الخفايا الاقتصادية لأسهم الخزينة ودورها في تمويل المتطلبات السورية الحالية
تلجأ الدولة إلى عمليات السوق المفتوحة (بيع وشراء سندات الخزينة) لضبط العرض النقدي، وهو ما يؤثر في عمليات خلق الودائع في المصارف، كما قد تلجأ الدولة إلى بيع سندات الخزينة لتأمين تمويل تحتاجه ولاسيما في الوضع الحالي في سورية.
وقد تم إجراء عدّة مزادات على أذونات وسندات الخزينة بناء على أحكام المرسوم التشريعي رقم 60 لعام 2007 والتعليمات التنفيذية الصادرة بالقرار رقم 1329 تاريخ 2008 وعلى دليل إجراءات الأوراق المالية وعلى تعليمات وزارة المالية المتضمنة الروزنامة التأشيرية للعام 2011، التي تمّ تعليق العمل بها مؤخراً.
فهل نفهم تعليق العمل بالروزنامة التأشيرية لسندات الخزينة الخشية من تقليص الودائع؟ أم إن هناك أسباباً أخرى؟ وخاصة مع بروز حاجة تمويل للدولة في ظل انخفاض الإيرادات وارتفاع مستوى النفقات؟
هذا ما حاولنا الإجابة عنه من خلال الأساتذة الأكاديميين المختصين والخبراء في المجال النقدي والمصرفي، حيث رأى كل منهم الموضوع من زاويته.
حيث قال الدكتور عبد الرحمن ميرو رئيس قسم الإدارة المالية والمصرفية في المعهد العالي لإدارة الأعمال في تصريح خاص إن «عمليات السوق المفتوحة هي عبارة عن عمليات بيع وشراء أوراق مالية (سندات وأذونات الخزانة) التي يقوم بها المصرف المركزي كمحرك وضابط للسياسة النقدية، وغالباً ما يتمّ هذا التدخل بهدف تنشيط السوق أو خفض معدلات التضخم، فتلجأ الحكومة مثلاً إلى تخفيض حجم السيولة الموجودة في السوق عن طريق طرح سندات حكومية لامتصاص هذه السيولة ومن ثم تخفيض معدلات التضخم. وبالعكس تماماً، بهدف تنشيط السوق، يقوم المصرف المركزي بإعادة شراء السندات التي طرحها سابقاً (اتفاقية إعادة الشراء)».
وأضاف ميرو بأنه حتى تكون هذه العملية فعالة فإن حجم السندات وأذونات الخزانة المطروحة لابد أن يكون كبيراً، كما أنه لابد أن تتم عمليات الطرح (أو إعادة الشراء) ضمن إستراتيجية متكاملة للبنك المركزي تهدف إلى دعم التوازن والاستقرار في السوق النقدي، كما أنها تتطلب وجود الخبرات الاقتصادية والنقدية القادرة على الإشراف على هذه العملية.
وبيّن ميرو أن استخدام عمليات السوق المفتوح من المصرف المركزي السوري لابد أن تتم وفق منظور استراتيجي شمولي حتى تحقق هذه الأدوات الأهداف المرجوة منها والمتمثلة كما ذكرنا بسحب السيولة الفائضة أو تنشيط السوق. وأنه من خلال التجارب السابقة في طرح الأوراق المالية الحكومية كان التوجه العام في سورية هو توظيف طرح هذه الأوراق الحكومية في تمويل مشاريع التنمية في القطاعات المختلفة. وبالتالي ربما يشكل هذا النوع من العمليات ممارسات جديدة لابد أن تكون ضمن إستراتيجية متكاملة مضبوطة كي تتوافر عوامل نجاحها.
وأكّد ميرو أن عملية تمويل المشروعات التنموية هي المحرك الأساسي في تحديد ورسم الروزنامة التأشيرية للحكومة السورية ومن ثمّ فإن إعادة النظر في هذه الروزنامة مرتبط بالحاجة الفعلية لتمويل المشروعات التنموية أو تغطية العجز في الموازنة الحكومية، وهو بالفعل ما يعكس الظروف الحالية الراهنة في القطر التي تستدعي إعادة النظر في هذه الروزنامة وفقاً للمستجدات في مجال التنمية والإنفاق الجاري.
وفي سياق متّصل كشف الدكتور مظهر يوسف أستاذ الاقتصاد في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق والخبير في الشؤون النقدية والمصرفية لـ«الوطن» عن أن «الحكومة ممثلة بوزارة المالية أعلنت قرار التوقف عن طرح أذونات وسندات الخزينة بشكل مؤقت لعدم الحاجة إلى سيولة حالياً».
