بقلم: رياض نجيب الريّس: خمسون عاماًُ على حرب السويس (4 ـ5)
الجمل : بعد نصف قرن ما زال المصريون والعرب يتذكرون «العدوان الثلاثي» على قناة السويس، الذي قامت به القوتان الاستعماريتان في ذلك العصر: بريطانيا وفرنسا، بالتحالف مع إسرائيل وبتحريض منها، وكان ثاني أقصر نزاع عسكري في تاريخ الشرق الأوسط الحديث (كان النزاع الأقصر حرب حزيران/يونيو 1967 فيما بعد). ومع أنه ترك أبشع طعم بالمرارة في ذاكرته، فقد ترك لمصر في الوقت نفسه، أمجاداً وطنية وبطولات رائعة أعادت لذلك الشعب الكثير من الكرامة التي كان قد فقدها في سنوات سابقة من الحكم الملكي والوصاية الاستعمارية البريطانية. كان ذلك نتيجة لمؤامرة حرب فاشلة، وكانت بداية أفول الكولونيالية القديمة.
غزت بريطانيا دولة عربية كان يحكمها رجل وصفه رئيس وزرائها بأنه ديكتاتور يشبه هتلر. هذا الرجل كان يدعم الإرهاب، بقدر ما كان يهدد المصالح الحيوية الغربية في الشرق الأوسط. كان ذلك قبل نصف قرن تماماً، عندما قام أنطوني إيدن بالرد على قرار جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس. هذا العمل يشبه تماماً ما فعله خليفته طوني بلير، بعد خمسين سنة، بغزوه دولة عربية أخرى، هي العراق بتهم مماثلة. في مصر عبد الناصر قامت بريطانيا بغزو مصر من دون علم ودعم أميركا. في عراق صدام حسين قامت بريطانيا بغزو العراق تحت جناح أميركا وبموافقتها. وكانت الحجج الاتهامية للغزو مماثلة لكلا البلدين: الديكتاتورية، تهديد المصالح الغربية، الإرهاب.
يا لها من مفارقة.
كان إيدن، الذي خدم في حكومة ونستون تشرشل وزيراً لخارجية بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، يشبّه عبد الناصر دائماً بهتلر، كما كان يفعل غيره من زعماء بريطانيا (هيو غيتسكيل زعيم حزب العمال مثلاً). كان إيدن ورفاقه من الجيل الذي عرف وعانى من هتلر في ألمانيا النازية وموسوليني في إيطاليا الفاشية. إلّا أن بلير الذي ينتمي إلى حقبة أخرى من التاريخ، استعار بعد نحو خمسة عقود، هتلر من خزانة الأشباح في متحف إيدن ليقارنه بصدام حسين عندما غزا العراق.
كان إيدن يصف للرئيس الأميركي أيزنهاور الوضع في البلاد عند بدء أزمة السويس، بأنه مقلق وأنه «أشد خطراً على البلاد منذ العام 1940». كان إيدن لا يطيق أن يتذكر «عار ميونيخ»، عندما هادنت حكومة بريطانيا بزعامة نيفيل تشامبرلين، النازيين، في لقاء مع هتلر في ميونيخ في منتصف الثلاثينيات. مما اضطر إيدن للاستقالة منها في العام 1938. وأدّت هذه المهادنة إلى توسع هتلر في شرق أوروبا، وإلى الحرب العالمية الثانية، التي تلت ذلك. وإذا ببلير، بعد نحو خمسين سنة، يستعير من خزانة إيدن مجدداً شبح «عار ميونيخ»، ليقول قبل أيام من غزو العراق إن بريطانيا ستواجه «كابوساً مرعباً» لا تستطيع تحمله إذا هادنت صدام حسين. يا للمقارنة!
وخضع بلير، كما خضع إيدن من قبله، إلى قراءة مغلوطة للتاريخ، عادة ما تصيب القادة السياسيين في أوقات الأزمات. ونتيجة لهذه القراءة المغلوطة أصرّا على الاستمرار بمغامراتهما العسكرية، أخفى كل من إيدن وبلير عن زملائهما في الحكومة، حقيقة ما كان يعد له ويجري في كل من مصر والعراق. إيدن أخفى عن وزرائه تواطؤه مع فرنسا وإسرائيل في العمليات العسكرية ضد مصر لإسقاط نظام عبد الناصر. وبلير أخفى عن وزرائه وعن نواب حزبه ما كان قد اتفق عليه مسبقاً بصفته الشخصية مع الرئيس الأميركي جورج بوش، بأنه سيشارك مع القوات الأميركية في غزو العراق، من قبل أن يستشير زملاءه ومضللاً مجلس العموم. وكما إيدن، كما بلير، أقنعا أنفسهما بالاعتماد على معلومات استخباراتية «ملعوب فيها» غير موثقة وغير مقنعة.
