين، اضافة الى الوظيفة العسكرية التي اقتضت إنشاءها أساساً لتسهيل تحركات الكتائب الرومانية.
والذي حتّم قديماً مرور هذه الطريق في الموقع الذي تقوم عليه العديسة حالياً أمران:
الأول هو وجود نبع غزير دفاق هناك كانت الكتائب العسكرية، والقوافل التجارية، تتوقف عنده للاستراحة او المبيت، والتزوّد بالمياه، والثانية تعذّر مرورها في اي موقع آخر غير هذا الموقع نظراً لوعورة الحافة الشرقية لجبل عامل عند انحدارها نحو الحولة بفلسطين، بين ميس الجبل جنوباً، وديرميماس شمالاً، ما يزيد كثيراً في التفافها وطولها، وينفي عنها الفائدة المرجوة من استعمالها. والمعروف ان أقصر مسافة بين نقطتين هو الخط المستقيم...
سنة 1932 حين شقّت سلطات الإنتداب الفرنسي الطريق الحالية بين مرجعيون وبنت جبيل التهم التخطيط الغشيم مئات الامتار من الطريق الرومانية بين ساحة العديسة الرئيسية ومفرق ربّ ثلاثين.
بعد 16 عاماً، وتحديداً في صيف العام ,1948 وعلى اثر انسحاب ما كان يسمى بجيش الإنقاذ من شمال فلسطين، تقدمت وحدات عسكرية صهيونية داخل الحدود اللبنانية فاحتلت احدى عشرة قرية لبنانية كان بينها ميس الجبل، وحولا، ومركبا، وعديسة، وربّ ثلاثين، والطيبة، ودير سريان الخ...
كانت القيادة الصهيونية يومذاك تشعر ان وجود قواتها في الأراضي اللبنانية مؤقت، وان لا هدف من ورائه سوى تحسين وضعها التفاوضي مع الحكومة اللبنانية حيث ان هذا التقدم لم يتجاوز القشرة الحدودية والى العمق ولذلك لم تكلّف نفسها شق طرقات تسهل حركة هذه القوات، واكتفت باستعمال ما هو موجود منها.
الاستثناء الوحيد الذي احدثه الصهاينة تمثّل في تأهيل الوصلة التي ذكرناها آنفاً من الطريق الرومانية بين طرفي عديسة وربّ ثلاثين، فقد لجأ هؤلاء الى رصف معظمها بطريقة البلوكاج، التي كانت سائدة في ذلك الوقت، واكتفوا بتعبيد خطين منها بالزفت يسمحان فقط بمرور عجلات الآلية، ولا يزيد عرض الخط الواحد عن اربعين سنتمتراً تقريباً. وقد استفادت وزارة الاشغال اللبنانية فيما بعد من هذه الطريق فعبّدتها حسب الاصول وأوصلتها الى داخل ربّ ثلاثين... وبهذا طُمس نهائياً هذا القسم من الطريق الرومانية.
رغم هذا التخريب الذي ألحقه الاسرائيليون يومذاك بمعلم أثري نادر الوجود في لبنان ظل هناك وصلة محدودة من هذه الطريق، بطول ثلاث مئة متر تقريباً، بين طرف ربّ ثلاثين، موقع المحيسبات الى الشمال الغربي منها. عند الطرف الاخير لهذه الوصلة لجأ المهندس القديم الذي اشرف على تخطيط الطريق الى أسلوب التدريج نظراً لشدة الانحدار هناك. بحيث قسّم المسافة الى عدة درجات يقارب عرض الواحدة منها المترين والنصف ولا يزيد ارتفاعها عن العشرين سنتمتراً.
في العدوان الاسرائيلي الاخير شهد موقع المحيسبات معارك ضارية بين عناصر المقاومة الإسلامية ودبابات العدو التي كانت ارتالها تستهدف في تقدمها السيطرة على بلدة القنطرة كواحدة من المعابر الاضطرارية باتجاه وادي الحجير عند الغرب، والالتفاف على بلدة الطيبة من جهتها الجنوبية.
وقد لوحظ ان القوات الاسرائيلية كانت تتحاشى في محاولاتها المريرة للتقدم الطرق المعبدة تحسباً من ان تكون المقاومة قد لجأت الى تلغيمها فكانت تسيِّر في مقدمة ارتال دباباتها الجرافات الثقيلة لفتح طرق إلتفافية عشوائية ما تسبب بأضرار فادحة في كروم الزيتون، والمزروعات، وتكوين الأراضي...
ومن المؤسف ان الوصلة التي كانت ما تزال في منجى من العبث والتخريب حتى هذا الوقت اصابها التجريف الكلي بحيث لم يعد ممكنا التعرف الى موقعها، وكأن اليهود، بوعي منهم او بغير وعي يستوفون بعملهم هذا ثأراً قديماً من تلك الأمة التي بطشت بهم، وفرّقت شملهم، في اربع جهات الأرض قبل 19 قرناً من الزمن.
عبد الحمد بعلبكي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد