تركيا إلى أين؟ ولماذا هذه العصبية في المواقف من دمشق؟

18-08-2011

تركيا إلى أين؟ ولماذا هذه العصبية في المواقف من دمشق؟

أطلق وزير الخارجية التركية احمد داود اوغلو تحذيره الأخير إلى سوريا. وبات الجميع ينتظر ما ستقوم به حكومة حزب العدالة والتنمية من تدابير ضد «الشقيقة» التي كانت إستراتيجية إلى ما قبل أشهر قليلة، خصوصا أن المهلة المعطاة للرئيس  بشار الأسد تكاد تنقضي، وهي إن لم تكن أياما، كما قال داود اوغلو نفسه بعد عودته من لقاء الأسد، فهي أسبوعان على ما حدّد رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان.
تطور الموقف التركي خلال الأيام الماضية صعودا لم تتجرأ حتى إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما على بلوغ السقف الذي رسمه صاحب نظرية «تصفير المشكلات». وقال «إن لم تتوقف العمليات العسكرية ضد المدنيين فلا كلام بعد الآن».
يعني أن الوزير، الذي نَعَت صحيفة «الفايننشال تايمز» أول من أمس نظريته في تصفير المشكلات، أو أي مسؤول تركي آخر لن يعود إلى محادثة الأسد ولا وزير خارجيته وليد المعلم ولا أي من المسؤولين السوريين. لا يحتمل التصريح أي معنى آخر. وهذا في اللغة الدبلوماسية اللجوء إلى خيارات أخرى لم يتردد مسؤول تركي «رفيع المستوى» لم يتجرأ على ذكر اسمه، بالقول إن من بينها التدخل العسكري «لغايات إنسانية». وهذه بحسب داود اوغلو لا تعتبر تدخلا في الشأن الداخلي للدول الأخرى!.
الاستعداد التركي للتدخل العسكري في سوريا لم يمر مرور الكرام، حتى لدى الكتّاب المؤيدين لحزب العدالة والتنمية وللسياسات الأميركية والإسرائيلية في المنطقة. كلهم من سامي كوهين وإبراهيم قره غول وعلي بولاتش وعاكف ايمري وفكرت بيلا وسميح ايديز وآخرين شرعوا منذ أيام محذرين من التورط التركي في حرب مع سوريا، ستكون الحرب مع إيران جزءا منها، وهو ما سيكسر ثابتة في العلاقات مع إيران عمرها من عمر اتفاقية قصر شيرين في العام 1639 والتي رسمت الحدود بين العثمانيين والصفويين.
تخلو لهجة المسؤولين الأتراك هذه الأيام من أية لغة دبلوماسية. وهو ما يتناقض مع كل الطروحات التي حملتها نظرية العمق الاستراتيجي التي توجب علاقات جيدة مع الجيران قبل البعيدين. وإذا كان حزب العدالة والتنمية قد امتلأ بوهم فائض القوة في الأسابيع الأولى من الثورات العربية إلى حد مطالبة اردوغان الرئيس المصري السابق حسني مبارك بالتنحي فإن «فائض الإخفاق» في السياسة المتبعة تجاه سوريا، ولا سيما في الشهرين الأخيرين، يدفع القيادة التركية إلى اتباع سياسة الهروب إلى الأمام، وتصعيد المواقف النارية، وخلال أيام معدودة مرة على لسان اردوغان وأخرى على لسان داود اوغلو وثالثة على لسان مسؤول رفيع مجهول الاسم، بدلا من اعتماد مراجعة نقدية لمجمل السياسة الخارجية تجاه الجار السوري ومن معه من تيارات ودول إقليمية.
لا يمكن لأحد أن يفسر هذه العصبية في المواقف التركية تجاه سوريا، سوى أنها نتيجة فشل الرهان على تطورات دراماتيكية لم تتحقق، ومنها إسقاط النظام بسرعة كما حصل في تونس ومصر. وبدلا من سياسات متوازنة، اختارت أنقرة الاعتماد على معارضة سورية لم تثبت بعد حضورها، فلعبت بورقة خاسرة منذ البداية.
ولم تنفع حتى الاحتماءات بالمواقف الإقليمية والغربية ولا سيما الأميركية لتبرير الهروب إلى الأمام. كانت تركيا أثناء الحرب الباردة لاعبا أساسيا في الشرق الأوسط، ولكن من خلال أحلاف إقليمية وبين الدول ومارست سياسات الضغوط على العالم العربي ولا سيما حركات المد القومي الناصري من خلال هذه الأحلاف. لكن لم يذكر يوما أنها اتصلت أو نسقت أو استضافت أو دعمت طرفا محليا في دولة عربية ضد أطراف أخرى.
الخطأ الكبير في سياسات حكومة حزب العدالة والتنمية أنها تحولت إلى طرف في الصراعات الداخلية لهذه الدولة أو تلك. فدعت إلى إشراك حركات الإخوان المسلمين في السلطة في مصر وتونس وفي سوريا، ودعت إلى تنحي هذا الرئيس أو ذاك، ودعت مرة إلى أن يتخلص الأسد من بعض أقربائه ولا سيما من أخيه ماهر، واحتضنت المعارضة السورية في أكثر من مؤتمر في اسطنبول. وسعت إلى عدم وصول جلال الطالباني إلى الرئاسة العراقية ونوري المالكي إلى رئاسة الحكومة وتحكمت بسلوك رئيس البرلماني العراقي وما شابه، والأمثلة كثيرة.
إذا كانت تركيا تريد أن تكون لاعبا مؤسسا في نظام إقليمي وعالمي جديد وذات دور مؤثر في المنطقة فهذا لا يستقيم مع استعداء محور بكامله في المنطقة العربية والإسلامية، ولا بإعطاء الدروس تارة لمصر وأخرى لتونس وثالثة لسوريا. بل إن ما فعلته السياسة التركية مؤخرا قد نسف أية فرصة لتكون تركيا لاعبا إقليميا مؤثرا ايجابيا وليس من طريق الاصطفافات التي لا توصل إلى أي دور إيجابي.
إن بناء الثقة بين أنقرة ودول الجوار كان من أهم النجاحات في السنوات الأخيرة، لكن ما فعلته تركيا أخيرا أنها انتقلت من سياسة «تصفير المشكلات» إلى سياسة «تصفير الثقة». وبناء الثقة من جديد إذا ما تمت المحاولة على ذلك غير ممكن بسهولة، بل يحتاج إلى عقود.
إن دعوتنا القيادة التركية إلى التحلي بالعقلانية ومراجعة حساباتها هي دعوة صادقة، لأن المخطط الغربي لا يريد لشعوب المنطقة أن تتعاون وتتلاقى. وأية حرب تركية على سوريا لن تجعل تركيا بمنأى عن شراراتها الإقليمية التي ستدخل المنطقة، ومنها تركيا، في حروب داحس والغبراء. وهذا سيطيح كل ما أنجزته أنقرة في المجال الاقتصادي وسيعرض الكيان التركي إلى مخاطر التقسيم، لا سيما أن المشكلة الكردية مشتعلة، وها هو اردوغان يهدد الأكراد بدفع ثمن غال، محددا ما بعد عيد الفطر مهلة لبدء شن اجتياح عسكري جوي على جبال قنديل في شمال العراق، قد يتطور إلى اجتياح بري.
إن ثمن فشل الرهان على تحولات سورية لا يبرر أن تدفع تركيا ثمنا اكبر لفشل الإخفاق. والمسؤولون الأتراك الذين تعودوا التوسط في المشكلات البينية بين الدول والمشكلات الداخلية كان عليهم أن ينأوا بأنفسهم عن زج أنفسهم في التفاصيل الداخلية لكل بلد. فإزاحة مبارك ليست مسؤولية واشنطن ولا أنقرة، والإصلاح في سوريا ليس مسؤولية واشنطن ولا طهران ولا أنقرة. وعندما سقطت بغداد بيد الأميركيين كتبت انه يوم أسود ليس لسقوط الرئيس الراحل صدام حسين بل لأن سقوطه لم يتم على أيدي الشعب العراقي فذهب العراق إلى الفتنة والتقسيم.