كانت الآراء في أوساط الحكومة البريطانية في «هوايتهول» أن غزو مصر كان خطأ، لا مبرر قانونياً له. يضاف إلى ذلك خديعة التواطؤ التي لم تكن معروفة عند الغزو في حينه. وهذا مما سبب مزيداً من القلق والتجاذب في تلك الأوساط، إضافة إلى التعتيم الذي كان قد فرضه إيدن على السياسيين وكبار المسؤولين الحكوميين. إلى درجة أن وزارة الخارجية البريطانية كانت شبه معطلة في أحرج الأوقات. وكان هارولد بيلي، كبير الديبلوماسيين في وزارة الخارجية وأول سفير لبريطانيا في مصر بعد عودة العلاقات عند انتهاء أزمة السويس، يقول: «إن مجرد الفكرة باتخاذ قرار بهذه الخطورة والأهمية (أي غزو مصر) من دون الاستعانة بآراء محامين في القانون الدولي، وخبراء في شؤون الشرق الأوسط، كان أمراً فظيعاً وغير عادي».
ويقول دونالد لوغان، سكرتير سلوين لويد الذي حضر اجتماعات «سيفر» السرية، إن إيدن كان يعقد الاجتماعات مع مجموعة صغيرة محيطة به من دون تسجيل أي محاضر. وكانت هذه المجموعة المحيطة بإيدن كلها تؤمن بأن عبد الناصر هو هتلر آخر يجب إيقافه. وسيقت اتهامات مماثلة ضد بلير في بدء الحرب على العراق من قبل اللورد بتلر، المسؤول الحكومي الذي كُلّف التحقيق في صحة تقارير المخابرات البريطانية عن العراق، التي كانت تقدم لبلير.
وللمقارنة مجدداً، اصطدمت حكومة بلير بهيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي.) في العام 2003، كما اصطدمت بها حكومة إيدن في العام 1956. وفي كلتا الحالتين حاولت الحكومة الضغط على الإذاعة البريطانية لوقف تغطية الأخبار والتعليقات والأحاديث المنتقدة لسياسة الحكومة. وحاولت إصدار قانون يعطل استقلالية الإذاعة، لكنها فشلت كسابقتها من قبل. وكان لورد مونتباتن، أمير البحر وقائد البحرية البريطانية السابق، وابن عم إليزابيت، ملكة بريطانيا (الذي اغتاله جيش التحرير الإيرلندني في السبعينيات) يقول تعليقاً على حرب السويس في العام 1956 «لا يمكنك محاربة الأفكار بواسطة الجيوش والسلاح».
كذلك كان اللورد بويس، رئيس هيئة أركان الحرب البريطانية يبدي قلقه علناً في معرض تعليقه على حرب العراق في العام 2003، لعدم شرعية الغزو البريطاني للعراق والفشل التام في الاستعداد لما ستؤدي إليه نتائج هذه الحرب. وإذا كانت كل من حرب السويس وحرب العراق قد أدتا إلى إشكالات ضخمة في الرأي العام المحلي والعالمي، فقد أدّتا أيضاً إلى انقلاب خطير في عالم المخابرات وجمع المعلومات. فالمخابرات البريطانية (MI6) اصطدمت بشخص مديرها عندما طلب إيدن منه السعي إلى إسقاط عبد الناصر ونظامه. وكذلك اصطدم بلير بعد نصف قرن بالمخابرات البريطانية ذاتها عندما طلب منها تأكيد وجود أسلحة دمار شامل في العراق. ونتيجة للأزمتين، ازداد التواصل والتقارب والتنسيق مع المخابرات الأميركية.
قبل خمسين سنة كانت واشنطن تعارض التدخل العسكري، وهذا ما علّم الحكومة البريطانية درساً. وعندما خلف هارولد مكميلان أنطوني إيدن في رئاسة الوزراء، قاد بريطانيا إلى علاقات ثنائية خاصة مع أميركا وحلف دفاعي واضح مشترك. وعندما جاء طوني بلير إلى الحكم، وأزف موعد حرب العراق، استغل بلير هذه العلاقة من دون أي تساؤل أو تردد، للدخول على حصان أبيض مع واشنطن إلى بغداد.
يا للمفارقة!
رياض نجيب الريس
الجمل
الحلقة المقبلة:
المشهد السياسي والمشهد العسكري
رياض نجيب الريس يكتب لـ(الجمل)عن حرب السويس والتاريخ الذي يعيد نفسه
إضافة تعليق جديد