وأضاف اليوسف: إن في مثل هذا الخبر العديد من النقاط الإيجابية فيما يتعلق بالسيولة وبعكس ما يحاول بعض المغرضين تسويقه عن ضعف السيولة وإفلاس الحكومة مالياً، لأن النقطة الأساسية التي تفهم من قرار التوقف عن طرح الأذونات أن الحكومة ليس لديها مشكلة سيولة وأن لديها القدرة على تسديد جميع نفقاتها دون اللجوء إلى الاقتراض عن طريق سندات الخزينة، وهذا يعكس قدرتها على مواجهة كل الأعباء المالية الحالية الإضافية من زيادة الرواتب والأجور ودعم المازوت ونفقات عسكرية ونفقات إعادة بناء ما تخرب....الخ.
وأكّد اليوسف أن حجم السيولة الفائضة في صناديق المصارف ومصرف سورية المركزي زادت على 240 مليار ليرة في منتصف العام الماضي، دعمتها حقيقة أن فائض السيولة لدى المصارف السورية نما بمعدل 12% حتى تاريخ الخامس من تموز من العام الجاري، حيث بلغ الفائض بالليرة السورية وبالقطع الأجنبي ما يقارب 197.6 مليار ليرة سورية.
وبيّن اليوسف بأن فكرة طرح أذونات وسندات الخزينة كان بهدف تمويل المشاريع ذات الأولوية الوطنية المدرجة في الخطط العامة للدولة أي المشاريع الاستثمارية وليس الجارية أي ليست لدفع الرواتب وغيرها من النفقات الأخرى وإنما لإقامة مشاريع.
وأوضح اليوسف أن تحديد كلفة سندات الخزينة في الوقت الحالي يجب أن يتم في ضوء طرح الحكومة السابق لمزادات السندات الحكومية حيث كان معدل الفائدة على هذه الأوراق الحكومية حينها قريبا من 1%، ولكن بعد زيادة معدلات الفائدة على الودائع المصرفية التي يمكن أن تصل إلى 11% في بعض المصارف، فربما أصبحت معدلات الفائدة السابقة منخفضة جداً، متسائلاً بمدى قبول الحكومة بدفع معدلات فائدة أعلى من السابقة على هذه الأوراق الحكومية. ويرى اليوسف بأن طرح الأوراق الحكومية في هذه المرحلة سيشكل عبئاً على كلا الجانبين الحكومي والمصرفي لذلك كان تأجيل هذه الأوراق في مكانه الصحيح، مضيفاً: إنه لو كان لدى الحكومة أزمة سيولة فعلاً لقامت بالاستدانة بغض النظر عن تكاليفها.
وأفاد الدكتور سليمان موصلي أستاذ الأسواق المالية في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق في تصريح خاص لـ«الوطن» بأن «عمليات السوق المفتوحة هي إحدى أدوات السياسة النقدية تستخدمها السلطات النقدية للتأثير في حجم الكتلة النقدية وضبط عرض النقود من خلال بيع وشراء السندات الحكومية حيث إن بيع البنك المركزي لسندات الخزينة سيؤدي إلى انخفاض كمية النقد المتداول في الاقتصاد، ما يعمل على تخفيض القوة الشرائية للأفراد وتقليل حجم الإنفاق الاستثماري وبالتالي ينخفض الإنفاق الاستهلاكي، في حين يؤدي إعادة شراء البنك المركزي لسندات الخزينة إلى أثر معاكس».
وأضاف الموصلي: «عندما طرحت وزارة المالية سندات الخزينة في إصدارها الأول كانت تهدف إلى تمويل مشاريع تنموية، إلا أن انخفاض العائد على تلك السندات (حيث بلغ معدل العائد المرجح على سندات الخزينة لأجل ثلاث سنوات 2.72%) والذي يقلّ عن معدّل التضخّم، جعل المصارف الخاصة تحجم عن شراء سندات الخزينة لذا لجأت وزارة المالية إلى إلزام القطاع المصرفي الحكومي بشراء هذه السندات رغم انخفاض العائد عليها نظراً لتوافر سيولة فائضة لديها، أما الآن وبسبب عدم إلزام الحكومة المصارف العامة بالشراء وبسبب رغبة المصارف بالاحتفاظ بهذه السيولة لديها فإن كلا هذين العاملين نجم عنهما عدم الإقبال على عروض بيع هذه السندات من المصارف العامة والخاصة».
وأكّد موصلي بأنه في الوقت الحالي ليس هناك من مصلحة على مستوى الاقتصاد الوطني بإلزام هذه المصارف بشراء السندات نظراً لأن وزارة المالية ستجد نفسها مضطرة لدفع عائد أعلى على هذه السندات لدفع المصارف لشراء هذه السندات، ولاسيما أن المصارف تدفع معدل فائدة أعلى على الأموال المودعة لديها كما أنها لا تستطيع إلزام المصارف العامة على شراء هذه السندات لما قد يترتب عليه من تعريض هذه المصارف لخطر الإفلاس إن عجزت عن مقابلة سحوبات المودعين.
ويعتقد موصلي أنه ربما قد حان الوقت لطرح سندات إسلامية (صكوك) والتي من أهم مزاياها أن العائد عليها يتوقف على أداء المشاريع الاستثمارية التي تمولها أو اللجوء إلى السوق الدولية لبيع السندات الحكومية للمستثمرين الأجانب على شكل سندات دولية مقيّمة بالدولار، لأن ذلك سيحقق هدفين بنفس الوقت وهما توفير التمويل اللازم لتغطية الإنفاق العام، كما أنه يؤمن القطع الأجنبي في الوقت نفسه إلا أنه يجب الانتباه إلى أن ذلك يستدعي الحصول على تصنيف ائتماني والذي يتوقف عليه مستوى أسعار الفائدة على هذه السندات.
ومن جهته بيّن الدكتور محمد حلبي الرئيس التنفيذي لبنك البركة سورية في تصريح خاص لـ«الوطن»: تعتبر عملية طرح سندات الخزينة من العمليات الدقيقة التي تستوجب تضافر العديد من المعطيات بدءاً من تحضير المشروع أو الغرض من استخدامه، وقيمة هذه السندات وقيمة العائد المتوقع من المشروع ومدى أهميته، ومن ثم تحديد سعر الفائدة واختيار الزمن المناسب للطرح، والجهات المستهدفة التي ستشتري هذه السندات، وعادة ما تكون فوائد سندات الخزينة منخفضة حيث تصنيفها ذات مخاطر متدنية ولها علاقة في درجة تصنيف البلد بشكل عام.
ويرى حلبي أن السبب في تعليق الإصدار قد يعود لمجموعة من العوامل الحكومة أقدر على معرفتها.
وقال الدكتور محمد حمرة أستاذ العمليات المصرفية في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق في تصريح خاص لـ«الوطن»: «لا تزال تجربة سورية في بداياتها فيما يتعلّق بسندات الخزينة ولا يوجد عمق في هذا المجال، يضاف عليها أن المبالغ التي تمّ طرحها حتى الآن لا يعوّل عليها القيام بعمليات تمويل ضخمة وتغطية المشاريع الكبيرة.
وأضاف الحمرة بأنه عندما تصدر الدولة سندات خزينة فهذا يتطلّب أن تقوم المصارف بشرائها، ولكن في ظل الظروف الحالية فإن المصارف تحتاج أساساً إلى قدر أكبر من السيولة.
ويرى الحمرة أن لسندات الخزينة عدّة فوائد منها: امتصاص الكتلة النقدية من السوق وكبح جماح التضخّم، وإعادة استثمار هذه الأموال من الدولة في مشاريع تنموية وبالتالي فإنها تموّل هذه المشاريع الضخمة وتخلق فرصاً لتشغيل العمالة وتحريك الدورة الاقتصادية بشكل عام، وأخيراً فإنها تمثّل ديناً داخلياً وليست بشروط الدين الخارجي التي تكون مجحفة أحياناً.
وكشف مختص في أسواق المال والنّقد فضّل عدم ذكر اسمه أن لجوء الحكومة إلى عمليات السوق المفتوحة من سندات الخزينة وشهادات الإيداع، إنما يكون هدفه الرئيسي ضغط العرض النقدي إلى جانب كونه عملية اقتراض للحكومة فيما لو قامت الحكومة المركزية ببيع سندات الخزينة.
وأضاف أنه عندما يتم اللجوء إلى سندات الخزينة عبر مزادات خاصة ينظمها المصرف المركزي لبيع سندات خزينة للمصارف مثلاً فهذا يعني أن المصارف تقوم بشراء هذه السندات وتتم المعالجة المحاسبية لها من الاحتياطيات الإلزامية لهذه المصارف الموجودة أصلاً في المصرف المركزي، وكما هو معروف فإن ما يتأثر هنا هو عمليّة خلق الودائع أو خلق النقود والتي تعتمد على فكرة المضاعف حيث إن انخفاض الاحتياطيات سوف يؤثر في إيداعات المصارف بشكل مضاعف وهذا ما يقود إلى ضغط العرض النقدي وتقليصه ومن ثمّ يؤثر في مستوى الإنفاق والاستثمار الخاص وله أيضاً آثار مضادة للتضخم.
وبرأيه أن آلية التشدّد أو التقشّف المالي هذه قد لا تناسب الوضع السوري حالياً لكونها تؤثر وبشكل مضاعف في إيداعات المصارف وهو أمر غير مرغوب فيه حالياً في ظل تذبذب موجة سحوبات تكبر وتصغر من يوم إلى آخر، فالمصارف حالياً تسعى إلى توسيع قاعدة الإيداع ولاسيما أنه قد تمّ رفع سعر الفائدة في سورية بشكل لافت للنظر لدعم هذه الحالة، كما تعمل المصارف نوعاً ما على التشدّد في تقديم القروض لتقليص هامش المخاطرة في العمل المصرفي في ظل الظروف الحالية التي يمر بها البلد منذ ما يزيد على أربعة أشهر.
محمد بدر كوجان
المصدر: الوطن
إضافة تعليق جديد