الشعب السوري بحاجة إلى الحرية وإلى الديموقراطية وإلى الإصلاح وإلى المشاركة في السلطة لكل أطيافه، لكن ذلك لا يمكن أن يتم بكبسة زر، بل يحتاج إلى خطوات متدرجة حتى لا يتحول إلى عراق آخر وإلى سودان آخر. فغياب الثقافة الديموقراطية عن الشعوب العربية مآله الوحيد انتخابات حرة تفرز برلمانات طائفية وتقسيمات. إن تغيير الذهنية كما يقول اردوغان نفسه هو الأهم. وهو استغرق تسع سنوات قبل أن ينجح في كفّ يد العسكر عن الشأن السياسي، فهل يقبل لو أن أحدا طالبه بالتنحي بعد سنتين أو خمس على وصوله إلى السلطة لأنه لم ينجح في هذا الأمر حينها؟ وهل يقبل أن يسائله احد لماذا فشل حتى الآن في حل قضية الحجاب؟ وهل يقبل مطالبته بالتنحي لأنه فشل حتى الآن في حل المشكلة الكردية؟.
وانطلاقا من كلام لزعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كيليتشدار اوغلو نقول ماذا لو ارتأى وزير خارجية العراق هوشيار زيباري زيارة ديار بكر، ودعا اردوغان إلى وقف سياسة إنكار الحقوق القومية للأكراد الأتراك؟.
من حق كل مواطن سوري أن يكون شريكا في الحياة السياسية، ومن حق كل كردي مثلا في سوريا أن تكون له ليس الجنسية فهذا تحصيل حاصل، بل أن تكون له مدرسته وجامعته ومطبعته وتلفزيونه باللغة الكردية إلى جانب اللغة العربية. من حق كل مواطن أن يكون مواطنا بكل معنى الكلمة بمعزل عن دينه ومذهبه وإثنيته. من هنا كان يمكن للقيادة التركية أن تدخل من الباب العريض خارج التهديدات والإملاءات وتحديد المهل وربما لاحقا الغزو العسكري. كان يمكن لتركيا أن تتدخل لدى المعارضة الســـورية لتقنعها بالجلوس مع النظام في سوريا وأن تقــنع القيادة السورية بالجلوس مع المعارضة لتشكيل طاولة حوار وطني. حتى إذا فشلت في مسعاها لا تذهب إلى القول بأن ســـوريا شأن داخلي تركي لتبرر تدخلاتها في الشأن الداخلي السوري، أو أن تتحرك بجدول أعمال غربي وفقا لكل تصريحات المعارضة التركية.
من حق كل تركي وكل حريص على أن تكون تركيا جزءا إيجابيا من هذه المنطقة أن يتساءل: تركيا إلى أين؟ والمسؤولية التاريخية تفرض على القادة الأتراك أن يخلدوا إلى بعض التأمل وإجراء نقد ذاتي ومراجعة لمكامن الخطأ، لأن المكابرة لا تحجب صورة الثمن الباهظ الذي بدأت تركيا تدفعه.

محمد نور الدين 

المصدر: السفير

التعليقات

كتبتم في بداية صفحةالأخبار عن سورية الجملة التالية:(وتوقف القصف والرصاص في اللاذقية)اتوقف عند كلمة(قصف) وأسالكم أين حصل القصف وما السلاح المستخدم في هذا القصف؟ ومن اين مصدر الخبر او الجملة آنفة الذكر؟؟؟؟؟؟؟ (الجمل): لم نذكر كلمة قصف! يرجى تحديد الخبر

جريدة السفير إلى اين؟ طلال سلمان إلى أين؟ الرياض إلى أين؟ الدوحة إلى أين؟ عمَّان إلى أين؟ المنطقة إلى أين؟ هل نشهد سايكس بيكو جديدة في المنطقة؟

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...